إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة
بسم الله
-هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة من مكة إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه
1-وذلك أول التاريخ الاسلامي كما اتفق عليه الصحابة في الدولة العمرية كما بيناه في سيرة عمر رضي الله عنه وعنهم أجمعين.
قال البخاري: عن ابن عباس.قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم لاربعين سنة، فمكث فيها ثلاث عشرة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة. وقد كانت هجرته عليه السلام في شهر ربيع الاول سنة ثلاث عشرة من بعثته عليه السلام وذلك في يوم الاثنين
كما رواه الامام أحمد عن ابن عباس أنه قال: ولد نبيكم يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين
2-قال محمد بن إسحاق: وكان أبو بكر حين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فقال له: لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا، قد طمع بأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يعني نفسه، فابتاع راحلتين فاحتبسهما في دار يعلفهما إعدادا لذلك.
3- قالت عائشة أم المؤمنين : كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه رسوله صلى الله عليه وسلم في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت فلما رآه أبو بكر قال:
ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الساعة إلا لامر حدث ! قالت فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أخرج عني من عندك " قال: يا رسول الله إنما هما أهلك ، وما ذاك فداك أبي وأمي ؟ قال: " إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة " قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله ؟ قال: " الصحبة " قالت فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكي.
ثم قال: يا نبي الله إن هاتين راحلتين كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبد الله بن أرقط (وكان على دين الكفار ولم يعرف له إسلام فيما بعد) ، وكان مشركا يدلهما على الطريق ودفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.
4-قال ابن إسحاق: ولم يعلم - فيما بلغني - بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر، أما علي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتخلف حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بمكة أحد عنده شئ يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته. : فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ الخروج ] أتى بأبكر بن أبي قحافة فخرجا من خوخة لابي بكر في ظهر بيته.
5- عن محمد بن إسحاق.قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجرا إلى الله يريد المدينة قال: " الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئا، اللهم أعني على هول الدنيا، وبوائق الدهر، ومصائب الليالي والايام.اللهم أصحبني في سفري.واخلفني في أهلي، وبارك لي فيما رزقتني ولك فذللني.وعلى صالح خلقي فقومني، وإليك رب فحببني، وإلى الناس فلا تكلني، رب المستضعفين وأنت ربي أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السموات والارض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الاولين والآخرين، أن تحل علي غضبك، وتنزل بي سخطك، أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحول عافيتك وجميع سخطك.لك العقبى عندي خير ما استطعت، لا حول ولا قوة إلا بك ".
6-قال ابن إسحاق: ثم عمدا إلى غار بثور - جبل بأسفل مكة - فدخلاه، وأمر أبو بكر الصديق ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر.وأمر عامر بن فهيرة (عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر الصديق، وكان مولدا من مولدي الازد) مولاه أن يرعى غنمه نهاره، ثم يريحها عليهما [ يأتيهما ] إذا أمسى في الغار.فكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره معهم يسمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر.
وكان عامر بن فهيرة يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا.فإذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندهما إلى مكة أتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم يعفي عليه.
7-قال ابن إسحاق: وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما، قالت أسماء: ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا أين أبوك يا أبنة أبي بكر ؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي.قالت فرفع أبو جهل يده - وكان فاحشا خبيثا - فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي ثم انصرفوا.
قال ابن إسحاق: قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف درهم - أو ستة آلاف درهم - فانطلق بها معه، قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة - وقد ذهب بصره - فقال: والله إني لاراه قد فجعكم بماله مع نفسه ؟ قالت: قلت: كلا يا أبة إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا، قالت وأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت يا أبة ضع يدك على هذا المال.قالت فوضع يده عليه فقال: لا بأس إذ كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم، ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك.
8-وان: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج هو وأبو بكر إلى ثور، فجعل أبو بكر يكون أمام النبي صلى الله عليه وسلم مرة، وخلفه مرة.فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إذا كنت خلفك خشيت أن تؤتى من أمامك، وإذا كنت أمامك خشيت أن تؤتى من خلفك.حتى إذا انتهى إلى الغار من ثور قال أبو بكر: كما أنت حتى أدخل يدي فأحسه وأقصه فإن كانت فيه دابة أصابتني قبلك.: ف أنه كان في الغار جحر فألقم أبو بكر رجله ذلك الجحر تخوفا أن يخرج منه دابة أو شئ يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم،
9-و لما سمع عمر البعض يفضل عمر على ابو بكر فقال : والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا أبا بكر مالك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يدي ؟ "
فقال: يا رسول الله اذكر الطلب، فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد، فأمشي بين يديك.فقال: " يا أبا بكر لو كان شئ لاحببت أن يكون بك دوني ؟ " قال: نعم، والذي بعثك بالحق [ ما كانت لتكون من ملمة إلا أحببت أن تكون لي دونك ] فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار،فدخل فاستبرأه، حتى إذا كان [ في أعلاه ] ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة فقال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ [ الجحرة ].
