قال الله تعالى :
وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين [ الأنبياء 83 ]
ابن كثير 3\189 الآيات ( الانبياء 83 : 84 ) يذكر تعالى عن أيوب عليه السلام ما كان أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير وأولاد كثيرة ومنازل مرضية فابتلي في ذلك كله وذهب عن آخره ثم إبتلي في جسده يقال بالجذام في سائر بدنه ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه يذكر بهما الله عز وجل حتى عافه الجليس وأفرد في ناحية من البلد ولم يبق أحد من الناس يحنو عليه سوى زوجته كانت تقوم بأمره ويقال إنها احتاجت فصارت تخدم الناس من أجله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل وفي الحديث الآخر يبتلى الرجل على قدر دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه وقد كان نبي الله أيوب عليه السلام غاية في الصبر وبه يضرب المثل في ذلك وقال يزيد بن ميسرة لما ابتلى الله أيوب عليه السلام بذهاب الأهل والمال والولد ولم يبق شيء له أحسن الذكر ثم قال أحمدك رب الأرباب الذي أحسنت إلي أعطيتني المال والولد فلم يبق من قلبي شعبة إلا قد دخله ذلك فأخذت ذلك كله مني وفرغت قلبي فليس يحول بيني وبينك شيء لو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت حسدني قال فلقي إبليس من ذلك منكرا قال وقال أيوب عليه السلام يا رب إنك أعطيتني المال والولد فلم يقم على بابي أحد يشكوني لظلم ظلمته وأنت تعلم ذلك وأنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها وأقول لنفسي يانفس إنك لم تخلقي لوطء الفراش ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك رواه ابن أبي حاتم وقد روي عن وهب بن منبه في خبره قصة طويلة ساقها ابن جرير وابن أبي حاتم بالسند عنه وذكرها غير واحد من متأخري المفسرين وفيها غرابة تركناها لحال الطول وقد روى أنه مكث في البلاء مدة طويلة ثم اختلفوا في السبب المهيج له على هذا الدعاء فقال الحسن وقتادة إبتلي أيوب عليه السلام سبع سنين وأشهرا ملقى على كناسة بني إسرائيل تختلف الدواب في جسده ففرج الله عنه وأعظم له الأجر وأحسن عليه الثناء وقال وهب بن منبه مكث في البلاء ثلاث سنين لا يزيد ولا ينقص وقال السدي تساقط لحم أيوب حتى لم يبق إلا العصب والعظام فكانت امرأته تقوم عليه وتأتيه بالرماد يكون فيه فقالت له امرأته لما طال وجعه يا أيوب لو دعوت ربك يفرج عنك فقال قد عشت سبعين سنة صحيحا فهو قليل لله أن أصبر له سبعين سنة فجزعت من ذلك فخرجت فكانت تعمل للناس بالأجر وتأتيه بما تصيب فتطعمه وإن إبليس انطلق إلى رجلين من أهل فلسطين كانا صديقين له وأخوين فأتاهما فقال أخوكما أيوب أصابه من البلاء كذا وكذا فأتياه وزوراه واحملا معكما من خمر أرضكما فإنه إن شرب منه برئ فأتياه فلما نظرا إليه بكيا فقال من أنتما فقالا نحن فلان وفلان فرحب بهما وقال مرحبا بمن لا يجفوني عند البلاء فقالا يا أيوب لعلك كنت تسر شيئا وتظهر غيره فلذلك ابتلاك الله فرفع رأسه إلى السماء فقال هو يعلم ما أسررت شيئا أظهرت غيره ولكن ربي ابتلاني لينظر أأصبر أم أجزع فقالا له يا أيوب اشرب من خمرنا فإنك إن شربت منه برأت قال فغضب وقال جاءكما الخبيث فأمركما بهذا كلامكما وطعامكما وشرابكما علي حرام فقاما من عنده وخرجت امرأته تعمل للناس فخبزت لأهل بيت لهم صبي فجعلت لهم قرصا وكان ابنهم نائما فكرهوا أن يوقظوه فوهبوه لها فأتت به إلى أيوب فأنكره وقال ما كنت تأتيني بهذا فما بالك اليوم فأخبرته الخبر قال فلعل الصبي قد استيقظ فطلب القرص فلم يجده فهو يبكي على أهله فانطلقي به إليه فأقبلت حتى بلغت درجة القوم فنطحتها شاة لهم فقالت تعس أيوب الخطاء فلما صعدت وجدت الصبي قد اسيتقظ وهو يطلب القرص ويبكي على أهله لا يقبل منهم شيئا غيره فقالت رحمه الله يعني أيوب فدفعت إليه القرص ورجعت ثم إن إبليس أتاها في صورة طبيب فقال لها إن زوجك قد طال سقمه فإن أراد أن يبرأ فليأخذ ذبابا فليذبحه بإسم صنم بني فلان فإنه يبرأ ويتوب بعد ذلك فقالت ذلك لأيوب فقال قد أتاك الخبيث لله علي إن برأت أن أجلدك مائة جلدة فخرجت تسعى عليه فحظر عنها الرزق فجعلت لا تأتي أهل بيت فيريدونها فلما اشتد عليها ذلك وخافت على أيوب الجوع حلقت من شعرها قرنا فباعته من صبية من بنات الأشراف فأعطوها طعاما طيبا كثيرا فأتت به أيوب فلما رآه أنكره وقال من أين لك هذا قالت عملت لأناس فأطعموني فأكل منه فلما كان الغد خرجت فطلبت أن تعمل فلم تجد فحلقت أيضا قرنا فباعته من تلك الجارية فأعطوها أيضا من ذلك الطعام فأتت به أيوب فقال والله لا أطعمه حتى أعلم من أين هو فضوعت خمارها فلما رأى رأسها محلوقا جزع جزعا شديدا فعند ذلك دعا الله عز وجل فقال ( رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ) قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالي أن الشيطان الذي عرج في أيوب كان يقال له مبسوط قال وكانت إمرأة أيوب تقول أدع الله فيشفيك فجعل لا يدعو حتى مر به نفر من بني إسرائيل فقال بعضهم لبعض ما أصابه إلا بذنب عظيم أصابه فعند ذلك قال ( رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ) وحدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال كان لأيوب عليه السلام أخوان فجاءا يوما فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه فقاما من بعيد فقال أحدهما للآخر لو كان الله علم من أيوب خيرا ما إبتلاه بهذا فجزع أيوب من قولهما جزعا لم يجزع من شيء قط فقال اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدقني فصدق من السماء وهما يسمعان ثم قال اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصا قط وأنا أعلم مكان عار فصدقني فصدق من السماء وهما يسمعان ثم قال اللهم بعزتك ثم خر ساجدا فقال اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبدا حتى تكشف عني فما رفع رأسه حتى كشف عنه وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر مرفوعا بنحو هذا فقال أخبرنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له كانا يغدوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين فقال له صاحبه وما ذاك قال منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له فقال أيوب عليه السلام ما أدري ما تقول غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق وكان يخرج في حاجته فإذا قضاها أمسكت إمرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم أبطأت عليه فأوحى الله إلى أيوب في مكانه أن اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب رفع هذا الحديث غريب جدا وروى ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال وألبسه الله حلة من الجنة فتنحى أيوب فجلس في ناحية وجاءت امرأته فلم تعرفه فقالت يا عبد الله أين ذهب هذا المبتلى الذي كان ههنا لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب فجعلت تكلمه ساعة فقال ويحك أنا أيوب قالت أتسخر مني يا عبد الله فقال ويحك أنا أيوب قد رد الله علي جسدي وبه قال ابن عباس ورد عليه ماله وولده عيانا ومثلهم معهم وقال وهب بن منبه أوحى الله إلى ايوب قد رددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم فاغتسل بهذا الماء فإن فيه شفاءك وقرب عن صحابتك قربانا واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك رواه ابن أبي حاتم وقال أيضا حدثنا أبو زرعة حدثنا عمرو بن مرزوق حدثنا همام عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لما عافى الله أيوب أمطر عليه جرادا من ذهب فجعل يأخذ منه بيده ويجعله في ثوبه قال فقيل له يا أيوب أما تشبع قال يا رب ومن يشبع من رحمتك أصله في الصحيحين وسيأتي في موضع آخر وقوله ( وآتيناه أهله ومثلهم معهم ) قد تقدم ابن عباس أنه قال ردوا عليه بأعيانهم وكذا رواه العوفي عن ابن عباس أيضا وروى عن ابن مسعود ومجاهد وبه قال الحسن وقتادة وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته رحمة فإن كان أخذ ذلك من سياق الآية فقد أبعد النجعة وإن كان أخذه من نقل أهل الكتاب وصح ذلك عنهم فهو مما لا يصدق ولا يكذب وقد سماها ابن عساكر في تاريخه رحمه الله تعالى قال ويقال اسمها ليا بنت منشا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم قال ويقال ليا بنت يعقوب عليه السلام زوجة أيوب كانت معه بأرض البثنية وقال مجاهد قيل له يا أيوب إن أهلك لك في الجنة فإن شئت أتيناك بهم وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوضناك مثلهم قال لا بل أتركهم في الجنة فتركوا له في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا وقال حماد بن زيد عن أبي عمران الجوني عن نوف البكالي قال أوتي أجرهم في الآخرة وأعطى مثلهم في الدنيا قال فحدثت به مطرفا فقال ما عرفت وجهها قبل اليوم وكذا روى عن قتادة والسدي وغير واحد من السلف والله أعلم وقوله ( رحمة من عندنا ) أي فعلنا به ذلك رحمة من الله به ( وذكرى للعابدين ) أي وجعلناه في ذلك قدوة لئلا يظن أهل البلاء أنما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله وإبتلائه لعباده بما يشاء وله الحكمة البالغة في ذلك .
