،،،،،،
بارك الله فيكم أخي الفاضل ( القمر الأخضر ) ، اعلم - يا رعاكم الله - بأن العلم الشرعي يؤخذ من منابعه الأصلية الصافية وهي القرآن والسنة وأقوال علماء الأمة ، ولو تمعنا بادئ الأمر في مسألة الأحرف المقطعة لوجدنا أقوال العلماء فيها على النحو التالي :
قال الرازي : ( اعلم أن الألفاظ التي يتهجى بها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة ) ( تفسير الرازي - 2 / 2 ) 0
وقال - رحمه الله - حيث ذكر القول العاشر في المراد بالأحرف المقطعة : ( العاشر : ما قاله المبرد واختاره جمع عظيم من المحققين - إن الله تعالى إنما ذكرها احتجاجا على الكفار ، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، أو بعشر سور ، أو بسورة واحدة فعجزوا عنه ؛ أنزلت هذه الحروف تنبيها على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها ، وعارفون بقوانين الفصاحة ، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن ، فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند الله لا من البشر ) ( تفسير الرازي - 2 / 6 ) 0
قال ابن كثير : ( وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ إِنَّمَا ذُكِرَتْ هَذِهِ الْحُرُوف فِي أَوَائِل السُّوَر الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا بَيَانًا لِإِعْجَازِ الْقُرْآن وَأَنَّ الْخَلْق عَاجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَته بِمِثْلِهِ هَذَا مَعَ أَنَّهُ مُرَكَّب مِنْ هَذِهِ الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة الَّتِي يَتَخَاطَبُونَ بِهَا وَقَدْ حَكَى هَذَا الْمَذْهَب الرَّازِيّ فِي تَفْسِيره عَنْ الْمُبَرِّد وَجَمْع مِنْ الْمُحَقِّقِينَ وَحَكَى الْقُرْطُبِيّ عَنْ الْفَرَّاء وَقُطْرُب نَحْو هَذَا وَقَرَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيّ فِي كَشَّافه وَنَصَرَهُ أَتَمَّ نَصْر وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخ الْإِمَام الْعَلَّامَة أَبُو الْعَبَّاس اِبْن تَيْمِيَة وَشَيْخنَا الْحَافِظ الْمُجْتَهِد أَبُو الْحَجَّاج الْمِزِّيّ وَحَكَاهُ لِي عَنْ اِبْن تَيْمِيَة ) ( تفسير القرآن العظيم ) 0
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ : ( وَلَمْ تَرِد كُلّهَا مَجْمُوعَة فِي أَوَّل الْقُرْآن وَإِنَّمَا كُرِّرَتْ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي التَّحَدِّي وَالتَّبْكِيت كَمَا كُرِّرَتْ قِصَص كَثِيرَة وَكُرِّرَ التَّحَدِّي بِالصَّرِيحِ فِي أَمَاكِن قَالَ وَجَاءَ مِنْهَا عَلَى حَرْف وَاحِد كَقَوْلِهِ - ص ن ق - وَحَرْفَيْنِ مِثْل" حم " وَثَلَاثَة مِثْل " الم " وَأَرْبَعَة مِثْل " المر " وَ " المص" وَخَمْسَة مِثْل " كهيعص - وَ - حم عسق " لِأَنَّ أَسَالِيب كَلَامهمْ عَلَى هَذَا مِنْ الْكَلِمَات مَا هُوَ عَلَى حَرْف وَعَلَى حَرْفَيْنِ وَعَلَى ثَلَاثَة وَعَلَى أَرْبَعَة وَعَلَى خَمْسَة لَا أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ " ) 0
قال الإمام القرطبي - رحمه الله - في تفسيره عن معاني الحروف المقطعة في أوائل بعض السور : ( اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السور، فقال عامر الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين: هي سر الله في القرآن، ولله في كل كتاب من كتبه سر فهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه، ولا يجب أن يتكلم فيها، ولكن نؤمن بها ونقرأ كما جاءت. وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وذكر أبو الليث السمر قندي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر، وقال أبو حاتم: لم نجد الحروف المقطعة في القرآن إلا في أوئل السور، ولا ندري ما أراد الله جل وعز بها. قلت: ومن هذا المعنى ما ذكره أبو بكر الأنباري: حدثنا الحسن بن الحباب حدثنا