الأخ الحبيب ( اسماعيل مرسي ) حفظه الله ورعاه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،،
أما قولكم نقلاً عن العلامة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين – حفظه الله – ( أما حقيقة خلقتهم فهم أرواح كما قال الامام عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين : الجن خلقهم الله أرواحاً بلا أجساد تقوم بها ، فلذلك أعطاهم الله القدرة على التشكل والظهور في صور متعددة ، كما هو مشاهد ) فهذا مجانب للصواب / وقد قدمت بحثاً بخصوص هذا الموضوع في كتابي الموسوم ( منهج الشرع في بيان المس والصرع ) تحت عنوان ( حقيقة أجسام الجن ) قلت فيه الآتي :
لا يجوز أن يفهم من كافة التعريفات السابقة الخاصة بالجن على أنها أرواح مجردة عن الأجسام ، فالجن مخلوقات ذات أرواح وأجسام لا يعلم كنهها وكيفيتها إلا الله سبحانه وتعالى ، وأي كان القائل بأنها أرواح مجردة عن الأجسام فهذا قول فيه نظر وهو مخالف للصواب ، ومنهج أهل السنة والجماعة يقوم على إثبات أنها مخلوقات ذات أرواح وأجسام ، كما أنها أجسام قد تكون كثيفة وقد تكون خفيفة بكنه وكيفية لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى ، ولم يرد نص نقلي من الكتاب أو السنة يحدد ماهية هذه الأجسام ، هذا وقد ذهب المعتزلة إلى أن الجن مخلوقات ذات أجسام خفيفة 0
قال القاضي أبو يعلى الحنبلي : ( والصواب أنه لم يرد في الشرع ما يدل على أن أجسام الجن رقيقة أو كثيفة ، فوجب أن لا يصح وصفهم بالرقة ) ( المعتمد في أصول الدين – ص 172 ) 0
قال الشبلي : ( قال القاضي – أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي - : الجن أجسام مؤلفة وأشخاص ممثلة ويجوز أن تكون كثيفة خلافا للمعتزلة ( المعتزلة : ويسمون أصحاب التوحيد ، والعدلية ، والقدرية ، وهم قد جعلوا لفظ القدرية مشتركا ، وقد اعتزلوا مجلس الحسن البصري ، وقد افترقت القدرية المعتزلة عشرين فرقة كل فرقة منها تكفر سائرها 0 راجع الفرق بين الفرق للبغدادي بتحقيق محمد محي الدين عبدالحميد ص 24 طبعة دار المعرفة ، والملل والنحل للشهرستاني – 1 / 43 وما بعدها ) في قولهم : إنهم أجسام رقيقة ولرقتهم لا نراهم والدلالة على ذلك علمنا بأن الأجسام يجوز أن تكون رقيقة ، ويجوز أن تكون كثيفة ، ولا يمكن معرفة أجسام الجن أنها رقيقة أو كثيفة إلا بالمشاهدة أو الخبر الوارد عن الله تعالى أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلا الأمرين مفقود فوجب أن لا يصح أنهم أجسام رقيقة أصلا ، فأما قولهم : إن الجن إنما كانت أجساما رقيقة لأننا لا نراها وإنما نراها لرقتها فلا يصح لأننا قد دللنا على أن الرقة ليست بمانعة عن الرؤية في باب الرؤية ويجوز أن تكون الأجسام الكثيفة موجودة ولا نراها إذا لم يخلق الله تعالى فينا الإدراك ) ( أحكام الجان ) .