....................................
....................................
القرطبي 11\323 قوله تعالى : ( وأيوب إذ نادى ربه ) أي واذكر أيوب إذ نادى ربه ( أني مسني الضر ) أي نالني في بدني ضر وفي مالي وأهلي قال ابن عباس : سمي أيوب لأنه آب إلى الله تعالى في كل حال وروى أن أيوب عليه السلام كان رجلا من الروم ذا مال عظيم وكان برا تقيا رحيما بالمساكين يكفل الأيتام والأرامل ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل شاكرا لأنعم الله تعالى وأنه دخل مع قومه على جبار عظيم فخاطبوه في أمر فجعل أيوب يلين له في القول من أجل زرع كان له فامتحنه الله بذهاب ماله وأهله وبالضر في جسمه حتى تناثر لحمه وتدود جسمه حتى أخرجه أهل قريته إلى خارج القرية وكانت امرأته تخدمه قال الحسن : مكث بذلك تسع سنين وستة أشهر فلما أراد الله أن يفرج عنه قال الله تعالى له اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فيه شفاؤك وقد وهبت لك أهلك ومالك وولدك ومثلهم معهم وسيأتي في [ ص ] ما للمفسرين في قصة أيوب من تسليط الشيطان عليه والرد عليهم إن شاء الله تعالى واختلف في قول أيوب ( مسني الضر ) على خمسة عشر قولا : الأول أنه وثب ليصلي فلم يقدر على النهوض فقالك ( مسني الضر ) إخبارا عن حاله لاشكوى لبلائه رواه أنس مرفوعا الثاني أنه إقرار بالعجز فلم يكن منافيا للصبر الثالث أنه سبحانه أجراه على لسانه ليكون حجة لأهل البلاء بعده في الافصاح بما ينزل بهم الرابع أنه أجراه على لسانه إلزاما له في صفة الآدمي في الضعف عن تحمل البلاء الخامس أنه انقطع الوحي عنه أربعين يوما فخاف هجران ربه فقال : ( مسني الضر ) وهذا قول جعفر بن محمد السادس أن تلامذته الذين كانوا يكتبون عنه لما أفضت حاله إلى ما انتهت إليه محوا ما كتبا عنه وقالوا : ما لهذا عند الله قدر فاشتكى الضر في ذهاب الوحي والدين من أيدي الناس وهذا مما لم يصح سنده والله أعلم قاله ابن العربي السابع أن دودة سقطت من لحمه فأخذها وردها في موضعها فعقرته فصاح ( مسني الضر ) فقيل : أعلينا تتصبر قال ابن العربي : وهذا بعيد جدا مع أنه يفتقر إلى نقل صحيح ولا سبيل إلى وجوده الثامن أن الدود كان يتناول بدنه فصبر حتى تناولت دودة قلبه وأخرى لسانه فقال : ( مسني الضر ) لاشتغاله عن ذكر الله قال ابن العربي : وما أحسن هذا لو كان له سند ولم تكن دعوى عريضة التاسع أنه أبهم عليه جهة أخذ البلاء له هل هو تأديب أو تعذيب أو تخصيص أو تمحيص أو ذخر أو طهر فقال : ( مسني الضر ) أي ضر الإشكال في جهة أخذ البلاء قال ابن العربي : وهذا غلو لا يحتاج إليه العاشر أنه قيل له سل الله العافية فقال : أقمت في النعيم سبعين سنة وأقيم في البلاء سبع سنينوحينئذ أسأله فقال : ( مسني الضر ) قال ابن العربي : وهذا ممكن ولكنه ولكنه لم يصحفي إقامته مدة خبر ولا في هذه القصة الحادي عشر أن ضره قول إبليس لزوجه اسجدي لي فخاف ذهاب الايمان عنها فتهلك ويبقى بغير كافل الثاني عشر لما ظهر به البلاء قال قومه : قد أضر بنا كونه معنا وقذره فليخرج عنا فأخرجته امرأته إلى ظاهر البلد فكانوا إذا خرجوا رأوه وتطيروا به وتشاءموا برؤيته فقالوا : ليبعد بحيث لا نراه فخرج إلى بعد من القرية فكانت امرأته تقوم عليه وتحمل قوته إليه فقالوا : إنها تتناوله وتخالطه فيعود بسببه ضره إلينا فأرادوا قطعها عنه فقال : ( مسني الضر ) الثالث عشر قال عبد الله بن عبيد بن عمير : كان لأيوب أخوان فأتياه فقاما من بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من نتن ريحه فقال أحدهما : لو علم الله في أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا البلاء فلم يسمع شيئا أشد عليه من هذه الكلمة فعند ذلك قال : ( مسني الضر ) ثم قال : اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت شبعان قط وأنا أعلم مكان جائع فصدقني فنادى مناد من السماء أن صدق عبدي وهما يسمعان فخرا ساجدين الرابع عشر أن معنى ( مسني الضر ) من شماتة الأعداء ولهذا قيل لهم : ما كان أشد عليك في بلائك قال شماتة الأعداء قال ابن العربي : وهذا ممكن فإن الكليم قد سأله أخوه العافية من ذلك فقال : إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء الخامس عشر إن امرأته كانت ذات ذوائب فعرفت حين منعت أن تتصرف لأحد بسببه ماتعود به عليه فقطعت ذوائبها واشترت بها ممن يصلها قوتا وجاءت به إليه وكان يستعين بذوائبها في تصرفه وتنقله فلما عدمها وأراد الحركة في تنقله لم يقدر قال : ( مسني الضر ) وقيل : إنها لما اشترت القوت بذوائبها جاءه إبليس في صفة رجل وقال له : إن أهلك بغت فأخذت وحلق شعرها فحلف أيوب أن يجلدها فكانت المحنة على قلب المرأة أشد من المحنة على قلب أيوب قلت : وقول سادس عشر ذكره ابن المبارك : أخبرنا يونس بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوما أيوب النبي صلى الله عليه وسلم وما أصابه من البلاء الحديث وفيه أن بعض إخوانه ممن صابروه ولازمه قال : يا نبي الله لقد أعجبني أمرك وذكرته إلى أخيك وصاحبك إنه قد ابتلاك بذهاب الأهل والمال وفي جسدك منذ ثمانية عشرة سنة حتى بلغت ما ترى ألا يرحمك فيكشف عنك ! لقد أذنبت ذنبا ما أظن أحدا بلغه ! فقال أيوب عليه السلام [ : ما أدري ما يقولان غير أن ربي عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتزاعمان وكل يحلف بالله أو على النفر يتزاعمون فأنقلب إلى أهلي فأكفر عن أيمانهم إرادة ألا يأثم أحد ذكره ولا يذكره أحد إلا بالحق ] فنادى ربه ( أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ) وإنما كان دعاؤه عرضا عرضه على الله تبارك وتعالى يخبره بالذي بلغه صابرا لما يكون من الله تبارك وتعالى فيه وذكر الحديث وقول سابع عشر سمعته ولم أقف عليه أن دودة سقطت من جسده فطلبها ليردها إلى موضعها فلم يجدها فقال : ( مسني الضر ) لما فقد من أحر ألم تلك الدودة وكان أراد أن يبقى له الأجر موقرا إلى وقت العافية وهذا حسن إلا أنه يحتاج إلى سند قال العلماء : ولم يكن قوله ( مسني الضر ) جزعا لأن الله تعالى قال : إنا وجدناه صابرا بل كان ذلك دعاء منه والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى والدعاء لا ينافي الرضا قال الثعلبي سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول : حضرت مجلسا غاصا بالفقهاء والأدباء في دار السلطان فسئلت عن هذه الآية بعد إجماعهم على أن قول أيوب كان شكاية وقد قال الله تعالى : إنا وجدناه صابرا فقلت : ليس هذا شكاية وإنما كان دعاء بيانه ( فاستجبنا له ) والإجابة تتعقب الدعاء لا الاشتكاء فاستحسنوه وارتضوه وسئل الجنيد عن هذه الآية فقال : عرفه فاقة السؤال ليمن عليه بكرم النوال قوله تعالى : ( فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم ) قال مجاهد وعكرمة قيل لأيوب صلى الله عليه وسلم : قد آتيناك أهلك في الجنة فإن شئت تركناهم لك في الجنة وإن شئت آتيناكهم في الدنيا قال مجاهد : فتركهم الله عز وجل له في الجنة وأعطاه مثلهم في الدنيا قال النحاس : والاسناد عنهما بذلك صحيح قلت : وحكاه المهدوي عن ابن عباس وقال الضحاك : قال عبد الله بن مسعود كان أهل أيوب قد ماتوا إلا امرأته فأحياهم الله عز وجل في أقل من طرف البصر وآتاه مثلهم معهم وعن ابن عباس أيضا : كان بنوه قد ماتوا فأحيوا له وولد له مثلهم معهم وقال قتادة وكعب الأحبار والكلبي وغيرهم قال ابن مسعود : مات أولاده وهم سبعة من الذكور وسبعة من الإناث غلما عوفي نشروا له وولدت امرأته سبع بنين وسبع بنات الثعلبي : وهذا القول أشبه بظاهر الآية قلت : لأنهم ماتوا قبل آجالهم حسب ما نقدم بيانه في سورة [ البقرة ] في قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت وفي قصة السبعين الذين أخذتهم الصعقة فماتوا ثم أحيوا وذلك أنهم ماتوا قبل آجالهم وكذلك هنا والله أعلم وعلى قول مجاهد وعكرمة يكون المعنى : ( وآتيناه أهله ) في الآخرة ( مثلهم معهم ) في الدنيا وفي الخبر : إن الله بعث إليه جبريل عليه السلام حين ركض برجله على الأرض ركضة فظهرت عين ماء حا وأخذ بيده ونفضه نفضة فتناثرت عنه الديدان وغاص في الماء غوصة فنبت لحمه وعاد إلى منزله ورد الله عليه أهله ومثلهم معهم ونشأت سحابة على قدر قواعد داره فأمطرت ثلاثة أيام بلياليها جرادا من ذهب فقال له جبريل : أشبعت فقال : من يشبع من الله ! فضل فأوحى الله إليه : قد أثنيت عليك بالصبر قبل وقوعك في البلاء وبعده ولولا أني وضعت تحت كل شعرة منك صبرا ما صبرت ( رحمة من عندنا ) أي فعلنا ذلك به رحمة من عندنا وقيل : ابتليناه ليعظم ثوابه غدا ( وذكرى للعابدين ) أي وتذكيرا للعابد لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب وصبره عليه ومحنته له وهو أفضل أهل زمانه وطنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا نحو ما فعل أيوب فيكون هذا تنبيها لهم على إذامة العبادة واحتمال الضرر واختلف في مدة إقامته في البلاء فقال ابن عباس : كانت مدة البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ليال وهب : ثلاثين سنة الحسن سبع سنين وستة أشهر قلت : وأصح من هذا والله أعلم ثماني عشرة سنة رواه ابن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم ذمره ابن المبارك وقد تقدم .
