قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( جاء ملَكُ الموتِ إلى
( وفي طريقٍ : إنَّ ملَكَ الموتِ كان يأتي النَّاسَ عيانًا ، حتَّى أتَى )
موسَى عليه السَّلامُ ، فقال له :
أجِبْ ربَّك ،
قال : فلطم موسَى عليه السَّلامُ ،
عينَ ملَكِ الموتِ ففقأها ،
فرجع الملَكُ إلى اللهِ تعالَى ،
فقال : [ يا ربِّ ! ]
إنَّك أرسلتني إلى عبدٍ لك لا يريدُ الموتَ ،
وقد فقأ عيني ،
[ ولولا كرامتُه عليك لشققتُ عليه ] .
قال : فردَّ اللهُ إليه عينَه ،
وقال : ارجِعْ إلى عبدي فقُلْ : الحياةَ تريدُ ؟
فإن كنتَ تريدُ الحياةَ ؛
فضَعْ يدَك على متنِ ثورٍ ،
فما توارت يدُك من شعرةٍ ؛
فإنَّك تعيشُ بها سنةً ،
قال : [ أيْ ربِّ ! ] ثمَّ مه ؟
قال : ثمَّ تموتُ ،
قال : فالآن من قريبٍ ، ربِّ !
أمِتْني من الأرضِ المُقدَّسةِ رميةً بحجَرٍ !
[ قال : فشَمَّه شمَّةً فقبض روحَه ،
قال : فجاء بعد ذلك إلى النَّاسِ خُفيًا ]
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
والله ! لو أني عنده لأريتُكم قبرَه
إلى جانب الطريق عند
( وفي طريق : تحت ) الكثيب الأحمر ) .
_ أخرجه الشيخان وغيرهما وانظر سلسلة
الأحاديث الصحيحة للألباني 3279
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى
عقب هذا الحديث (( قلت : هذا الحديث من الاحاديث الصحيحة المشهورة التي أخرجها الشيخان من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه وتلقته الامة بالقبول ....
ثم قال :
واعلم أن هذا الحديث الصحيح جدا مما أنكره بعض ذوي القلوب المريضة من المبتدعة
– فضلا عن الزنادقة - قديما وحديثا،
وقد رد عليهم العلماء
- على مر العصور -
بما يشفي ويكفي من كان راغبا السلامة في دينه وعقيدته ، كابن خزيمة ، وابن حبان ، والبيهقي ، والبغوي ، والنووي ، والعسقلاني ، وغيرهم .........
إلى أن قال رحمه الله تعالى :
وأرى من تمام الفائدة أن أنقل إلى القراء الكرام كلام إمامين من أئمة المسلمين وحفاظ الحديث، فيه بيان الحكمة من تحديثه
صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث،
قال ابن حبان عقب الحديث :
« إن الله جل وعلا بعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم معلماً لِخلقِهِِ،
فأنزله موضع الإبانة عن مراده،
فبلَّغ صلى الله عليه وسلم رسالته،
وبّين عن آياته بألفاظ مجملة ومفسرة،
عقلها عنه أصحابه أو بعضهم،
وهذا الخبر من الأخبار التي يدرك معناه من لم يُحرَمِ التوفيق لإصابة الحق،
وذاك أن الله جل وعلا أرسل ملك الموت إلى موسى رسالة ابتلاء واختبار، وأمره أن يقول له :
( أجب ربك ) : أمر اختبار وابتلاء،
لا أمراً يريد الله جل وعلا إمضاءه؛
كما أمر خليله صلى الله على نبينا وعليه بذبح ابنه أمر اختبار وابتلاء، دون الأمر الذي أراد الله جل وعلا إمضاءه، فلما عزم على ذبح ابنه
** وتلّه للجبين ** ؛ فداه بالذِّبح العظيم .
وقد بعث الله جل وعلا الملائكة إلى رسله في صور لا يعرفونها؛
كدخول الملائكة على رسوله إبراهيم ولم يعرفهم؛ حتى أوجس منهم خيفة،
وكمجيء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسؤاله إياه عن الإيمان والإسلام،
فلم يعرفه المصطفى حتى ولَّى .
