العناية بالتخطيط والتدريب
والتأهيل وتطوير القدرات
إن كل عنصر من العناصر الذي حواها العنوان على درجة عالية من الأهمية، ويحتاج إلى مبحث خاص به لبيان أهميته، ودوره الفاعل في التطوير، والتغيير، والرقي بالأمة، ولكن تم دمجها في عنوان واحد لترابط بعضها ببعض بشكل كبير جداً، ومن باب الاختصار في العرض، ويكفي التذكير بها، والإشارة إليها، وهو غرض هذه الدراسة.
إن التخطيط، والتدريب، والتأهيل، وتطوير القدرات من أسس الإدارة الناجحة، وله أهميته البالغة على كافة المستويات، سواء على مستوى الفرد، أو المجتمع، أو الأمة، وأي مجتمع لا يتوافر لديه هذه العناصر المهمة بالمواصفات العلمية، والرؤى الواضحة، فإنه بالتأكيد لا يحقق تقدماً مقارنة بالمجتمعات المتقدمة الأخرى، وسيبقى قابعاً في مؤخرة الركب، يجر ذيول التخلف حتى يفيق من رقدته.
إن هناك تلازماً قوياً لا ينفك البتة، بين التقدم والرقي، وبين هذه العناصر المهمة، ولو رجعت لأسس ومنطلقات التقدم في الدول المتقدمة اليوم، لوجدت أن التخطيط، والتدريب، والتأهيل، وتطوير القدرات، أضحى لديهم من بدهيات العمل الإداري، وتطوير الأفراد، والمجتمعات والأمم، ولذلك فإنه لا يمكن بحال أن تصل إلى القمة، وتتسنم الريادة بين الأمم إذا غفلت عن أهم أسس التطور الكامنة في العناصر السابقة.
وإذا تأملت عنصراً واحداً منها، وهو التخطيط لوجدت أن المتخصصين في مجاله، وأهل العلم والمعرفة، والخبرة يؤكدون على مقولة شائعة، وهي: " إن كل دقيقة نبذلها من وقتنا للتخطيط توفر أربع ساعات عند التنفيذ "، وما ذلك إلاَّ لأهمية التخطيط على مستوى الأفراد، والمؤسسات، والدول، بل حتى على مستوى الأمم، والحضارات، فهذا فقط عنصر واحد مما أشرنا إليه له هذه الأهمية، فكيف ببقية العناصر الأخرى مجتمعة ؟ وهي كل عنصر منها يساند، ويعضد الآخر في التقدم والرقي.
ولو نظرنا وتأملنا في الكثير من الأجهزة الإدارية العامة في المجتمعات الإسلامية اليوم لوجدنا مسميات إدارات للتخطيط، والتدريب، والتأهيل حاضرة في الكثير من الأجهزة الإدارية، ولكن المشكلة تكمن في أنه يغلب عليها الطابع العشوائي، وعدم وجود رؤية، وأهداف واضحة، ولذلك فهي ضعيفة الجدوى، ولا تعمل بالصورة التي يمكن من خلالها الفاعلية، وتحقيق التطور الذي يُنظر إليه، ويجعل هذه الأجهزة تتطور يوماً بعد يوم.
ولعـل ذلك - في رأيي - يعود لسببين رئيسين يكمل أحدهما الآخر، وهما:
الأول: عدم الشعور التام، والإحساس، والقناعة بأهمية هذه العناصر في العمل والتطوير، والرغبة فقط في إدارة الأعمال بأسلوب عتيق عفا عليه الزمن.
الثاني: قلة الإنفاق المالي المخصص لهذه العناصر، مقارنة بالدول المتقدمة التي تنفق عليها مبالغ ضخمة لمعرفتها بجدواها، وتثمين دورها المستقبلي، بل إن المنطق العلمي يقول: كلما زاد الإنفاق المدروس على هذه العناصر زادت الفائدة منها.
وحقيقة نتوقع لو تم إعداد إحصائية دقيقة عن إنفاق الدول المتقدمة على العناصر السابقة مقارنة بالدول النامية، ومنها المجتمعات العربية والإسلامية لشاهدنا الفارق الكبير بين الانفاقين كما هو الحال في الكثير من مقومات الرقي والتطور الأخرى، ولأتضح لنا السر الكامن في تقدم الدول الأوربية، وبعض دول أسيا، وتراجع مجتمعاتنا الإسلامية.
ومن الجدير بالذكر أنه ظهر اليوم، وتحديداً عام (1995م) في الولايات المتحدة الأمريكية ما يعرف بمصطلح: " الفجوة الرقمية " الذي أصبح شائعاً خلال السنوات القليلة الماضية، وهو تعبير يُستخدم للدلالة على تلك الهوة الفاصلة بين الدول المتقدمة، و الدول النامية في مجال الإنفاق على كل العناصر المعينة على التقدم والرقي.
فعلى سبيل المثال لا الحصر: إدخال التقنية الحديثة في أعمال القطاعات الإدارية العامة، وهي ما تسمى اليوم بالحكومة الإلكترونية، نجد أن هناك ضعفاً كبيراً في التواصل مع التقنية في الدول المتطورة الأخرى سواء في أوربا، أو بعض دول آسيا، بسبب ضعف الإنفاق، والميزانيات المخصصة لها، فضلاً عن عدم وجود التخطيط العلمي المدروس من جهة، وفي عدم وجود العاملين الذين هم على قدر من العلم، والفهم، والخبرة لتفعيل هذه التقنية على كافة مستويات الإدارة داخل الجهاز الواحد من جهة ثانية.