....................................
....................................
واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب [ ص 41 ]
ابن كثير 4\40 الآيات ( ص 41 : 44 ) يذكر تبارك وتعالى عبده ورسوله أيوب عليه الصلاة والسلام وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده حتى لم يبق من جسده مغرز إبرة سليما سوى قلبه ولم يبق له من الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله تعالى ورسوله فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحوا من ثماني عشرة سنة وقد كانت من قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة في الدنيا فسلب جميع ذلك حتى آل به الحالإلى أن ألقي على مزبلة من مزابل البلدة هذه المدة بكمالها ورفضه القريب والبعيد سوى زوجته رضي الله عنه فإنها كانت لا تفارقه صباحا ومساء إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود اليه قريبا فلما طال المطال واشتد الحال وانتهى القدر وتم الأجل المقدر تضرع إلى رب العالمين وإله المرسلين فقال ( إني مسني الضر وانت أرحم الراحمين ) وفي هذه الآية الكريمة قال ( واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ) قيل بنصب في بدني وعذاب في مالي وولدي فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين وأمره أن يقوم من مقامه وان يركض الأرض برجله ففعل فأنبع الله تعالى عينا وأمره أن يغتسل منها فأذهب جميع ما كان في بدنه من الأذى ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخرى فأنبع له عينا أخرى وأمره أن يشرب منها فأذهب جميع ما كان في باطنه من السوء وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا ولهذا قال تبارك وتعالى ( أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ) قال ابن جرير وابن أبي حاتم جميعا حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص اخوانه به كانا يغدوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه تعلم والله لقد أذنب ايوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين قال له صاحبه وما ذاك قال منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله تعالى فيكشف مابه فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له فقال ايوب عليه الصلاة والسلام لا أدري ما تقول غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله تعالى فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق قال وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم ابطأ عليها فأوحى الله تبارك وتعالى إلى أيوب عليه الصلاة والسلام أن ( اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ) فاستبطأته فالتفتت تنظر فأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان فلما رأته قالت أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى فوالله القدير على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحا قال فإني أنا هو قال وكان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله تعالى سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في أندر الشعير حتى لفظ ابن جرير رحمه الله وقال الإمام أحمد < 2/314 > حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب عليه الصلاة والسلام يحثو في ثوبه فناداه ربه عز وجل يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى قال عليه الصلاة والسلام بلى يارب ولكن لاغنى بي عن بركتك انفرد بإخراجه البخاري < 279 > من حديث عبد الرزاق به ولهذا قال تبارك وتعالى ( ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب ) قال الحسن وقتادة أحياهم الله تعالى له بأعيانهم وزادهم مثلهم معهم وقوله عز وجل ( رحمة منا ) أي به على صبره وثباته وتواضعه واستكانته ( وذكرى لأولي الألباب ) أي لذوي العقول ليعلموا أن عاقبة الصبر الفرج والمخرج والراحة وقوله جلت عظمته ( وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ) وذلك أن أيوب عليه الصلاة والسلام كان قد غضب على زوجته ووجد عليها في أمر فعلته قيل باعت ضفيرتها بخبز فأطعمته إياه فلامها على ذلك وحلف إن شفاه الله تعالى ليضربها مئة جلدة وقيل لغير ذلك من الأسباب فلما شفاه الله عز وجل وعافاه ما كان جزاؤها مع هذه الخدمة التامة والرحمة والشفقة والإحسان أن تقابل بالضرب فأفتاه الله عز وجل أن يأخذ ضغثا وهو الشمراخ فيه مئة قضيب فيضربها به ضربة واحدة وقد برت يمينه وخرج من حنثه ووفى بنذره وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله تعالى وأناب إليه ولهذا قال جل وعلا ( إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب ) أثنى الله تعالى عليه ومدحه بأنه ( نعم العبد إنه أواب ) أي رجاع منيب ولهذا قال جل جلاله ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ امره قد جعل الله لكل شيء قدرا ) واستدل كثير من الفقهاء بهذه الآية الكريمة على مسائل في الأيمان وغيرها وقد أخذوها بمقتضاها والله أعلم بالصواب . الآيات ( ص 45 : 48 ) يقول تبارك وتعالى مخبرا عن فضائل ....
....................................
....................................
القرطبي 4\39 ( ص 41 : 43 ) قوله تعالى : ( واذكر عبدنا أيوب ) أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم في الصبر على المكاره أيوب بدل ( إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ) وقرأ عيسى بن عمر إني بكسر الهمزة أي قال قال الفراء : وأجمعت القراء على أن قرءوا بنصب بضم النون والتخفيف النحاس : وهذا غلط وبعده مناقضة وعلط أيضا لأنه قال : أجمعت القراء على هذا وحكى بعده ذكروا عن يزيد بن القعقاع أنه قرأ : بنصب بفتح النون والصاد فغلط على أبي جعفر وإنما قرأ أبو جعفر : بنصب بضم النون والصاد كذا حكاه أبو عبيدة وغيره وهو مروي عن الحسن فأما بنصب فقراءة عاصم الجحدري ويعقوب الحضرمي وقد رويت هذه القراءة عن الحسن وقد حكى بنصب بفتح النون وسكون الصاد عن أبي جعفر وهذا كله عند النحويين بمعنى النصب فنصب ونصب كحزن وحزن وقد يجوز أن يكون نصب جمع نصب كوثن ووثن ويجوز أن يكون نصب بمعنى نصب حذفت منه الضمة فأما ما ذبح على النصب فقيل : إنه جمع نصاب وقال أبو عبيدة وغيره : النصب الشر والبلاء والنصب التعب والإعياء وقد قيل في معنى : أني مسني الشيطان بنصب وعذاب أي ما يلحقه من وسوسته لا غير والله أعلم ذكره النحاس قيل : إن النصب ما أصابه في بدنه والعذاب ما أصابه في ماله وفيه بعد وقال المفسرون : إن أيوب كان روميا من الثنية وكنيته أبو عبد الله في قول الواقدي اصطفاه الله بالنبوة وأتاه جملة عظيمة من الثروة في أنواع الأموال والأولاد وكان شاكرا لأنعم الله مواسيا لعباد الله برا رحيما ولم يؤمن به إلا ثلاثة نفر وكان لإبليس موقف من السماء السابعة في يوم من الأيامة فوقف به إبليس على عادته فقال الله له أو قيل له عنه : أقدرت من عبدي أيوب على شيء ! فقال : يا رب ! وكيف أقدر منه على شيء وقد ابتليته بالمال والعافية فلو ابتليته بالبلاء والفقر ونزعت منه ما أعطيته لحال عن حاله ولخرج عن طاعتك قال الله : قد سلطتك على أهله وماله فانحط عدو الله فجمع عفاريت الجن فأعلمهم وقال قائل منهم : أكون إعصارا فيه نار أهلك ماله فكان فجاء أيوب في صورة قيم ماله فأعلمه بما جرى فقال : الحمد لله هو أعطاه وهو منعه ثم جاء قصره بأهله وولده فاحتمل القصر من نواحيه حتى ألقاه على أهله وولده ثم جاء إليه وأعلمه فألقى التراب على رأسه وصعد إبليس إلى السماء فسبقته توبة أيوب قال : يا رب سلطني على بدنه قال : قد سلطتك على بدنه إلا على لسانه