فكان مجيء ملك الموت إلى موسى على غير الصورة التي كان يعرفه موسى
عليه السلام عليها،
وكان موسى غيوراً، فرأى في داره رجلاً لم يعرفه، فشال يده فلطمه، فأتت لطمته على فقء عينه التي في الصورة التي تصور بها،
لا الصورة التي خلَقَهُ اللهُ عليها،
ولما كان المصرح عن نبينا في خبر ابن عباس حيث قال :
( أمَّني جبريلُ عند البيت مرتين ... )
فذكر الخبر، وقال في آخره :
( هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك )
_ حديث حسن صحيح؛ كما قال الترمذي، وصححه جمع، وهو مخرج في "الإرواء" (1/268) ، و"صحيح أبي داود" (417) .
كان في هذا الخبر البيانُ الواضح :
أن بعض شرائعنا قد تتفق ببعض شرائع من قبلنا مِن الأمم .
ولما كان من شريعتنا أن من فقأ عين الداخل دارهُ بغير إذنه، أو الناظر إلى بيته بغير أمره،
من غير جناح على فاعله،
ولا حرج على مرتكبه، للأخبار الواردة فيه،
التي أمليناها في غير موضع من كتبنا ؛
_ قلت : من ذلك كتابه
" الصحيح " ( 7 / 597- 598- الإحسان )
من حديث أبي هريرة بألفاظ متقاربة،
بعضها في"الصحيحين"،
وهو مخرج في "الإرواء" (1428و 2227) .
كان جائزاً اتفاق هذه الشريعة بشريعة موسى بإسقاط الحرج عمّن فقأ عين الداخل داره بغير إذنه، فكان استعمال موسى هذا الفعل مباحاً له، ولا حرج عليه في فعله .
فلما رجع ملك الموت إلى ربه، وأخبره بما كان من موسى فيه؛
أمره ثانياً بأمر آخر أمر اختبار وابتلاء كما ذكرنا قبل، إذ قال الله له :
( قل له : إن شئت، فضع
يدك على متن ثور، فلك بكل ما غطت يدك بكل شعرة سنة ) ،
فلما علم موسى كليم الله صلى الله على نبينا وعليه أنه ملك الموت،
وأنه جاء بالرسالة من عند الله،
طابت نفسه بالموت ولم يستمهل،
وقال : ( فالآن ) .
فلو كانت المرة الأولى عرفه موسى أنه ملك الموت، لاستعمل ما استعمل في المرة الأخرى عند تيقنه وعلمه به، ضدَّ قول من زعم :
« أن أصحاب الحديث حمَّالة الحطب ورعاة الليل، يجمعون ما لا ينتفعون به، ويروون ما لا يؤجرون
عليه، ويقولون بما يبطله الإسلام » ،
جهلاً منه لمعاني الأخبار،
وترك التفقه في الآثار، معتمداً على رأيه المنكوس، وقياسه المعكوس » .
قلت : ما أشبه الليلة بالبارحة !
فهذا الزاعم الطاعن في أصحاب الحديث
هو سلف الغزالي في طعنه فيهم،
وفي أحاديثهم الصحيحة، وما وصفه به ابن حبان من الجهل بمعاني الآثار،
يشبه تماماً جهل الغزالي بها،
وكتابه المتقدم ذكره والنقل عنه مشحون بطعنه في الأحاديث الصحيحة التي لا خلاف عند أهل العلم في صحتها، وقد ختم الكتاب بإنكاره عدة أحاديث صحيحة في إثبات القدر؛
لأنه فهم منها - بفهمه المعكوس والمنكوس -
أنها تفيد الجبر، وتنفي عن الإنسان
الاختيار الذي به كُلِّفَ، وترتب عليه الثواب والعقاب، مشاركاً في هذا الفهم
العامة الجهلة،
ولكنه فرَّ من فهمه الخاطىء إلى ما هو مثله أو أسوأ منه، ألا وهو إنكاره القدر والأحاديث الدالة عليها، وألحق نفسه بالمعتزلة !!