أبو بكر بن أبي طالب حدثنا أبو المنذر الواسطي عن مالك بن مغول عن سعيد بن مسروق عن الربيع بن خثيم قال: إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء وأطلعكم على ما شاء، فأما ما استأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه، وأما الذي أطلعكم عليه فهو الذي تسألون عنه وتخبرون به، وما بكل القرآن تعلمون، ولا بكل ما تعلمون تعملون. قال أبو بكر: فهذا يوضح أن حروفاً من القرآن ستر معانيها عن جميع العالم، اختباراً من الله عز وجل وامتحاناً، فمن آمن بها أثيب وسعد، ومن كفر وشك أثم وبعد . انتهى ) ( الجامع لأحكام القرآن ) 0
ونقل الزجـاج عن قطرب قـوله : ( إن سورة البقرة الآية 1 الم و سورة الأعراف الآية 1 المص و سورة الرعد الآية 1 المر و سورة مريم الآية 1 كهيعص و سورة ق الآية 1 ق و سورة يس الآية 1 يس و سورة القلم الآية 1 ن حروف المعجم ذكرت لتدل على أن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف المقطعة التي هي حروف أ ، ب ، ت ، ث ، فجاء بعضها مقطعا ، وجاء تمامها مؤلفا ليدل القوم الذين نزل عليهم القرآن أنه بحروفهم التي يعقلونها لا ريب فيه ) .
ونقل أبو الليث السمرقندي عن بعضهم - ولم يسمه - : ( أن المشركين كانوا يقولون : لا نفقه هذا القرآن ، لأنهم قالوا : سورة فصلت الآية 5 قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ فأراد أن يبين لهم أن القرآن مركب على الحروف التي ركبت عليها ألسنتكـم ، يعني هو على لغتكـم ، وما لكـم لا تفقهون ؟ وإنما أراد بذكر الحروف : تمام الحروف ، كما أن الرجل يقول : علمت ولدي : أ ، ب ، ت ، ث ، . . . وإنما يريد به جميع الحروف ولم يرد به الحروف الأربعة خاصة ) ( تفسير أبي الليث السمرقندي " بحر العلوم " - 1 / 251 ) 0
أما الزمخشري فقد أفاض في بيان هذا المعنى للأحرف المقطعة فقال : ( إنها كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدي بالقرآن وبغرابة نظمه ، وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم - وقد عجزوا عنه عن آخرهم - كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا إن لم تتساقط مقدرتهم دونه ولم تظهر معجزتهم عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات المتطاولة - وهم أمراء الكلام ، وزعماء الحوار ، وهم الحراص على التساجل في اقتضاب الخطب ، والمتهالكون على الافتنان في القصيد والرجز ، ولم يبلغ من الجزالة ، وحسن النظم ، المبالغ التي بزت بلاغة كل ناطق ، وشقت غبار كل سابق ، ولم يتجاوز الحد الخارج من قوى الفصحاء ، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء - إلا لأنه ليس بكلام البشر وأنه كلام خالق القوى والقدر ، وهذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزل ) ( الكشاف - الزمخشري - 1 / 16 ) 0
وقال البيضاوي : إنها ( . . . إيقاظا لمن تحدي بالقرآن ، وتنبيها على أن أصل المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم ) ( أنوار التنزيل وأسرار التأويل - البيضاوي - 1 / 42 ) 0
ثم وصف هذا القول بأنه : ( أقرب إلى التحقيق وأوفق للطائف التنزيل وأسلم من لزوم النقل ووقوع الاشتراك في الأعلام . . . . ) ( المرجع السابق - 1 / 45 ) 0
وقال أبو السعود العمادي : ( وإليه جنح أهل التحقيق ) ( إرشاد العقل السليم - أبو السعود العمادي - 1 / 21 ) 0
وقال ابن كثير - رحمه الله - : ( وقال آخرون : بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن ، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله ، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها ، وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين ، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا ، وقرره الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر ، وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية ) .