وقلبه وبصره فنفخ في جسده نفخة اشتعل منها فصار في جسده ثآليل فحكها بأظفاره حتى دميت ثم بالفخار حتى تساقط لحمه وقال عند ذلك : مسني الشيطان ولم يخلص إلى شيء من حشوة البطن لأنه لا بقاء للنفس إلا بها فهو يأكل ويشرب فمكث كذلك ثلاث سنين فلما غلبه أيوب اعترض لامرأته في هيئة أعظم من هيئة بني آدم في القدر والجبال وقال لها : أنا إله الأرض وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت ولو سجدت لي سجدة واحدة لرددت عليه أهله وماله وهم عندي وعرض لها في بطن الوادي ذلك كله في صورته أي أظهره لها فأخبرت أيوب فأقسم أن يضربها إن عافاه الله وذكروا كلاما طويلا في سبب بلائه و مراجعته لربه وتبرمه من البلاء الذي نزل به وأن النفر الثلاثة الذين آمنوا به نهوه عن ذلك واعترضوا عليه وقيل : استعان به مظلوم فلم ينصره فابتلي بسبب ذلك وقيل : استضاف يوما الناس فمنع فقيرا الدخول فابتلي بذلك وقيل : كان أيوب يغزو ملكا وكان له غنم في ولايته فداهنه لأجلها بترك غزوه فابتلي وقيل : كان الناس يتعدون امرأته ويقولون نخشى العدوة وكانوا يستقذرونها فلهذا قال : مسني الشيطان وامرأته ليا بنت يعقوب وكان أيوب في زمن يعقوب وكانت أمه ابنة لوط وقيل : كانت زوجة أيوب رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب عليهم السلام ذكر القولين الطبري رحمه الله قال ابن العربي : ما ذكره المفسرون من أن إبليس كان له مكان في السماء السابعة يوما من العام فقول باطل لأنه أهبط منها بلعنة وسخط إلى الأرض فكيف يرقى إلى محل الرضا ويحول في مقامات الأنبياء ويخترق السماوات العلى ويعلو إلى السماء السابعة إلى منازل الأنبياء فيقف موقف الخليل ! إن هذا لخطب من الجهالة عظيم وأما قولهم : إن الله تعالى قال له هل قدرت من عبدي أيوب على شيء فباطل قطعا لأن الله عز وجل لا يكلم الكفار الذين هم من جند إبليس الملعون فكيف يكلم من تولى إضلالهم ! وأما قولهم : إن الله قال قد سلطتك على ماله وولده فذلك ممكن في القدرة ولكنه بعيد في هذه القصة وكذلك قولهم : إنه نفخ في جسده حين سلطه عليه فهو أبعد والباري سبحانه قادر على أن يخلق ذلك كله من غير أن يكون للشيطان فيه كسب حتى تقر له لعنة الله عليه عين بالتمكن من الأنبياء في أموالهم وأهليهم وأنفسهم وأما قولهم : إنه قال لزوجته أنا إله الأرض ولو تركت ذكر الله وسجدت أنت لي لعافيته فاعلموا وإنكم لتعلمون أنه لو عرض لأحدكم وبه ألم وقال هذا الكلام ما جاز عنده أن يكون إلها في الأرض وأنه يسجد له وأنه يعافي من البلاء فكيف أن تستريب زوجة نبي ! ولو كانت زوجة سوادي أو فدم بربري ما ساغ ذلك عندها وأما تصويره الأموال والأهل في واد للمرأة فذلك ما لا يقدر عليه إبليس بحال ولا هو في طريق السحر فيقال إنه من جنسه ولو تصور لعلمت المرأة أنه سحر كما نعلمه نحن وهي فوقنا في المعرفة بذلك فإنه لم يخل زمان قط من السحر وحديثه وجريه بين الناس وتصويره قال القاضي : والذي جرأهم على ذلك وتذرعوا به إلى ذكر هذا قوله تعالى : إذ نادى ربه أني مسني الشيطان وعذاب فلما رأوه قد شكا مس الشيطان أضافوا إليه من رأيهم ماسبق من التفسير في هذه الأقوال وليس الأمر كما زعموا والأفعال كلها خيرها وشرها في إيمانها وكفرها طاعتها وعصيانها خالقها هو الله لا شريك له في خلقه ولا في خلق شيء غيرها ولكن الشر لا ينسب إليه ذكرا وإن كان موجودا منه خلقا أدبا أدبنا به وتحميدا علمناه وكان من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم لربه قوله تعالى من جملته : ( والخير في يديك والشر ليس إليك ( على هذا المعنى ومنه قول إبراهيم : وإذا مرضت فهو يشفين وقال الفتى للكليم : وما أنسانيه إلا الشيطان وأما قولهم : إنه استعان به مظلوم فلم ينصره فمن لنا بصحة هذا القول ولا يخلو أن يكون قادرا على نصره فلا يحل لأحد تركه فيلام على أنه عصى وهو منزه عن ذلك أو كان عاجزا فلا شيء عليه في ذلك وكذلك قولهم : إنه منع فقيرا من الدخول إن كان علم به فهو باطل عليه وإن لم يعلم به فلا شيء فيه وأما قولهم : إنه داهن على غنمه الملك الكافر فلا تقل داهن ولكن قل داري ودفع الكافر والظالم عن النفس أو المال بالمال جائز نعم وبحسن الكلام قال ابن العربي القاضي أبو بكر رضي الله عنه : ولم يصح عن أيوب في أمره إلا ما أخبرنا الله عنه في كتابه في آيتين الأولى قوله تعالى : وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر والثانية في ص أني مسني الشيطان بنصب وعذاب . أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصح عنه أنه ذكره بحرف واحد إلا قوله : ( بينا أيوب يغتسل إذ خر عليه رجل من جراد من ذهب ( الحديث وإذ لم يصح عنه فيه قرآن ولا سنة إلا ما ذكرناه فمن الذي يوصل السامع إلى أيوب خبره أم على أي لسان سمعه والإسرائيليات مرفوعة عند العلماء على البنات فأعرض عن سطورها بصرك وأصمم عن سماعها أذنيك فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالا ولا تزيد فؤادك إلا خبالا وفي الصحيح واللفظ للبخاري أن ابن عباس قال : يا معشر المسلمين ! تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيكم أحدث الأخبار بالله تقرءونه محضا لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتب فقالوا : هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ولا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم فلا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الموطأ على عمر قراءته التوراة قوله تعالى : ( اركض برجلك ) الركض الدفع بالرجل يقال : ركض الدابة وركض ثوبه برجله وقال المبرد : الركض التحريك ولهذا قال الأصمعي : يقال ركضت الدابة ولا يقال ركضت هي لأن الركض إنما هو تحريك راكبها رجليه ولا فعل لها في ذلك وحكى سيبويه : ركضت الدابة فركضت مثل جبرت العظم فجبر وحزنته فحزن وفي الكلام إضمار أي قلنا له : اركض قاله الكسائي وهذا لما عافاه الله ( هذا مغتسل بارد وشراب ) أي فركض فنبعت عين ماء فاغتسل به فذهب الداء من ظاهره ثم شرب منه فذهب الداء من باطنه وقال قتادة : هما عينان بأرض الشام في أرض يقال لها الجابية فاغتسل من إحداهما فأذهب الله تعالى ظاهر دائه وشرب من الأخرى فأذهب الله تعالى باطن دائه ونحوه عن الحسن ومقاتل قال مقاتل : نبعث عين حارة واغتسل فيها فخرج صحيحا ثم نبعث عين أخرى فشرب منها ماء عذبا وقيل : أمر بالركض بالرجل ليتناثر عنه كل داء في جسده والمغتسل الماء الذي يغتسل به قاله القتبي وقيل : إنه الموضع الذي يغتسل فيه قاله مقاتل الجوهري : واغتسلت بالماء والغسول الماء الذي يغتسل به وكذلك المغتسل قال الله تعالى : هذا مغتسل بارد وشراب والمغتسل أيضا الذي يغتسل فيه والمغسل والمغسل بكسر السين وفتحها مغسل الموتى والجمع المغاسل واختلف كم بقي أيوب في البلاء فقال ابن عباس : سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات وقال وهب بن منبه : أصاب أيوب البلاء سبع سنين وترك يوسف في السجن سبع سنين وعذب بختنصر وحول في السباع سبع سنين ذكره أبو نعيم وقيل : عشر سنين وقيل : ممان عشرة سنين رواه أنس مرفوعا فيما ذكر الماوردي : قلت : وذكره ابن المبارك أخبرنا يونس بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوما أيوب وما أصابه من البلاء وذكر أن البلاء الذي أصابه كان به ثمان عشرة سنة وذكر الحديث القشيري وقيل : أربعين سنة قوله تعالى : ( ووهبنا له أهله ومثلهم معهم ) تقدم في [ الأنبياء ] الكلام فيه ( رحمة منا ) أي نعمة منا ( وذكري لأولي الألباب ) أي عبرة لذوي العقول ( ص 44 ) فيه سبع مسائل : الأولى كان أيوب ...
....................................
....................................