فدخل فاستبرأ ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل.
ثم قال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر.و: كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، فأصاب يده حجر فقال: إن أنت إلا أصبع دميت * وفي سبيل الله ما لقيت (3)
10- قال أبا بكر ونحن في الغار للنبي صلى الله عليه وسلم لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لابصرنا تحت قدميه ؟ فقال: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما " متفق علية
11-وقال البخاري عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار: بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد (موضع بناحية اليمن) لقيه ابن الدغنة (سمي باسم امه - الدغنة - شهد حنينا ثم قدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني تميم.) وهو سيد القارة، فذكرت ما كان من رده لابي بكر إلى مكة وجواره له كما ق عند هجرة الحبشة، إلى قوله فقال أبو بكر: فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله.قالت والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: " إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين: وهما الحرتان. فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع بعض من كان هاجر قبل الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر مهاجرا قبل المدينة.فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي " فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي ؟ قال: نعم.فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر - وهو الخبط - (السمر بضم الميم ضرب من شجر الطلح، وأما الخبط فهو ضرب الشجرة لتناثر ورقها) أربعة أشهر، وذكر بعضهم أنه علفهما ستة أشهر.
12- قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في حر الظهيرة، فقال قائل لابي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ مقبلا ] متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.قالت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أخرج من عندك " فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله.قال: فإنه قد أذن لي في الخروج.فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت وأمي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " نعم " ! قال أبو بكر: فخذ أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن (أي لا آخذها إلا بالثمن).
قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز فصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فلذلك سميت ذات النطاقين (كل شئ شددت به الوسط، وسميت ذات النطاقين: لانها كانت تجعل نطاقا على نطاق، وقيل: كان لها نطاقان، تلبس أحدهما، وتحمل في الآخر الزاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الغار).
قالت ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج (يخرج بالسحر، يقال أدلج: إذا سار في أول الليل، وادلج: إذا سار في آخره) من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت، لا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة (أي غنم فيها لبن) من غنم فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل - وهو لبن منحتهما ورضيعهما - حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.
13-واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الدئل وهو من بني عبد بن عدي هاديا
خريتا (الخريت الماهر الذي يهتدي لآخرات المفازة، وهي طرقها الخفية. ) - والخريت الماهر بالهداية - قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث ليال.وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل (بخارى ).
-14البخارى -قال سراقة بن مالك بن جعشم. : جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس.فقال: يا سراقة إني رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه.
قال سراقة: فعرفت أنهم هم فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة ( ثم قمت فدخلت [ بيتي ] فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهي من وراء أكمة فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت من ظهر البيت، فخططت بزجه (الحديدة التي في أسفل الرمح) الارض وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها ففرت بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الازلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الازلام فجعل فرسي يقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الارض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها فأهويت، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لاثر يديها غبار (الدخان) ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت الازلام فخرج الذي أكره، فناديتهم الامان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع.فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قالا: أخف عنا.فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي رقعة من أدم.ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم (البخاري).
15-ولما رجع سراقة جعل لا يلقى أحدا من الطلب إلا رده وقال: كفيتم هذا الوجه، فلما ظهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى المدينة.جعل سراقة يقص على الناس ما رأى وما شاهد من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما كان من قضية جواده، واشتهر هذا عنه.فخاف رؤساء قريش معرته، وخشوا أن يكون ذلك سببا لاسلام كثير منهم، وكان سراقة أمير بني مدلج ورئيسهم، فكتب أبو جهل - لعنه الله - إليهم: بني مدلج إني أخاف سفيهكم * سراقة مستغو لنصر محمد عليكم به ألا يفرق جمعكم * فيصبح شتى بعد عز وسؤدد قال: فقال سراقة بن مالك يجيب أبا جهل في قوله هذا: أبا حكم والله لو كنت شاهدا * لامر جوادي إذ تسوخ قوائمه عجبت ولم تشكك بأن محمدا * رسول وبرهان فمن ذا يقاومه فكف القوم عنه فإنني * أخال لنا يوما ستبدو معالمه
16-وقال البخاري عن عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام [ إلى مكة ] ، فكسى الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى (صعد إلى مكان عال وأشرف منه على ما تحته ) رجل من اليهود على أطم من آطامهم لامر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول (، يزول بسبب عروضهم له، وفي رواية: يلوح بهم.) بهم السراب فلم يملك اليهودي أن قال بأعلا صوته:
يا معشر العرب (وفي رواية: يا بني قبلة، وهي جدة الانصار: والدة الاوس والخزرج.) هذا جدكم الذي تنتظرون فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الاول فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا فطفق من جاء من الانصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيى أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه.فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك
فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته وسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين.وكان مربدا للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: " هذا إن شاء الله المنزل "، ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجدا.فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنيانه، وهو يقول حين ينقل اللبن:
هذا الحمال لا حمال خيبر * هذا أبر ربنا وأطهر ويقول: لا هم إن الاجر أجر الآخرة * فارحم الانصار والمهاجرة
فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي. وارتجز المسلمون وهم يبنونه يقولون: لا عيش إلا عيش الآخرة * اللهم ارحم الانصار والمهاجرة
: ولم يبلغنا في الاحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الابيات.