ثم قال : ( قلت : ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته ، وهذا معلوم بالاستقراء ، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة ) ثم ذكر أمثلة قال بعدها : ( وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر ، والله أعلم ) ( تفسير ابن كثير - 1 / 37 ، 38 ) 0
وقال الراغب الأصفهاني : ( وقال : - ألم - ذلك الكتاب ، تنبيها أن هذا الكتاب مركب من هذه الحروف التي هي مادة الكلام ) ( مقدمة جامع التفاسير - الراغب الأصفهاني ، ص 105 ) 0
وقال : ( إن المفهوم الأظهر بلا واسطة ما ذهب إليه المحققون من أهل اللغة ، كالفراء وقطرب وهو قول ابن عباس وكثير من التابعين . . . . وهو : أن هذه الحروف لما كانت هي عنصر الكلام ومادته التي تركب منها بين تعالى أن هذا الكتاب من هذه الحروف التي أصلها عندكم ، تنبيها على إعجازهم وأنه لو كان من عند البشر لما عجزتم - مع تظاهركم - عن معارضته ) ( مقدمة جامع التفاسير - الراغب الأصفهاني ، ص 142 ) 0
وقال ابن عاشور : ( إنها سيقت مساق التهجي مسرودة على نمط التعديد في التهجية تبكيتا للمشركين ، وإيقاظا لنظرهم في أن هذا الكتاب المتلو عليهم وقد تحدوا بالإتيان بسورة مثله هو كلام مؤلف من عين حروف كلامهم ، كأنه يغريهم بمحاولة المعارضة ، ويستأنس لأنفسهم بالشروع في ذلك بتهجي الحروف ومعالجة النطق تعريضا بهم بمعاملتهم معاملة من لم يعرف تقاطيع اللغة ، فيلقنها كتهجي الصبيان في أول تعلمهم بالكتاب حتى يكون عجزهم عن المعارضة بعد هذه المحاولة عجزا لا معذرة لهم فيه ، وقد ذهب إلى هذا القول المبرد وقطرب والفراء ، وقال في الكشاف : وهذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزلة . ( وقلت ) : وهو الذي نختاره وتظهر المناسبة لوقوعها في فواتح السور أن كل سورة مقصودة بالإعجاز لأن الله تعالى يقول : سورة البقرة الآية 23 فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فناسب افتتاح ما به الإعجاز بالتمهيد لمحاولته ، ويؤيد هذا القول أن التهجي ظاهر في هذا المقصد فلذلك لم يسألوا عنه لظهور أمره ، وأن التهجي معروف عندهم للتعليم ، فإذا ذكرت حروف الهجاء على تلك الكيفية المعهودة في التعليم في مقام غير صالح للتعليم عرف السامعون أنهم عوملوا معاملة المتعلم لأن حالهم كحاله في العجز عن الإتيان بكلام بليغ .
ويعضد هذا الوجه تعقيب هاته الحروف في غالب المواقع بذكر القرآن وتنزيله أو كتابيته إلا في سورة مريم الآية 1 كهيعص و سورة العنكبوت الآية 1 الم سورة العنكبوت الآية 2 أَحَسِبَ النَّاسُ و سورة الروم الآية 1 الم سورة الروم الآية 2 غُلِبَتِ الرُّومُ ووجه تخصيص بعض تلك الحروف بالتهجي دون بعض ، وتكرير بعضها لأمر لا نعلمه ، ولعله لمراعاة فصاحة الكلام .