وقال أيضا في مقدمة كتاب " أحكام الجان " : ( تقرير أن للجن أجساما مشخصة رقيقة أو كثيفة تتطور وتتشكل في صور شتى ليمكن الوقاع ويتأتى 0 لأنه إنما يتصور بين جسمين مماسين ويتفرع على هذا ذكر تحيزهم وأكلهم وشربهم وتناكحهم فيما بينهم لأن جسم الحي لا بد له من تحيز وتناول ما هو سبب لنموه وبقاء جنسه بالتوالد ) ( أحكام الجان – ص 12 ) 0
وقال – رحمه الله – مؤكدا على المفهوم السابق : ( قال القاضي أبو بكر : ولسنا ننكر مع ذلك يعني أن الأصل الذي خلقه منه النار أن يكثفهم الله تعالى ويغلظ أجسامهم ويخلق لهم أعراضا تزيد على ما في النار فيخرجون عن كونهم نارا ويخلق لهم صورا وأشكالا مختلفة 0 والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب ) ( أحكام الجان – ص 29
) 0
قال الدكتور عبدالكريم نوفان عبيدات : ( وقد استشكل على فريق من الناس أن يكون للجن أجسام ، لأنه لو كان لهم أجسام لرأيناهم ، والحقيقة أنه لا إشكال في ذلك ، فلو كثَّف الله لنا أجسامهم أو جعل في أبصارنا القوة لرأيناهم ، فالله قادر على إيجاد مخلوقات من النار لها عقول حالة في الأجسام ولكنها لا ترى في الأحوال العادية للبشر 0
على أنه قد حصل الخلاف بين العلماء في طبيعة هذه الأجسام ، هل هي رقيقة أم كثيفة ؟ ففريق قالوا بكثافتها ، مع اختلافها عن أجسام الإنس ، وفريق قال برقتها ولطافتها ، ولذلك فهي لا ترى ، كما سبق من قول المعتزلة وقول ابن حزم 0
وأياً ما كان الحق في ذلك ، فالذي يجب أن نعلمه أن لهم أرواحاً عاقلة مريدة مكلفة ، على نحو ما عليه الإنسان ، وأن هذه الأرواح حالَّة في أجسام نارية ، لها قدرة على التشكل ، كما دل على ذلك السنة النبوية ، خلافاً لمن زعم من الفلاسفة والملاحدة ، الذين قالوا : " بأن الجن هم عبارة عن أرواح مجردة ، لها تصرف في العنصريات ، والشيطان القوة المتخيلة ، ولا يمنع ظهورهم على بعض الأبصار وفي بعض الأحوال " ( كشاف اصطلاحات الفنون – بتصرف – 1 / 374 ) وكما زعم الناس أن الجن عبارة عن النفوس البشرية المفارقة لأبدانها ( فتح القدير – 5 / 303 ) ، وهذا ولا شك قول بالتناسخ ، وهو مذهب باطل كما هو مقرر ) ( عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة – ص 17 – 18 ) 0
يقول الأستاذ مصطفى عاشور – بعد أن ساق آراء المثبتون للجن وأقوالهم في طبيعة أجسامهم - : ( هذه بعض الآراء التي وردت في بيان أجسام الجن ، وينبغي أن نلاحظ أن معرفة أجسام الجن أنها رقيقة أو كثيفة 0 لا تكون إلا بالمشاهدة أو الخبر الوارد عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكلا الأمرين مفقود ، ولذا فيجب التوقف في هذا الأمر ) ( عالم الجن أسراره وخفاباه – ص 21 ) 0
قلت : وهذه المسألة من المسائل الغيبية التي لم يثبت بها نص نقلي يحدد أصل مادة خلقتهم من حيث الكثافة أو الخفة ، وكافة الآيات والأحاديث التي تحدثت عن خلق الجن ومادتهم لم تتطرق لهذه المسألة ، فقد ذكر ابن عباس ومجاهد وغيرهما في تفسير قول الله تعالى : ( وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ) ( سورة الرحمن – الآية 15 ) قالوا : أي من خالصه وأحسنه ، وقال النووي : ( المارج اللهب المختلط بسواد النار ) ( صحيح مسلم بشرح النووي – 16 / 17 ، 18 – 415 ) ، وقد ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم ) ( أخرجه الإمام مسلم في صحيحه – كتاب الزهد ( 10 ) – برقم 2996 ) 0