17-قال الامام أحمد: عن البراء بن عازب.قال: اشترى أبو بكر من عازب سرجا بثلاثة عشر درهما فقال أبو بكر لعازب: مر البراء فليحمله إلى منزلي.فقال: لا حتى تحدثنا كيف صنعت حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت معه ؟ فقال أبو بكر: خرجنا فادلجنا فاحثثنا يومنا وليلتنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة، فضربت بصري هل أرى ظلا نأوي إليه، فإذا أنا بصخرة فأهويت إليها فإذا بقية ظلها، فسويته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفرشت له فروة وقلت اضطجع يا رسول الله فاضطجع، ثم خرجت أنظر هل أرى أحدا من الطلب فإذا أنا براعي غنم، فقلت لمن أنت يا غلام ؟ فقال لرجل من قريش - فسماه فعرفته - فقلت هل في غنمك من لبن ؟
قال نعم ! قلت هل أنت حالب لي ؟ قال نعم ! فأمرته فاعتقل شاة منها ثم أمرته فنفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته فنفض كفيه من الغبار، ومعي إداوة على فمها خرقة فحلب لي كثبة (كل قليل جمعته من طعام أو لبن أو غير ذلك ) من اللبن فصببت على القدح حتى برد أسفله ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافيته وقد استيقظ، فقلت اشرب يا رسول الله فشرب حتى رضيت، ثم قلت هل آن الرحيل ؟ فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم إلا سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا ؟ قال: " لا تحزن إن الله معنا " حتى إذا دنا منا فكان بيننا وبينه قدر رمح - أو رمحين أو قال رمحين أو ثلاثة - قلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا ؟ وبكيت، قال لم تبكي ؟ [ قلت ] أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك.
فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اللهم اكفناه بما شئت " فسلخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلد ووثب عنها وقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فوالله لاعمين على من ورائي من الطلب، وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر بابلي وغنمي بموضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا حاجة لي فيها " ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق ورجع إلى أصحابه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى قدمنا المدينة [ ليلا ] وتلقاه الناس فخرجوا في الطرق على الاناجير (السطوح) واشتد الخدم والصبيان في الطريق يقولون:
الله أكبر جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء محمد، قال وتنازع القوم أيهم ينزل عليه، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنزل الليلة على بني النجار أخوال عبد المطلب لاكرمهم بذلك " فلما أصبح غدا حيث أمر.قال البراء: أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير أخو بني عبدالدار، ثم قدم علينا ابن أم مكتوم الاعمى أحد بني فهر، ثم قدم علينا عمر بن الخطاب في عشرين راكبا، فقلنا ما فعل رسول الله ؟ قال هو على أثري، ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه.قال البراء: ولم يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قرأت سورا من المفصل (متفق علية)
18- وقال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثا ومعه أبو بكر، وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن رده عليهم، فلما مضت الثلاث وسكن عنهما الناس، أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيريهما وبعير له، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما (ما تعلق بن السفرة وغيرها) فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس فيها عصام، فتحل نطاقها فتجعله عصاما ثم علقتها به.فكان يقال لها ذات النطاقين لذلك.
: فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم له أفضلهما ثم قال: اركب فداك أبي وأمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لا أركب بعيرا ليس لي " قال: فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي.قال: " لا ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به " قال كذا وكذا.قال: " أخذتها بذلك " قال هي لك يا رسول الله.
19-قال ابن إسحق: فركبا وانطلقا، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة مولاه خلفه، ليخدمهما في الطريق فحدثت عن اسماء أنها قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش منهم أبو جهل فذكر ضربه لها على خدها لطمة طرح منها قرطها من أذنها قالت: فمكثنا ثلاث ليال ما ندري أين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب، وأن الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه حتى خرج من أعلا مكة وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر ثم تروحا * فأفلح من أمسى رفيق محمد ليهن بني كعب مكان فتاتهم * ومقعدها للمؤمنين بمرصد قالت أسماء: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وجهه إلى المدينة.قال ابن إسحاق: وكانوا أربعة، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وعبد الله بن أريقط . وكان إذ ذاك مشركا.