ويؤيده أن معظم مواقع هذه الحروف في أوائل السور المكية عدا البقرة على قول من جعلوها كلها مدنية ، وآل عمران ، ولعل ذلك لأنهما نزلتا بقرب عهد الهجرة من مكة ، وأن قصد التحدي في القرآن النازل بمكة قصد أولي .
ويؤيده أيضا الحروف التي أسماؤها مختومة بألف ممدودة مثل الياء ، والهاء ، والراء ، والطاء ، والحاء ، قرئت فواتح السور مقصودة على الطريقة التي يتهجى بها للصبيان في الكتاب طلبا للخفة ) ( التحرير والتنوير - ابن عاشور - 1 / 198 ، 199 ) 0
ونقل الأنباري عن الفراء قوله : ( سورة طه الآية 1 طه بمنزلة ألم ابتدأ الله عز وجل بها مكتفيا بها من جميع حروف المعجم ؛ ليدل العرب إلى أنه أنزل القرآن على نبيه باللغة التي يعلمونها ، والألفاظ التي يعقلونها كي لا تكون لهم على الله حجة ) ( الأضداد - الدكتور محمد بن القاسم الأنباري - ص 404 ، 405 ) 0
يقول سماحة العلامة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز - رحمه الله - في معنى الأحرف التي تكون في بداية بعض السور مثل آلم, وآلمص, إلى ....إلخ ذلك ؟؟؟
( هذه الأحرف اختلف علماء التفسير في معناها والأرجح فيها أنه لا يعلم معناها إلا الله - سبحانه وتعالى -، ولا يجوز أن يبت في معناها إلا بدليلٍ واضح، ولكنها من آيات الله - سبحانه وتعالى – الدالة على أن هذا القرآن العظيم المعجز العظيم الذي هو كتاب الله مركب من هذه الأحرف الذي جعلها الله فواتح لسور ليدل عباده على أن هذا الكلام العظيم بهذه الحروف فيه الدلالة على كل خير, والدعوة إلى كل خير والتحذير من كل شر، وهي من الحروف المعتادة التي ينطق بها الناس، والله تكلم به - سبحانه وتعالى – وهو كلامه - سبحانه وتعالى – لا يشابهه كلام غيره - سبحانه وتعالى – وهو أفضل الكلام وأصدق الكلام ) 0
قول الشيخ سفر بن عبدالرحمن الحوالي - في شرح " العقيدة الطحاوية " :
قَالَ المُصنِّفُ - كتاب العقيدة الطحاوية - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : ( وقول الأصحاب رحمهم الله في الأصول: إن المتشابه: الحروف المقطعة في أوائل السور، ويروى هذا عن ابن عباس ، مع أن هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس، فإن كَانَ معناها معروفاً، فقد عرف معنى المتشابه، وإن لم يكن معروفاً، وهي المتشابه كَانَ ما سواها معلوم المعنى، وهذا المطلوب، وأيضاً فإن الله قَالَ : " مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ " [سورة آل عمران - الآية 7 ] وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العادّين) إهـ .
يقول الشيخ الدكتور سفر - حفظه الله - : ( إذا قال الإمام ابن أبي العز رَحِمَهُ الله ُ: (وقول الأصحاب)، فإنه يعني بالأصحاب الأحناف، لأنه حنفي المذهب، فهو يقول: إن أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله يقولون: إن الراجح في مذهب أبي حنيفة والمختار عندهم: أن المتشابه هو الحروف المقطعة في أوائل السور مثل: (الم، حم، كهيعص، المص، ق، ن) إِلَى آخرها، جمعها بعض العلماء في عبارة (نص حكيم له سر قاطع) فهي النون والصاد والحاء والكاف والياء والميم والقاف والألف والطاء والعين واللام والهاء والسين والراء، هذه الحروف المقطعة التي وردت في أوائل السور، وقول الأصحاب هذا هو مما قيل في معاني الحروف المقطعة، فـ هناك قولان في معنى الحروف المقطعة.