يقول الدكتور عبدالكريم نوفان عبيدات : ( وهكذا نلاحظ أن القرآن الكريم والسنة النبوية قد حددا ماهية المادة التي خلق منها الجن ، فقد عبر القرآن عنها مرة بنار السموم ومرة بأنها مارج من نار 0 فما هي هذه المادة وما طبيعتها ؟
ثم ساق – حفظه الله – قول الإمام الطبري والقرطبي في تفسير المارج إلى أن قال : وفي واقع الأمر أن هذه الروايات كلها متقاربة المعنى وتؤدي معنى واحداً ، فخالص النار أو ما كان في طرفها إذا التهبت واختلطت ، تعطي ألواناً من الحمرة والصفرة والاخضرار ، وهو الذي خلق منه الجن ) ( عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة – باختصار - ص 13 – 14 ) 0
ولم أقف في بحثي لهذه الجزئية فيما اطلعت عليه من كتب وأبحاث ودراسات على قول لعلماء أجلاء تكلموا في هذه المسألة فخاضوا فيها دون الدليل النقلي الذي يدعم ذلك ، والصحابة والتابعون والسلف لم يجتهدوا قط إلا في مسائل تحتاج للاجتهاد والقياس ، وهذا يعني أنهم توقفوا في ماهية أجسام الجن من حيث الكثافة أو الخفة لعدم ورود الدليل النقلي الذي يؤكد أحد الاتجاهين ، ونحن نعلم يقينا أن أمور الغيب أمور توقيفية لا يجوز لأحد أن يدلو فيها بدلوه كائن من كان دون الاعتماد على مصادر التشريع ، فالحق أنه يجب التوقف في هذه المسألة والقول بأن أجسام الجن قد تكون كثيفة وقد تكون خفيفة ، خلافا لما ذهب إليه المعتزلة وكذلك ابن حزم الظاهري – رحمهما الله - ، حيث قالوا بأن أجسام الجن خفيفة دون مصدر نقلي يعتمدون عليه 0 والله تعالى أعلم 0
27
وفي ذلك يقول ابن حزم : ( وهم – يعني الجن – أجسام رقاق صافية هوائية لا ألوان لهم ، وعنصرهم النار ، كما أن عنصرنا التراب ، وبذلك جاء القرآن ، قال الله عز وجل : ( وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ) ( سورة الحجر – الآية 27 ) ، والنار والهواء عنصران لا ألوان لهما ، وإنما حدث اللون في النار المشتعلة عندنا لامتزاجها برطوبات ما تشتعل فيه من الحطب والكتان والأدهان وغير ذلك ، ولو كانت لهم ألوان لرأيناهم بحاسة البصر ، ولو لم يكونوا أجساماً صافية رقاقاً هوائية لأدركناهم بحاسة اللمس ) ( الفصل في الملل والأهواء والنحل ) .
ولذلك تجدني أقول في تعريفي لهم : (( الجن : نوع من المخلوقات ذات أجسام وأرواح ، وهي عاقلة مدركة مريدة مكلفة على نحو ما عليه الإنسان ، خلقوا من مادة أصلها مارج النار وهو خالصه وأحسنه ، وطبيعة خلقتهم لها ماهية لا يعلم كنهها وكيفيتها إلا الله ، مستترون عن الحواس في أصل خلقتهم ، لا يرون على طبيعتهم ولا بصورتهم الحقيقية ولهم قدرة على التمثل وعلى التشكل ، يأكلون ويشربون ويتناكحون ويتناسلون وهم محاسبون على أعمالهم في الآخرة وأجسام الجن قد تكون كثيفة وقد تكون رقيقة وهذا الذي عليه أهل السنة والجماعة ، ولعالم الجن ناموسهم أي قانونهم ونظامهم الذي يعيشون ويموتون ويتنقلون بموجبه ) 0
هذا ما تيسر لي سائلاً المولى عز وجل أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح ، مع تمنياتي لكم بالصحة والسلامة والعافية :
أخوكم المحب / أبو البراء أسامة بن ياسين المعاني .