تفسير الطبري الجزء 17 ، صفحة 56
القول في تأويل قوله تعالى [ وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ]
قول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم واذكر أيوب يا محمد إذ نادى ربه وقد مسه الضر والبلاء رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له يقول تعالى ذكره فاستجبنا لأيوب دعاءه إذ نادانا فكشفنا ما كان به من ضر وبلاء وجهد وكان الضر الذي أصابه والبلاء الذي نزل به امتحانا من الله له واختبارا وكان سبب ذلك كما حدثني محمد بن سهل بن عسكر البخاري قال ثنا إسماعيل بن عبد الكريم بن هشام قال ثني عبد الصمد بن معقل قال سمعت وهب بن منبه يقول كان بدء أمر أيوب الصديق صلوات الله عليه أنه كان صابرا نعم العبد قال وهب إن لجبريل بين يدي الله مقاما ليس لأحد من الملائكة في القربة من الله والفضيلة عنده وإن جبريل هو الذي يتلقى الكلام فإذا ذكر الله عبدا بخير تلقاه جبرائيل منه ثم تلقاه ميكائيل وحوله الملائكة المقربون حافين من حول العرش وشاع ذلك في الملائكة المقربين صارت الصلاة على ذلك العبد من أهل السماوات فإذا صلت عليه ملائكة السماوات هبطت عليه بالصلاة إلى ملائكة الأرض وكان إبليس لا يحجب بشيء من السماوات وكان يقف فيهن حيث شاء ما أرادوا ومن هنالك وصل إلى آدم حين أخرجه من الجنة فلم يزل على ذلك يصعد في السماوات حتى رفع الله عيسى بن مريم فحجب من أربع وكان يصعد في ثلاث فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم حجب من الثلاث الباقية فهو محجوب هو وجميع جنوده من جميع السماوات إلى يوم القيامة إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب ثاقب ولذلك أنكرت الجن ما كانت تعرف حين قالت وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا إلى قوله شهابا رصدا قال وهب فلم يرع إبليس إلا تجاوب ملائكتها بالصلاة على أيوب وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه فلما سمع إبليس صلاة الملائكة أدركه البغي والحسد وصعد سريعا حتى وقف من الله مكانا كان يقفه فقال يا إلهي نظرت في أمر عبدك أيوب فوجدته عبدا أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك ثم لم تجربه بشدة ولم تجربه ببلاء وأنا لك زعيم لئن ضربته بالبلاء ليكفرن بك ولينسينك وليعبدن غيرك قال الله تبارك وتعالى له انطلق فقد سلطتك على ماله فإنه الأمر الذي تزعم أنه من أجله يشكرني ليس لك سلطان على جسده ولا على عقله فانقض عدو الله حتى وقع على الأرض ثم جمع عفاريت الشياطين عظماءهم وكان لأيوب البثنية من الشام كلها بما فيها من شرقها وغربها وكان له بها ألف شاة برعاتها وخمس مئة فدان يتبعها خمس مئة عبد لكل عبد امرأة وولد ومال وحمل آلة كل فدان أتان لكل أتان ولد من اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وفوق ذلك فلما جمع إبليس الشياطين قال لهم ماذا عندكم من القوة والمعرفة فإني قد سلطت على مال أيوب فهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال قال عفريت من الشياطين أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارا من نار فأحرقت كل شيء آتي عليه فقال له إبليس فأت الإبل ورعاتها فانطلق يؤم الإبل وذلك حين وضعت رؤسها وثبتت في مراعيها فلم تشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار تنفخ منها أرواح السموم لا يدنو منها أحد إلا احترق فلم يزل يحرقها ورعاتها حتى أتى على آخرها فلما فرغ منها تمثل إبليس على قعود منها براعيها ثم انطلق يؤم أيوب حتى وجده قائما يصلي فقال يا أيوب قال لبيك قال هل تدري ما الذي صنع ربك الذي اخترت وعبدت ووحدت بإبلك ورعاتها قال أيوب إنها ماله أعارنيه وهو أولى به إذا شاء نزعه وقديما ما وطنت نفسي ومالي على الفناء قال إبليس وإن ربك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت ورعاتها حتى أتى على آخر شيء منها ومن رعاتها فتركت الناس مبهوتين وهم وقوف عليها يتعجبون منهم من يقول ما كان أيوب يعبد شيئا وما كان إلا في غرور ومنهم من يقول لو كان إله أيوب يقدر على أن يمنع من ذلك شيئا لمنع وليه ومنهم من يقول بل هو فعل الذي فعل ليشمت به عدوه وليفجع به صديقه قال أيوب الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني عريانا خرجت من بطن أمي وعريانا أعود في التراب وعريانا أحشر إلى الله ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك الله وتجزع حين قبض عاريته الله أولى بك وبما أعطاك ولو علم الله فيك أيها العبد خيرا لنقل روحك مع ملك الأرواح فآجرني فيك وصرت شهيدا ولكنه علم منك شرا فأخرك من أجله فعراك الله من المصيبة وخلصك من البلاء كما يخلص الزوان من القمح الخلاص ثم رجع إبليس إلى أصحابه خاسئا ذليلا فقال لهم ماذا عندكم من القوة فإني لم أكلم قلبه قال عفريت من عظمائهم عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلا خرجت مهجة نفسه قال له إبليس فأت الغنم ورعاتها فانطلق يؤم الغنم ورعاتها حتى إذا وسطها صاح صوتا جثمت أمواتا من عند آخرها ورعاءها ثم خرج إبليس متمثلا بقهرمان الرعاء حتى إذا جاء أيوب وجده وهو قائم يصلي فقال له القول الأول ورد عليه أيوب الرد الأول ثم إن إبليس رجع إلى أصحابه فقال لهم ماذا عندكم من القوة فإني لم أكلم قلب أيوب فقال عفريت من عظمائهم عندي من القوة إذا شئت تحولت ريحا عاصفا تنسف كل شيء تأتي عليه حتى لا أبقي شيئا قال له إبليس فأت الفدادين والحرث فانطلق يؤمهم وذلك حين قربوا الفدادين وأنشئوا في الحرث والأتن وأولادها رتوع فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصف تنسف كل شيء من ذلك حتى كأنه لم يكن ثم خرج إبليس متمثلا بقهرمان الحرث حتى جاء أيوب وهو قائم يصلي فقال له مثل قوله الأول ورد عليه أيوب مثل رده الأول فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله ولم ينجح منه صعد سريعا حتى وقف من الله الموقف الذي كان يقفه فقال يا إلهي إن أيوب يرى أنك ما متعته بنفسه وولده فأنت معطيه المال فهل أنت مسلطي على ولده فإنها الفتنة المضلة والمصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال ولا يقوى عليها صبرهم فقال الله تعالى له انطلق فقد سلطتك على ولده ولا سلطان لك على قلبه ولا جسده ولا على عقله فانقض عدو الله جوادا حتى جاء بني أيوب وهم في قصرهم فلم يزل يزلزل بهم حتى تداعى من قواعده ثم جعل يناطح الجدر بعضها ببعض ويرميهم بالخشب والجندل حتى إذا مثل بهم كل مثلة رفع بهم القصر حتى إذا أقلة بهم فصاروا فيه منكسين انطلق إلى أيوب متمثلا بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه متغير لا يكاد يعرف من شدة التغير والمثلة التي جاء متمثلا فيها فلما نظر إليه أيوب هاله وحزن ودمعت عيناه وقال له يا أيوب لو رأيت كيف أفلت من حيث أفلت والذي رمانا به من فوقنا ومن تحتنا ولو رأيت بنيك كيف عذبوا وكيف مثل بهم وكيف قلبوا فكانوا منكسين على رؤوسهم تسيل دماؤهم ودماغهم من أنوفهم وأجوافهم وتقطر من أشفارهم ولو رأيت كيف شقت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم ولو رأيت كيف قذفوا بالخشب والجندل يشدخ دماغهم وكيف دق الخشب عظامهم وخرق جلودهم وقطع عصبهم ولو رأيت العصب عريانا ولو رأيت العظام متهشمة في الأجواف ولو رأيت الوجوه مشدوخة ولو رأيت الجدر تناطح عليهم ولو رأيت ما رأيت قطع قلبك فلم يزل يقول هذا ونحوه ولم يزل يرققه حتى رق أيوب فبكي وقبض قبضة من تراب فوضعها على رأسه فاغتنم إبليس الفرصة منه عند ذلك فصعد سريعا بالذي كان من جزع أيوب مسرورا به ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر فاستغفر وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبة منه فبدروا إبليس إلى الله فوجدوه قد علم بالذي رفع إليه من