القول الأول : أنها من المتشابه :
فريق يقولون عن الحروف المقطعة - الله أعلم- بمراده، وهذا يروى كما ذكر المصنف، وكما هو في الدر المنثور ، عن عبد الله بن عباس وعلى ذلك عدد من العلماء، كما في تفسير الجلالين فنجده دائماً عند الحرف المقطعة يقول: الله أعلم بمراده، ولا يتكلم فيه أبداً، إنما يكل علمه إِلَى الله. فيقولون: إن المتشابه الذي استأثر الله تَعَالَى بعلمه ولا يعلمه أحد، هو هذه الحروف.
القول الثاني : أن لهذه الحروف معنى :
والفريق الآخر وهم أكثر العلماء يقولون: إن لهذه الحروف معنى، وهذا المعنى اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً، ولم يجمعوا فيه عَلَى قول كما نقل ذلك الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ، ولو ورد ذلك لألزم به الباقون.
إن هذه أسماء للسور، فـ"الم" كأنه اسم للسورة، ومنهم من قَالَ: إن هذه أسماء للقرآن، ومنهم من قَالَ: إنها فواتح يفتتح الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بها القرآن، ومنهم من قَالَ: هي حروف من حروف المعجم ذكرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أول القرآن، أو في أول الآيات، لينبه إِلَى أن القُرْآن مركب من هذه الحروف التي هي حروف المعجم، ومنهم من قَالَ: إن هذه أسماء من أسماء الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
حتى ورد عن بعض السلف أنه قَالَ: آلم، اسم الله الأعظم، وورد عن بعضهم الألف إشارة إِلَى الله، واللام إِلَى اللطيف، والميم إِلَى المجيد، وأمثال ذلك، والأقوال في المسألة اجتهادية، وللإنسان أن يختار ويرجح القول الذي يراه، لكن لو تأملنا الحكمة التي ذكرها العلماء.
هذه الحكمة تدلنا عَلَى المعنى الصحيح -إن شاء الله- كما ذكرها الحافظ ابن كثير -رَحِمَهُ اللَّهُ- واختارها وهي أنها بيان إعجاز القرآن، وبعضهم قَالَ: المقصود منها إثارة الْمُشْرِكِينَ؛ لأنهم يسمعون كلمات غريبة جديدة عَلَى أسماعهم فيصغون ويلقون السمع للقرآن، لكن مما هو معلوم أن في القُرْآن كثير من هذه الحروف المقطعة، كما في البقرة، وآل عمران، وغيرها من السور التي نزلت في المدينة، وهذا مما يضعف هذا القول كقولٍ من الأقوال.
القول الراجح في ذكر الحروف المقطعة :
والقول الذي يختار ويرجح، والذي تظهر حكمته وفائدته جلية إن شاء الله، هو أن نقول: إن هذه الحروف ذكرها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في أوائل السور، وكأنه يقول: إن القُرْآن يتركب من هذه الحروف، فهل تستطيعون أن تأتوا بمثله -لن تستطيعوا أن تأتوا بمثله- فآمنوا به، فإنكم لن تأتوا بمثله أبداً، ويرجح هذا القول: أن هذه السور التي وردت فيها هذه الحروف المقطعة عددها تسع وعشرون سورة، وأنها تشتمل عَلَى ما يدل عَلَى أن القُرْآن من عند الله، وينفي أقوال الْمُشْرِكِينَ بأنه مفترى، وتأتي فيها الإشارة إِلَى هذا القرآن، عقب ذكر هذه الحروف المقطعة، وهذا مما هو معلوم عند الجميع.
مثلاً: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:1, 2] آلم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ [آل عمران:1-3]. يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يّـس:1، 2] حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غافر:1، 2] حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الدخان:1، 2] ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [صّ:1] ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [قّ:1].
