قال رحمه الله (دليلُ الخوفِ) يعني دليل كون الخوف عبادة (قوله تعالى ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[آل عمران:185]) هذا الدليل فيه أن الخوف من غير الله منهي عنه، وأن الخوف من الله جل وعلا مأمور به، قال جل وعلا (فَلَا تَخَافُوهُمْ) نهي عن الخوف من غير الله، ثم قال (وَخَافُونِي) وهذا أمر بالخوف من الله جل وعلا، وما دام أن الله جل وعلا أمر بالخوف منه فإنه يصدق على الخوف إذن تعريف العبادة؛ لأنه إذ أمر بالخوف منه فمعنى ذلك أن الخوف منه محبوب له مرضي عنده، فيصدق عليه تعريف شيخ الإسلام للعبادة أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، وهذا ما دام أنه أمر به فمعناه أن الله جل وعلا يحبه، لأنه إنما يأمر شرعا بما يحبه ويرضاه، وفي هذه الآية دليل من النوع الثاني؛ وهو أن الخوف يجب أن يفرد به الله جل وعلا، قال ها هنا (وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فجعل حصول الإيمان مشروطا بالخوف منه جل وعلا، قال (وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)؛ إن كنتم مؤمنين فخافوني ولا تخافوهم، وهذا فيه دليل على إفراد الله جل وعلا بهذا النوع من الخوف، والخوف الذي يجب إفراد الله جل وعلا به، ومن لم يفرد الله جل وعلا به فهو مشرك كافر هو نوع من أنواع الخوف وليس كل أنواع الخوف وهو خوف السر؛ وهو أن يخاف غير الله جل وعلا بما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا، وهو المسمى عند العلماء خوف السر؛ وهو أن يخاف أن يصيبه هذا المخوف منه، أن يصيبه ذلك الشيء بشيء في نفسه-يعني في نفس ذلك الخائف- كما يصيبه الله جل وعلا بأنواع المصائب من غير أسباب ظاهرة ولا شيء يمكن الاحتراز منه، فإن الله جل وعلا له الملكوت كله، وله الملك وهو على كل شيء قدير، بيده تصريف الأمر، يرسل ما يشاء من الخير، و يمسك ما يشاء من الخير، يرسل المصائب، وكل ذلك دون أسباب يعلمها العبد، وقد يكون لبعضها أسباب، لكن هو في الجملة من دون أسباب يمكن للعبد أن يعلمها, يموت هذا، ينقضي عمر ذاك، هذا يموت صغيرا، ذاك يموت كبيرا, هذا يأتيه مرض، وذاك يصيبه بلاء في ماله ونحو ذلك، الذي يفعل هذه الأشياء هو الله جل وعلا، فيُخاف من الله جل وعلا خوف السر أن يصيب العبد بشيء من العذاب في الدنيا أو في الآخرة، المشركون يخافون آلهتهم خوف السر؛ أن يصيبهم ذلك الإله، ذلك السيد، ذلك الولي، أن يصيبهم بشيء كما يصيبهم الله جل وعلا بالأشياء، فيقع في قلوبهم الخوف من تلك الآلهة من جنس الخوف الذي يكون من الله جل وعلا، يوضح ذلك أن عُبَّاد القبور وعباد الأضرحة وعباد الأولياء يخافون أشد الخوف من الولي أن يصيبهم بشيء إذا تُنُقِّص الولي، أو إذا لم يُقَم بحقه.
وقد حُكِيَ لي في ذلك حكاية من أحد طلبة العلم، أنه كان مجتازا مرة مع سائق سيارة أجرة ببلدة (قنطة) المعروفة في مصر التي فيها قبر البدوي؛ والبدوي عندهم معظم، وله من الأوصاف ما لله جل وعلا؛ يعني يعطونه من الأوصاف بعض ما لله جل وعلا، هم اجتازوا بالبلدة فأتى صغير -متوسط في السن- يسأل هذا؛ يسأله صَدقة، فأعطاه شيئا، فحلف له بالبدوي أن يعطيه أكثر، وكان من العادة عندهم أنه من حلف له مثل ذلك فلا يمكن أن يرد، فلا بد أن يعطي؛ لأنه يخاف أن لا يقيم لذلك الولي حقه، فقال هذا -وهو من طلبة العلم والمتحققين بالتوحيد- فقال: هات ما أعطيتك. فظن ذلك أنه يريد أن يعطيه زيادة, فأخذ ما أعطاه وقال: لأنك أقسمت بالبدوي فلن أعطيك شيئا، لأن القسم بغير الله شرك.
هذا مثال للتوضيح ليس من باب القصص لكنه يُوضِح المراد من خوف السر وضوحا تاما.