توبة أيوب فوقف إبليس خازيا ذليلا فقال يا إلهي إنما هون على أيوب خطر المال والولد أنه يرى أنك ما متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد فهل أنت مسلطي على جسده فأنا لك زعيم لئن ابتليته في جسده لينسينك وليكفرن بك وليجحدنك نعمتك قال الله انطلق فقد سلطتك على جسده ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه ولا على عقله فانقض عدو الله جوادا فوجد أيوب ساجدا فعجل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قبل الأرض في موضع وجهه فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده فترهل ونبتت به ثآليل مثل أليات الغنم ووقعت فيه حكة لا يملكها فحك بأظفاره حتى سقطت كلها ثم حك بالعظام وحك بالحجارة الخشنة وبقطع المسوح الخشنة فلم يزل يحكه حتى نفد لحمه وتقطع ولما نغل جلد أيوب وتغير وانتن أخرجه أهل القرية فجعلوه على تل وجعلوا له عريشا ورفضه خلق الله غير امرأته فكانت تختلف إليه بما يصلحه ويلزمه وكان ثلاثة من أصحابه اتبعوه على دينه فلما رأوا ما ابتلاه الله به رفضوه من غير أن يتركوا دينه واتهموه يقال لأحدهم بلدد وأليفز وصافر قال فانطلق إليه الثلاثة وهو في بلائه فبكتوه فلما سمع منهم أقبل على ربه فقال أيوب صلى الله عليه وسلم رب لأي شيء خلقتني لو كنت إذ كرهتني في الخير تركتني فلم تخلقني يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي ويا ليتني مت في بطنها فلم أعرف شيئا ولم تعرفني ما الذنب الذي أذنبت لم يذنبه أحد غيري وما العمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي فالموت كان أجمل بي فأسوة لي بالسلاطين الذين صفت من دونهم الجيوش يضربون عنهم بالسيوف بخلا بهم عن الموت وحرصا على بقائهم أصبحوا في القبور جاثمين حتى ظنوا أنهم سيخلدون وأسوة لي بالملوك الذين كنزوا الكنوز وطمروا المطامير وجمعوا الجموع وظنوا أنهم سيخلدون وأسوة لي بالجبارين الذين بنوا المدائن والحصون وعاشوا فيها المئين من السنين ثم أصبحت خرابا مأوى للوحوش ومثنى للشياطين قال أليفز التيماني قد أعيانا أمرك يا أيوب إن كلمناك فما نرجو للحديث منك موضعا وإن نسكت عنك مع الذي نرى فيك من البلاء فذلك علينا قد كنا نرى من أعمالك أعمالا كنا نرجو لك عليها من الثواب غير ما رأينا فإنما يحصد امرؤ ما زرع ويجزى بما عمل أشهد على الله الذي لا يقدر قدر عظمته ولا يحصى عدد نعمه الذي ينزل الماء من السماء فيحيي به الميت ويرفع به الخافض ويقوي به الضعيف الذي تضل حكمة الحكماء عند حكمته وعلم العلماء عند علمه حتى تراهم من العي في ظلمة يموجون أن من رجا معونة الله هو القوي وإن من توكل عليه هو المكفي هو الذي يكسر ويجبر ويجرح ويداوي قال أيوب لذلك سكت فعضضت على لساني ووضعت لسوء الخدمة رأسي لأني علمت أن عقوبته غيرت نور وجهي وأن قوته نزعت قوة جسدي فأنا عبده ما قضي علي أصابني ولا قوة لي إلا ما حمل علي لو كانت عظامي من حديد وجسدي من نحاس وقلبي من حجارة لم أطق هذا الأمر ولكن هو ابتلاني وهو يحمله عني أتيتموني غضابا رهبتم قبل أن تسترهبوا وبكيتم من قبل أن تضربوا كيف بي لو قلت لكم تصدقوا عني بأموالكم لعل الله أن يخلصني أو قربوا عني قربانا لعل الله أن يتقبله مني ويرضى عني إذا استيقظت تمنيت النوم رجاء أن أستريح فإذا نمت كادت تجود نفسي تقطعت أصابعي فإني لأرفع اللقمة من الطعام بيدي جميعا فما تبلغان فمي إلا على الجهد مني تساقطت لهواتي ونخر رأسي فما بين أذني من سداد حتى إن إحداهما لترى من الأخرى وإن دماغي ليسيل من فمي تساقط شعري عني فكأنما حرق بالنار وجهي وحدقتاي هما متدليتان على خدي ورم لساني حتى ملأ فمي فما أدخل فيه طعاما إلا غصني وورمت شفتاي حتى غطت العليا أنفي والسفلى ذقني تقطعت أمعائي في بطني فإني لأدخل الطعام فيخرج كما دخل ما أحسه ولا ينفعني ذهبت قوة رجلي فكأنهما قربتا ماء ملئتا لا أطيق حملهما أحمل لحافي بيدي وأسناني فما أطيق حمله حتى يحمله معي غيري ذهب المال فصرت أسأل بكفي فيطعمني من كنت أعوله اللقمة الواحدة فيمنها علي ويعيرني هلك بني وبناتي ولو بقي منهم أحد أعانني على بلائي ونفعني وليس العذاب بعذاب الدنيا إنه يزول عن أهلها ويموتون عنه ولكن طوبى لمن كانت له راحة في الدار التي لا يموت أهلها ولا يتحولون عن منازلهم السعيد من سعد هنالك والشقي من شقي فيها قال بلدد كيف يقوم لسانك بهذا القول وكيف تفصح به أتقول إن العدل يجور أم تقول إن القوي يضعف ابك على خطيئتك وتضرع إلى ربك عسى أن يرحمك ويتجاوز عن ذنبك وعسى إن كنت بريئا أن يجعل هذا لك ذخرا في آخرتك وإن كان قلبك قد قسا فإن قولنا لن ينفعك ولن يأخذ فيك هيهات أن تنبت الآجام في المفاوز وهيهات أن ينبت البردي في الفلاة من توكل على الضعيف كيف يرجو أن يمنعه ومن جحد الحق كيف يرجو أن يوفى حقه قال أيوب إني لأعلم أن هذا هو الحق لن يفلج العبد على ربه ولا يطيق أن يخاصمه فأي كلام لي معه وإن كان إلي القوة هو الذي سمك السماء فأقامها وحده وهو الذي يكشطها إذا شاء فتنطوي له وهو الذي سطح الأرض فدحاها وحده ونصب فيها الجبال الراسيات ثم هو الذي يزلزلها من أصولها حتى تعود أسافلها أعاليها وإن كان في الكلام فأي كلام لي معه من خلق العرش العظيم بكلمة واحدة فحشاه السماوات والأرض وما فيهما من الخلق فوسعه وهو في سعة واسعة وهو الذي كلم البحار ففهمت قوله وأمرها فلم تعد أمره وهو الذي يفقه الحيتان والطير وكل دابة وهو الذي يكلم الموتى فيحييهم قوله ويكلم الحجارة فتفهم قوله ويأمرها فتطيعه قال أليفز عظيم ما تقول يا أيوب إن الجلود لتقشعر من ذكر ما تقول إن ما أصابك ما أصابك بغير ذنب أذنبته مثل هذه الحدة وهذا القول أنزلك هذه المنزلة عظمت خطيئتك وكثر طلابك وغصبت أهل الأموال على أموالهم فلبست وهم عراة وأكلت وهم جياع وحبست عن الضعيف بابك وعن الجائع طعامك وعن المحتاج معروفك وأسررت ذلك وأخفيته في بيتك وأظهرت أعمالا كنا نراك تعملها فظننت أن الله لا يجزيك إلا على ما ظهر منك وظننت أن الله لا يطلع على ما غيبت في بيتك وكيف لا يطلع على ذلك وهو يعلم ما غيبت الأرضون وما تحت الظلمات والهواء قال أيوب صلى الله عليه وسلم إن تكلمت لم ينفعني الكلام وإن سكت لم تعذروني قد وقع علي كيدي وأسخطت ربي بخطيئتي وأشمت أعدائي وأمكنتهم من عنقي وجعلتني للبلاء غرضا وجعلتني للفتنة نصبا لم تنفسني مع ذلك ولكن أتبعني ببلاء على إثر بلاء ألم أكن للغريب دارا وللمسكين قرارا ولليتيم وليا وللأرملة قيما ما رأيت غريبا إلا كنت له دارا مكان داره وقرارا مكان قراره ولا رأيت مسكينا إلا كنت له مالا مكان ماله وأهلا مكان أهله وما رأيت يتيما إلا كنت له أبا مكان أبيه وما رأيت أيما إلا كنت لها قيما ترضى قيامه وأنا عبد ذليل إن أحسنت لم يكن لي كلام بإحسان لأن المن لربي وليس لي وإن أسأت فبيده عقوبتي وقد وقع علي بلاء لو سلطته على جبل ضعف عن حمله فكيف يحمله ضعفي قال أليفز أتحاج الله يا أيوب في أمره أم تريد أن تناصفه وأنت خاطئ أو تبرئها وأنت غير بريء خلق السماوات والأرض بالحق وأحصى ما فيهما من الخلق فكيف لا يعلم ما أسررت وكيف لا يعلم ما عملت فيجزيك به وضع الله ملائكة صفوفا حول عرشه وعلى أرجاء سمواته ثم احتجب بالنور فأبصارهم عنه كليلة وقوتهم عنه ضعيفة وعزيزهم عنه ذليل وأنت تزعم أن لو خاصمك وأدلي إلى الحكم معك وهل تراه فتناصفه أم هل تسمعه فتحاوره قد عرفنا فيك قضاءه إنه من أراد أن يرتفع وضعه ومن اتضع له رفعه ال أيوب e إن أهلكني فمن ذا الذي يعرض له في عبده ويسأله عن أمره لا يرد غضبه شيء إلا رحمته ولا ينفع عبده إلا التضرع له قال رب أقبل علي برحمتك وأعلمني ما ذنبي الذي أذنبت أو لأي شيء صرفت وجهك الكريم عني وجعلتني لك مثل العدو وقد كنت تكرمني ليس يغيب عنك شيء تحصى قطر الأمطار وورق الأشجار وذر التراب