فلو تأملنا لوجدنا أن هذا المعنى ظاهر، وهو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يأتي بما يدل في السورة -ولكن غالبها يأتي عقب هذه الحروف المقطعة- أن هذا القُرْآن من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه الحروف هي من كلام البشر العربي عموماً، فكلام أبلغ البلغاء وأقلهم بلاغة يتركب في هذه الحروف، وهذا القُرْآن أنزله الله تَعَالَى مركباً من هذه الحروف التي تقولونها، ومع ذلك فلن تستطيعوا أن تأتوا بمثله، ولو اجتمع الجن والإنس عَلَى ذلك، ولو كَانَ بعضهم لبعض ظهيراً، أو استعانوا أيضاً بمن شاءوا ممن عداهم لا يمكن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، بل ولا بعشر سور، بل ولا بسورة من مثله.
فهذا دليل عَلَى أن هذه الحروف لها حكمة واضحة، وأن هذا يعين عَلَى فهم معناها، بمعنى أنه لا يشترط أن نقول: النون لها معنى خاص، أو القاف لها معنى خاص، الحكمة من ذكرها تشير أو تدل عَلَى المراد، وهو أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يصدر كتابه بهذه الحروف للدلالة عَلَى ما قلنا: إن القُرْآن يتركب منها، ومن يريد أن يكذب ويقول: أن هذا ليس من عند الله، كما قيل: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ [الشعراء:210] وقيل: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل:103] وقيل: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا [الفرقان:5] وأمثال ذلك فهذه هي حروف القُرْآن التي تقولونها وتستخدمونها، فهل تستطيعون أن تأتوا بمثله؟!
فتوى [ مركز الفتوى ] :
( فإن هذه الحروف من مظاهر إعجاز القرآن الكريم، وفيها إشارة إلى أن القرآن الكريم مركب من جنس هذه الأحرف التي يكوِّن منها العرب كلامهم، ومع ذلك فإنهم يعجزون عن أن يصيغوا منها مثل هذا القرآن.
قال ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية: وإلى هذا وقعت الإشارة بالحروف المقطعة في أوائل السور، أي أنه في أسلوب كلامهم وبلغتهم التي يخاطبون بها، ألا ترى أنه يأتي بعد الحروف بذكر القرآن كما في قوله تعالى: الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ.{البقرة: 1-2** الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ. {آل عمران: 1-2** المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ. {الأعراف: 1-2** الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ {يونس: 1** وكذلك الباقي، فنبههم أن هذا الرسول الكريم لم يأتكم بما لا تعرفونه؛ بل خاطبكم بلسانكم.
وقال الشنقيطي في أضواء البيان في بداية تفسيره لسورة هود: أما القول الذي يدل استقراء القرآن على رجحانه فهو أن الحروف المقطعة ذكرت في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وحكى هذا القول الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، وحكاه القرطبي عن الفراء وقطرب، ونصره الزمخشري في الكشاف. قال ابن كثير: وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية، ووجه شهادة استقراء القرآن لهذا القول أن السورة التي افتتحت بالحروف المقطعة يذكر فيها دائما عقب الحروف المقطعة الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وأنه الحق الذي لا شك فيه، وذكر ذلك بعدها دائما دليل استقرائي على أن الحروف المقطعة قصد بها إظهار إعجاز القرآن وأنه حق. انتهى كلام الشنقيطي.