سائق الأجرة علاهُ الخوف في وجهه، ومضى سائقا وهو يقول: أُسْتُر أُسْتُر، أُسْتُر أُسْتُر. فسأله ذاك قال: تخاطب من؟ قال: أنت أهنت البدوي، وأنا أخاطبه -أي أدعوه- بأن يستر، فإن لم...، فإننا نستحق مصيبة، وسيرسل علينا البدوي مصيبة؛ لأننا أهناه. وكان في قلبه خوف بحيث أنه مشوا أكثر من مئة كيلو ولم يتكلم إلا بأُستر، أستر. يقول فلما وصلنا سالمين معافين توجهت له فقلت: يا فلان أين ما زعمت؟ وأين ما ذكرت من أن هذا الإله الذي تألهونه أنه سيفعل ويفعل؟ فتنفس الصعداء وقال: أصل السيد البدوي حليم !!!
هذه الحالة هي حالة تعلق القلب بغير الله، الذي يكون عند الخرافيين، خوف من غير الله خوف السر، البدوي ميت في قبره، يخشى أن يرسل إليه أحد يقسمه، أو مصيبة في سيارته أو في نفسه، هذا هو خوف السر، وهذا هو الذي جاء في مثل قول الله جل وعلا ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[الأنعام:81], قال (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ) لأنهم يخافون آلهتهم هذا النوع من الخوف، لهذا تجد قلوبهم معلقة بآلهتهم لأنهم يخافونهم خوف السر، وقال جل وعلا مخبرا عن قول قوم هود حيث قالوا لهود ﴿إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾[هود:54]، فهم خافوا الآلهة، عندهم أن الآلهة تصيب بسوء، وكان الواجب على حد زعمهم أن يخاف هذا من الآلهة أن تصيبه بسوء، فقالوا له (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ) يعني بمصيبة في نفسك اختل عقلك، أو اختلت جوارحك أو نحو ذلك، هذا النوع من الخوف هو الذي إذا صرف لغير الله جل وعلا فهو شرك أكبر.
هناك أنواع من الخوف خوف جائز وهو الخوف الطبيعي: أن يخاف من الأسباب العادية التي جعل الله فيها ما يخاف ابن آدم منه، أن يخاف من النار أن تحرقه, يخاف من السبع أن يعدو عليه, من العقرب أن تلدغه, يخاف من ذي سلطان غشوم أن يعتدي عليه ونحو ذلك, هذا النوع خوف طبيعي من الأشياء, لا يُنقص الإيمان؛ لأنه مما جبل الله جل وعلا الخلق عليه.
هناك نوع، خوف محرم, هذا القسم الثالث لأن الخوف أربعة أقسام([1]), قسم منه شركي؛ شرك أكبر, وقسم منه جائز, وقسم محرم وهو أن يخاف من الخلق في أداء واجب من واجبات الله, يخاف من الخلق في أداء الصلاة, يخاف إن قام للصلاة من مجلس يقطنه كثيرون أن يعاب, فإذا خاف هذا الخوف, فإن هذا الخوف يكون محرما, وفي مثله نزل قوله تعالى ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾[آل عمران:173]، وفي قوله﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[آل عمران:185]،لأن الواجب أن يُجَاهَدوا, فإذا خافوهم عن أداء ذلك الواجب, خوف ليس بمأذون به في الشرع وإنما هو من تَسْوِيل الشيطان كما قال ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾[آل عمران:175]، هذا النوع من الخوف محرم, لا يجوز؛ لأن فيه تفويت فريضة من فرائض الله لأجل الخوف, خاف من غير الله لكنه ليس خوف السر, وإنما هو خوف ظاهر, وهذا محرم من المحرمات.
هذه أقسام ثلاثة مشهورة, وبها تجمع مسائل أقسام الخوف، والشرك منه وما ليس بشركي منه, وهذه المسألة مما يكثر فيها اضطراب طلاب العلم؛ لأنه ليس عندهم ضبط, للخوف الذي يحصل به إن صُرف لغير الله جل وعلا الشرك، الذي يوصف به من قام به أنه مشرك، أيُّ خوف هذا؟ هو خوف السِّر, ووصفه وضبط حاله هو ما ذكرته لك من قبل, فكن منه على ذكر وبينة في فهمك لهذه المسألة العظيمة.
الخوف عبادة قلبية موردها القلب، قد يظهر أثره على الجوارح.
(1) لعله يقصد ثلاثة. قال في شرحه لكتاب التوحيد تحت باب(إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه):والخوف من غير الله جل وعلا ينقسم إلى ما هو شرك وإلى ما هو محرم وإلى ما هو مباح فهذه ثلاثة أقسام.
شرح ثلاثة الأصول للشيخ صالح آل الشيخ