وقد قام بواجب الرد عليه كثير من العلماء والكتَّاب، وكشفوا للناس ما فيه من زيغ وضلال في الحديث والعقيدة والفقه ......
والحافظ الآخر الذي سبقت الإشارة إليه :
هو الإمام البغوي؛ فإنه بعد أن ذكر
أن الحديث : "متفق على صحته "؛
قال رحمه الله :
« هذا الحديث يجب على المرء المسلم الإيمان به على ما جاء به من غير أن يعتبره بما جرى عليه عُرف البشرِ، فيقع في الارتياب؛ لأنه أمرٌ مصدره عن قدرة الله سبحانه وتعالى وحُكمه،
وهو مجادلة بين ملك كريم، ونبي كليم،
كلُّ واحد منهما مخصوص بصفة خرج بها عن حكم عوامِّ البشر،
ومجاري عاداتهم في المعنى الذي خُصَّ به،
فلا يعتبر حالهما بحال غيرهما،
قد اصطفى الله سبحانه وتعالى موسى برسالاته وبكلامه، وأيده بالآيات الظاهرة، والمعجزات الباهرة، كاليد البيضاء، والعصا، وانفلاق البحر، وغيرهما مما نطق به القرآن، ودلّت عليه الآثار، وكل ذلك إكرام من الله عز وجل أكرمه بها،
فلما دنت وفاته - وهو بشرٌ يكره الموت طبعاً، ويجد ألمه حساً -؛
لطف له بأن لم يفاجئه به بغتة،
ولم يأمر الملك الموكل به أن يأخذه به قهراً؛
لكن أرسله إليه منذراً بالموت، وأمره بالتعرض له على سبيل الامتحان في صورة بشرٍ،
فلما رآه موسى استنكر شأنه،
واستوعر مكانه، فاحتجز منه دفعاً عن نفسه بما كان من صكه إياه،
فأتى ذلك على عينه التي ركبت في الصورة البشرية التي جاءه فيها،
دون صورة الملكية التي هو مجبول عليها،
وقد كان في طبع موسى
- صلى الله عليه وسلم -
حمِيَّةٌ وحِدّةٌ على ما قص الله علينا من أمره في كتابه من وكزه القبطي، وإلقائه الألواح،
وأخذه برأس أخيه يجره إليه .
وروي أنه كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته ناراً، وقد جرت سنة الدين بدفع من قصدك بسوء،
كما جاء في الحديث :
( من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم حلّ
لهم أن يفقأوا عينه ) ،
فلما نظر موسى إلى شخص في صورة بشر هجم عليه يُريد نفسه، ويقصد هلاكه،
وهو لا يثبته، ولا يعرفه أنه رسول ربه؛
دفعه عن نفسه، فكان فيه ذهاب عينه،
فلما عاد الملك إلى ربه، ردّ الله إليه عينه،
وأعاده رسولاً إليه؛
ليعلم نبي الله عليه السلام
- إذا رأى صحة عينه المفقوءة -
أنه رسول الله بعثه لقبض روحه، فاستسلم حينئذٍ لأمره، وطاب نفساً بقضائه،
وكلُّ ذلك رفق من الله عز وجل، ولطف منه في تسهيل ما لم يكن بد من لقائه،
والانقياد لمورد قضائه،
قال : وما أشبه معنى قوله :
( ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي
عن نفس المؤمن؛ يكره الموت ... )
_ رواه البخاري ( 6502 ) ، وهو مخرج في
الصحيحة ( 1640 ) .
بترديده رسوله ملك الموت إلى نبيه موسى عليه السلام، فيما كرهه من نزول الموت به،
وقد ذكر هذا المعنى أبو سليمان الخطابي في كتابه رداً على من طعن في هذا الحديث وأمثاله من أهل البدع والملحدين أبادهم الله،
وكفى المسلمين شرهم » .
_ سلسلة الأحاديث الصحيحة
( م 7 ق 2 ص 826 - 835 )
مع شيء من الاختصار .
___________