وعليه، فليس في هذا المعنى ما يطعن به في القرآن، بل إن العكس هو الصحيح، فإنها تدل على إعجاز القرآن الكريم وعدم قدرة الخلق على الإتيان بمثله . والله أعلم ) 0
وقد آثرت أن أقوم بعرض كلام علماء الأمة في المسألة حتى لا نحيد قيد أنملة عن ذلك ، ومن هنا فالكيفية التي أشرتم إليها يا رعاكم الله مجانبة للصواب وليس عليها دليل من الكتاب أو السنة أو أقوال علماء الأمة 0
أما بالنسبة للكتابة على أجساد المرضى فلا أرى بذلك من باب القاعدة الفقهية :
( سد الذرائع )
ومع أن بعض أهل العلم أجازوا ذلك ومنهم العلامة ابن القيم قديماً ، والعلامة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين - حفظه الله - حديثاً ، وقد نقلت كلاماً مفصلاً في المسألة في كتابي الموسوم :
( && المنهج البقين في بيان أخطاء معالجي الصرع والسحر والعين && )
تحت عنوان :
( كتابة آيات الرقية تحت سرة المريض أو على يده أو مناطق متفرقة من جسده )
وهو على النحو التالي :
يستشهد البعض بقول ابن القيم - رحمه الله تعالى- عن شيخه ابن تيمية - رحمه الله - : ( أنه كان يكتب على جبهته :
( وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِى مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِى وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِىَ الأَمْرُ )
( سورة هود – الآية 44 )
وقال : سمعته يقول - ابن تيمية - كتبتها لغير واحد فبرأ ، فقال : ولا يجوز كتابتها بدم الراعف ، كما يفعله الجهال ، فإن الدم نجس ، فلا يجوز أن يكتب به كلام الله تعالى )( الطب النبوي - ص 358 ) 0
ثم أورد ابن القيم - رحمه الله - نماذج لما يكتب من الآيات على الأعضاء المريضة ، لبعض الأوجاع )( الطب النبوي - ص - 358 - 359 ) 0
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن حكم كتابة أوراق فيها القرآن والذكر والصاقها على شيء من الجسد كالصدر ونحوه أو طيها ووضعها على الضرس ، أو كتابة بعض الحروز من الأدعية الشرعية وشدها بجلد وتوضع تحت الفراش أو في أماكن أخرى ؟؟؟
فأجابت – حفظها الله - : ( إلصاق الأوراق المكتوب فيها شيء من القرآن أو الأدعية على الجسم أو على موضع منه أو وضعها تحت الفراش ونحو ذلك ، لا يجوز لأنه من تعليق التمائم المنهي عنها بقوله : ( من تعلق تميمة فلا أتم الله له ) ( السلسلة الضعيفة 1266 ) وقوله : ( إن الرقى والتمائم والتولة شرك ) " صحيح الجامع 632 " ) 0
قال الدكتور ناصر بن عبدالرحمن الجديع : ( والملاحظ أن ابن القيم - رحمه الله - لم يذكر دليلا على الجواز لا من الكتاب ولا من السنة ولا فعل السلف سوى ما ذكره عن شيخه - رحمه الله - 0 لذا فإن الذي أراه في هذه المسألة ، أن الأولى ترك ذلك الفعل ، والاقتصار على الرقية الشرعية الثابتة ) ( التبرك ، أنواعه ، وأحكامه - ص 236 ) 0
قلت وبالله التوفيق :
1)- الأولى بل الصحيح ترك فعل ذلك لعدم ثبوته عن رسول الله وخلفائه وصحابته والتابعين وسلف الأمة 0
2)- إن الجهل في الأمور الشرعية قد تفشى في العصر الذي نعيش فيه ، وقد يكون ذلك الفعل ذريعة للوقوع في محاذير شرعية تؤدي إلى مفاسد عظيمة ، كالوقوع في الكفر والشرك والمعصية بحسب حالها ، ولا بد من تقدير المصلحة الشرعية للقاعدة الفقهية ( سد الذرائع ) 0
3)- لا يمكن أن يفهم ذلك الفعل كما فهم أيام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ونحن جازمين بأن القرن الذي عاش فيه هؤلاء الأعلام أفضل مما نعيشه اليوم ، كما أخبر رسول الله بذلك 0
وأكرر أخي الكبير ومع هذا الخلاف فنحن في هذا المنتدى لا نرى بهذا الفعل ونكتفي بالثابت المأثور عن الرسول ويكفينا في ذلك القاعدة الفقهية العظيمة المشار إليها آنفاً 0
زادكم الله من فضله ومنه وكرمه ، مع تمنياتي لكم بالصحة والسلامة والعافية :
أخوكم المحب / أبو البراء أسامة بن ياسين المعاني 0