أصبح جلدي كالثوب العفن بأيه أمسكت سقط في يدي فهب لي قربانا من عندك وفرجا من بلائي بالقدرة التي تبعث موتى العباد وتنشر بها ميت البلاد ولا تهلكني بغير أن تعلمني ما ذنبي ولا تفسد عمل يديك وإن كنت غنيا عني ليس ينبغي في حكمك ظلم ولا في نقمتك عجل وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف وإنما يعجل من يخاف الفوت ولا تذكرني خطئي وذنوبي اذكر كيف خلقتني من طين فجعلتي مضغة ثم خلقت المضغة عظاما وكسوت العظام لحما وجلدا وجعلت العصب والعروق لذلك قواما وشدة وربيتني صغيرا ورزقتني كبيرا ثم حفظت عهدك وفعلت أمرك فإن أخطأت فبين لي ولا تهلكني غما وأعلمني ذنبي فإن لم أرضك فأنا أهل أن تعذبني وإن كنت من بين خلقك تحصي علي عملي وأستغفرك فلا تغفر لي إن أحسنت لم أرفع رأسي وإن أسأت لم تبلعني ريقي ولم تقلني عثرتي وقد ترى ضعفي تحتك وتضرعي لك فلم خلقتني أو لم أخرجتني من بطن أمي لو كنت كمن لم يكن لكان خيرا لي فليست الدنيا عندي بخطر لغضبك وليس جسدي يقوم بعذابك فارحمني وأذقني طعم العافية من قبل أن أصير إلى ضيق القبر وظلمة الأرض وغم الموت قال صافر قد تكلمت يا أيوب وما يطيق أحد أن يحبس فمك تزعم أنك بريء فهل ينفعك إن كنت بريئا وعليك من يحصي عملك وتزعم أنك تعلم أن الله يغفر لك ذنوبك هل تعلم سمك السماء كم بعده أم هل تعلم عمق الهواء كم بعده أم هل تعلم أي الأرض أعرضها أم عندك لها من مقدار تقدرها به أم هل تعلم أي البحر أعمقه أم هل تعلم بأي شيء تحبسه فإن كنت تعلم هذا العلم وإن كنت لا تعلمه فإن الله خلقه وهو يحصيه لو تركت كثرة الحديث وطلبت إلى ربك رجوت أن يرحمك فبذلك تستخرج رحمته وإن كنت تقيم على خطيئتك وترفع إلى الله يديك عند الحاجة وأنت مصر على ذنبك إصرار الماء الجاري في صبب لا يستطاع إحباسه فعند طلب الحاجات إلى الرحمن تسود وجوه الأشرار وتظلم عيونهم وعند ذلك يسر بنجاح حوائجهم الذين تركوا الشهوات تزينا بذلك عند ربهم وتقدموا في التضرع ليستحقوا بذلك الرحمة حين يحتاجون إليها وهم الذين كابدوا الليل واعتزلوا الفرش وانتظروا الأسحار قال أيوب أنتم قوم قد أعجبتكم أنفسكم وقد كنت فيما خلا والرجال يوقرونني وأنا معروف حقي منتصف من خصمي قاهر لمن هو اليوم يقهرني يسألني عن علم غيب الله لا أعلمه ويسألني فلعمري ما نصح الأخ لأخيه حين نزل به البلاء كذلك ولكنه يبكي معه وإن كنت جادا فإن عقلي يقصر عن الذي تسألني عنه فسل طير السماء هل تخبرك وسل وحوش الأرض هل ترجع إليك وسل سباع البرية هل تجيبك وسل حيتان البحر هل تصف لك كل ما عددت تعلم أن صنع هذا بحكمته وهيأه بلطفه أما يعلم بن آدم من الكلام ما سمع بأذنيه وما طعم بفيه وما شم بأنفه وأن العلم الذي سألت عنه لا يعلمه إلا الله الذي خلقه له الحكمة والجبروت وله العظمة واللطف وله الجلال والقدرة إن أفسد فمن ذا الذي يصلح وإن أعجم فمن ذا الذي يفصح إن نظر إلى البحار يبست من خوفه وإن أذن لها ابتلعت الأرض فإنما يحملها بقدرته هو الذي تبهت الملوك عند ملكه وتطيش العلماء عند علمه وتعيا الحكماء عند حكمته ويخسأ المبطلون عند سلطانه هو الذي يذكر المنسي وينسى المذكور ويجري الظلمات والنور هذا علمي وخلقه أعظم من أن يحصيه عقلي وعظمته أعظم من أن يقدرها مثلي قال بلدد إن المنافق يجزى بما أسر من نفاقه وتضل عنه العلانية التي خادع بها وتوكل على الجزاء بها الذي عملها ويهلك ذكره من الدنيا ويظلم نوره في الآخرة ويوحش سبيله وتوقعه في الأحبولة سريرته وينقطع اسمه من الأرض فلا ذكر فيها ولا عمران لا يرثه ولد مصلحون من بعده ولا يبقى له أصل يعرف به ويبهت من يراه وتقف الأشعار عند ذكره قال أيوب إن أكن غويا فعلي غواي وإن أكن بريا فأي منعة عندي إن صرخت فمن ذا الذي يصرخني وإن سكت فمن ذا الذي يعذرني ذهب رجائي وانقضت أحلامي وتنكرت لي معارفي دعوت غلامي فلم يجبني وتضرعت لأمتي فلم ترحمني وقع علي البلاء فرفضوني أنتم كنتم أشد علي من مصيبتي انظروا وابهتوا من العجائب التي في جسدي أما سمعتم بما أصابني وما شغلكم عني ما رأيتم بي لو كان عبد يخاصم ربه رجوت أن أتغلب عند الحكم ولكن لي ربا جبارا تعالى فوق سمواته وألقاني ها هنا وهنت عليه لا هو عذرني بعذري ولا هو أدناني فأخاصم عن نفسي يسمعني ولا أسمعه ويراني ولا أراه وهو محيط بي ولو تجلى لي لذابت كليتاي وصعق روحي ولو نفسني فأتكلم بملء فمي ونزع الهيبة مني علمت بأي ذنب عذبني نودي فقيل يا أيوب قال لبيك قال أنا هذا قد دنوت منك فقم فأشدد إزارك وقم مقام جبار فإنه لا ينبغي لي أن يخاصمني إلا جبار مثلي ولا ينبغي أن يخاصمني إلا من يجعل الزمام في فم الأسد والسخال في فم العنقاء واللحم في فم التنين ويكيل مكيالا من النور ويزن مثقالا من الريح ويصر صرة من الشمس ويرد أمس لغد لقد منتك نفسك أمرا ما يبلغ بمثل قوتك ولو كنت إذ منتك نفسك ذلك ودعتك إليه تذكرت أي مرام رامت بك أردت أن تخاصمني بغيك أم أردت أن تحاجيني بخطئك أم أردت أن تكاثرني بضعفك أين كنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها هل علمت بأي مقدار قدرتها أم كنت معي تمر بأطرافها أم تعلم ما بعد زواياها أم على أي شيء وضعت أكنافها أبطاعتك حمل الماء الأرض أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا في الهواء لا بعلائق ثبتت من فوقها ولا يحملها دعائم من تحتها هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها أو تسير نجومها أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها أين كنت مني يوم سجرت البحار وأنبعت الأنهار أقدرتك حبست أمواج البحار على حدودها أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدتها أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال هل لك من ذراع تطيق حملها أم هل تدري كم من مثقال فيها أم أين الماء الذي أنزل من السماء هل تدري أم تلده أو أب يولده أحكمتك أحصت القطر وقسمت الأرزاق أم قدرتك تثير السحاب وتغشيه الماء هل تدري ما أصوات الرعود أم من أي شيء لهب البروق هل رأيت عمق البحور أم هل تدري ما بعد الهواء أم هل خزنت أرواح الأموات أم هل تدري أين خزانة الثلج أو أين خزائن البرد أم أين جبال البرد أم هل تدري أين خزانة الليل بالنهار وأين خزانة النهار بالليل وأين طريق النور وبأي لغة تتكلم الأشجار وأين خزانة الريح وكيف تحبسه الأغلاق ومن جعل العقول في أجواف الرجال ومن شق الأسماع والأبصار ومن ذلت الملائكة لملكه وقهر الجبارين بجبروته وقسم أرزاق الدواب بحكمته ومن قسم للأسد أرزاقها وعرف الطير معايشها وعطفها على أفراخها من أعتق الوحش من الخدمة وجعل مساكنها البرية لا تستأنس بالأصوات ولا تهاب المسلطين أمن حكمتك تفرعت أفراخ الطير وأولاد الدواب لأمهاتها أم من حكمتك عطفت أمهاتها عليها حتى أخرجت لها الطعام من بطونها وآثرتها بالعيش على نفوسها أم من حكمتك يبصر العقاب فأصبح في أماكن القتلى أين أنت مني يوم خلقت بهموت مكانه في منقطع التراب والوتينان يحملان الجبال والقرى والعمران آذانهما كأنها شجر الصنوبر الطوال رؤسهما كأنها آكام الجبال وعروق أفخاذهما كأنها أوتاد الحديد وكأن جلودهما فلق الصخور وعظامهما كأنها عمد النحاس هما رأسا خلقي الذين خلقت للقتال أأنت ملأت جلودهما لحما أم أنت ملأت رؤسهما دماغا أم هل لك في خلقهما من شرك أم لك بالقوة التي عملتهما يدان أو هل يبلغ من قوتك أن تخطم على أنوفهما أو تضع يدك على رؤسهما أو تقعد لهما على طريق فتحبسهما أو تصدهما عن قوتهما أين أنت يوم خلقت التنين ورزقه في البحر ومسكنه في السحاب عيناه توقدان نارا ومنخراه يثوران دخانا أذناه مثل قوس السحاب يثور منهما لهب كأنه إعصار العجاج جوفه يحترق ونفسه يلتهب وزبده كأمثال الصخور وكأن صريف أسنانه صوت الصواعق وكأن نظر عينيه لهب البرق أسراره لا تدخله الهموم