ومن الأمثلة أيضاً: ضعف المعاهد، والمؤسسات العلمية المتخصصة في التدريب على حد سواء من حيث البرامج، ومن حيث المدربين، وحتى في الإمكانات المادية الأساسية: من مبان، وآليات، ومعامل خاصة، ولذلك تجد ضعفاً كبيراً في إمكانات العاملين، وخصوصاً القادة الذين يتسنمون مسؤولية التوجيه والإرشاد لعدد من العاملين في الجهاز الإداري، وهذه مشكلة كبرى، بل ربما تجد بعض العاملين في الجهاز الإداري أن قدراته، ورؤيته أكثر وضوحاً، ونضجاً من قائده.
وفي حقيقة الأمر إن الإنسان هو الإنسان في أي مكان، وفي أي وزمان، فقد زوده الخالق سبحانه وتعالى بقدرات، وإمكانات عظيمة، ولكن هذه القدرات تحتاج عوامل، وظروف، وبيئات معينة تساعده على اكتشاف قدراته، ومواهبه، والعمل على تنميتها، وتطويرها، يوماً بعد يوم، وما وصلت إليه الدول المتقدمة من تقدم وتطور اليوم إلا بعنايتهم التامة بكل العوامل، والبيئات، والظروف، التي تجعل من الفرد منتجاً وإيجاباً.
لاشك أن هناك جهوداً تبذل من بعض المؤسسات الخاصة في إنشاء معاهد خاصة في إعداد العاملين، والقادة، وتدريبهم، وتطوير قدراتهم، ولكن هذه الجهود مازالت في إطار ضيق، ومحدود، ولا يحقق الطموحات، ولا الآمال العريضة، ولا يخدم بالشكل المطلوب تطوير الأمة والرقي بها.
وفي ظني أن هناك جملة من العوائق في المجتمعات الإسلامية التي تكون سبباً رئيساً في ضعف تأدية عناصر: التخطيط، والتدريب، والتأهيل، وتطوير القدرات، دورها بالشكل المطلوب، ومن ذلك:
أولاً: التدخل الفردي من قبل بعض القيادات في إصدار توجيهات مرتجلة، وعشوائية، ثم يتم وضعها موضع التنفيذ، وهذا من أخطر العوائق، ويجب أن يحترم مجال التخصص، ومراعاة جانب التخطيط بعيداً عن العشوائية، والآراء الفردية.
ثانياً: قلة وجود مستشارين على قدر من العلم، والدراية، والجراءة في توضيح الحقائق، وبيان الخطأ من الصواب للقادة.
ثالثاً: ضعف تأثير الإعلام في الإشارة إلى مثل هذه العناصر المهمة، وتركيزه فقط على سلبيات تافهة، هي في الأصل نتائج لمشكلات، وليست أسباب حقيقية تفيد في معالجة القضايا.
رابعاً: ضعف قدرات الكفاءات الوظيفية، والعاملين في الأجهزة الإدارية العامة، لضعف وجود معايير جيدة في اختيارهم وتعيينهم.
خامساً: قلة وجود المؤسسات المعنية بالتخطيط، والتدريب، وتطوير القدرات، ذات الكفاية العالية المطلوب.
منطلقات وأسس مهمة:
إذا أردنا الرقي بمجتمعاتنا الإسلامية، واللحاق بركب الدول المتقدمة، فيكون من الأهمية بمكان إعادة النظر بجدية، وحرص كبيرين في الآتي:
أولاً: ضرورة تفعيل إدارات التخطيط، والتدريب، وتأهيل القادة بالشكل العلمي المدروس، وعلى نهج الدول المتقدمة، مع مراعاة العوامل المؤثرة في كل بيئة عن الأخرى.
ثانياً: العناية التامة بتأهيل كافة العاملين في الأجهزة الإدارية العامة، وفي مختلف المستويات الإدارية، ولا يقبل أي شخص إذا لم يكن لديه التأهيل المطلوب.
ثالثاً: أهمية رصد الميزانيات اللازمة للعناصر السابقة، والإنفاق بسخاء في سبيل توافرها، وفعاليتها لأهميتها في تطوير الإنسان القادر على التغيير والرقي بالأمة، مع أهمية ضبط عملية الإنفاق بالطرق العلمية المناسبة.
رابعاً: أهمية إعداد دراسات علمية من قبل جهات متخصصة لمعرفة الواقع الحقيقي لهذه العناصر، ومن ثم إعداد الاستراتيجيات اللازمة للبدء الفعلي في تصحيح مسارها والاستفادة منها.
خامساً: ضرورة متابعة القيادات العليا في المجتمع لهذه العناصر، والإشراف المباشر عليها، والمطالبة بتقديم تقارير علمية لمعرفة مدى فاعليتها.
سادساً: ضرورة التعاون التام بين المجتمعات الإسلامية بعضها بعضاً، وبينهم وبين الدول المتقدمة من جانب آخر، في كل ما يخدم تطوير هذه العناصر مجتمعة.