تمر به الجيوش وهو متكئ لا يفزعه شيء ليس فيه مفصل زبر الحديد عنده مثل التبن والنحاس عنده مثل الخيوط لا يفزع من النشاب ولا يحس وقع الصخور على جسده ويضحك من النيازك ويسير في الهواء كأنه عصفور ويهلك كل شيء يمر به ملك الوحوش وإياه آثرت بالقوة على خلقي هل أنت آخذه بأحبولتك فرابطه بلسانه أو واضع اللجام في شدقه أتظنه يوفي بعهدك أو يسبح من خوفك هل تحصي عمره أم هل تدري أجله أو تفوت رزقه أم هل تدري ماذا خرب من الأرض أم ماذا يخرب فيما بقي من عمره أتطيق غضبه حين يغضب أم تأمره فيطيعك تبارك الله وتعالى قال أيوب صلى الله عليه وسلم قصرت عن هذا الأمر الذي تعرض لي ليت الأرض انشقت بي فذهبت في بلائي ولم أتكلم بشيء يسخط ربي اجتمع علي البلاء إلهي جعلتني لك مثل العدو وقد كنت تكرمني وتعرف نصحي وقد علمت أن الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك وأعظم من هذا ما شئت عملت لا يعجزك شيء ولا يخفي عليك خافية ولا تغيب عنك غائبة من هذا الذي يظن أن يسر عنك سرا وأنت تعلم ما يخطر على القلوب وقد علمت منك في بلائي هذا ما لم أكن أعلم وخفت حين بلوت أمرك أكثر مما كنت أخاف إنما كنت أسمع بسطوتك سمعا فأما الآن فهو بصر العين إنما تكلمت حين تكلمت لتعذرني وسكت حين سكت لترحمني كلمة زلت فلن أعود قد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني وألصقت بالتراب خدي ودست وجهي لصغاري وسكت كما أسكتتني خطيئتي فاغفر لي ما قلت فلن أعود لشيء تكرهه مني قال الله تبارك وتعالى يا أيوب نفذ فيك علمي وبحلمي صرفت عنك غضبي إذ خطئت فقد غفرت لك ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم فاغتسل بهذا الماء فإن فيه شفاءك وقرب عن صحابتك قربانا واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك حدثنا بن حميد قال ثنا سلمة قال ثني محمد بن إسحاق عمن لا يتهم عن وهب بن منبه اليماني وغيره من أهل الكتب الأول أنه كان من حديث أيوب أنه كان رجلا من الروم وكان الله قد اصطفاه ونبأه وابتلاه في الغنى بكثرة الولد والمال وبسط عليه من الدنيا فوسع عليه في الرزق وكانت له البثنية من أرض الشام أعلاها وأسفلها وسهلها وجبلها وكان له فيها من أصناف المال كله من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير ما لا يكون للرجل أفضل منه في العدة والكثرة وكان الله قد أعطاه أهلا وولدا من رجال ونساء وكان برا تقيا رحيما بالمساكين يطعم المساكين ويحمل الأرامل ويكفل الأيتام ويكرم الضيف ويبلغ بن السبيل وكان شاكرا لأنعم الله عليه مؤديا لحق الله في الغنى قد امتنع من عدو الله إبليس أن يصيب منه ما أصاب من أهل الغنى من العزة والغفلة والسهو والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا وكان معه ثلاثة قد آمنوا به وصدقوه وعرفوا فضل ما أعطاه الله على من سواه منهم رجل من أهل اليمن يقال له أليفز ورجلان من أهل بلاده يقال لأحدهما صوفر وللآخر بلدد وكانوا من بلاده كهولا وكان لإبليس عدو الله منزل من السماء السابعة يقع به كل سنة موقعا يسأل فيه فصعد إلى السماء في ذلك اليوم الذي كان يصعد فيه فقال الله له أو قيل له عن الله هل قدرت من أيوب عبدي على شيء قال أي رب وكيف أقدر منه على شيء أو إنما ابتليته بالرخاء والنعمة والسعة والعافية وأعطيته الأهل والمال والولد والغنى والعافية في جسده وأهله وماله فما له لا يشكرك ويعبدك ويطيعك وقد صنعت ذلك به لو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما كان عليه من شكرك ولترك عبادتك ولخرج من طاعتك إلى غيرها أو كما قال عدو الله فقال قد سلطتك على أهله وماله وكان الله هو أعلم به ولم يسلطه عليه إلا رحمة ليعظم له الثواب بالذي يصيبه من البلاء وليجعله عبرة للصابرين وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم ليتأسوا به وليرجوا من عاقبة الصبر في عرض الدنيا ثواب الآخرة وما صنع الله بأيوب فانحط عدو الله سريعا فجمع عفاريت الجن ومردة الشياطين من جنوده فقال إني قد سلطت على أهل أيوب وماله فماذا عليكم فقال قائل منهم أكون إعصارا فيه نار فلا أمر بشيء من ماله إلا أهلكته قال أنت وذاك فخرج حتى أتى إبله فأحرقها ورعاتها جميعا ثم جاء عدو الله إلى أيوب في صورة قيمه عليها هو في مصلى فقال يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك فأحرقتها ومن فيها غيري فجئتك أخبرك بذلك فعرفه أيوب فقال الحمد لله الذي هو أعطاها وهو أخذها الذي أخرجك منها كما يخرج الزؤان من الحب النقي ثم انصرف عنه فجعل يصيب ماله مالا مالا حتى مر على آخره كلما انتهى إليه هلاك مال من ماله حمد الله وأحسن عليه الثناء ورضي بالقضاء ووطن نفسه بالصبر على البلاء حتى إذا لم يبق له مال أتى أهله وولده وهم في قصر لهم معهم حظيانهم وخدامهم فتمثل ريحا عاصفا فاحتمل القصر من نواحيه فألقاه على أهله وولده فشدخهم تحته ثم أتاه في صورة قهرمانه عليهم قد شدخ وجهه فقال يا أيوب قد أتت ريح عاصف فاحتملت القصر من نواحيه ثم ألقته على أهلك وولدك فشدختهم غيري فجئتك أخبرك ذلك فلم يجزع على شيء أصابه جزعه على أهله وولده وأخذ ترابا فوضعه على رأسه ثم قال ليت أمي لم تلدني ولم أك شيئا وسر بها عدو الله منه فأصعد إلى السماء جذلا وراجع أيوب التوبة مما قال فحمد الله فسبقت توبته عدو الله إلى الله فلما جاء وذكر ما صنع قيل له قد سبقتك توبته إلى الله ومراجعته قال أي رب فسلطني على جسده قال قد سلطتك على جسده إلا على لسانه وقلبه ونفسه وسمعه وبصره فأقبل إليه عدو الله وهو ساجد فنفخ في جسده نفخة أشعل ما بين قرنه إلى قدمه كحريق النار ثم خرج في جسده ثآليل كأليات الغنم فحك بأظفاره حتى ذهبت ثم بالفخار والحجارة حتى تساقط لحمه فلم يبق منه إلا العروق والعصب والعظام عيناه تجولان في رأسه للنظر وقلبه للعقل ولم يخلص إلى شيء من حشو البطن لأنه لا بقاء للنفس إلا بها فهو يأكل ويشرب على التواء من حشوته فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث فحدثنا بن حميد قال ثنا سلمة عن بن إسحاق عن بن دينار عن الحسن أنه كان يقول مكث أيوب في ذلك البلاء سبع سنين وستة أشهر ملقى على رماد مكنسة في جانب القرية قال وهب بن منبه ولم يبق من أهله إلا امرأة واحدة تقوم عليه وتكسب له ولا يقدر عدو الله منه على قليل ولا كثير مما يريد فلما طال البلاء عليه وعليها وسئمها الناس وكانت تكسب عليه ما تطعمه وتسقيه قال وهب بن منبه فحدثت أنها التمست له يوما من الأيام تطعمه فما وجدت شيئا حتى جزت قرنا من رأسها فباعته برغيف فأتته به فعشته إياه فلبث في ذلك البلاء تلك السنين حتى إن كان المار ليمر فيقول لو كان لهذا عند الله خير لأراحه مما هو فيه حدثنا بن حميد قال ثنا سلمة قال فحدثني محمد بن إسحاق قال وكان وهب بن منبه يقول لبث في ذلك البلاء ثلاث سنين لم يزد يوما واحدا فلما غلبه أيوب فلم يستطع منه شيئا اعترض لامرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والطول على مركب ليس من مراكب الناس له عظم وبهاء وجمال ليس لها فقال لها أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلي قالت نعم قال هل تعرفينني قالت لا قال فأنا إله الأرض وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كل ما كان لكما من مال وولد فإنه عندي ثم أراها إياهم فيما ترى ببطن الوادي الذي لقيها فيه قال وقد سمعت أنه إنما قال لو أن صاحبك أكل طعاما ولم يسم عليه لعوفي مما به من البلاء والله أعلم وأراد عدو الله أن يأتيه من قبلها فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها وما أراها قال أو قد أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك ثم أقسم إن الله عافاه ليضربنها مئة ضربة فلما طال عليه البلاء جاءه أولئك النفر الذين كانوا معه قد آمنوا به وصدقوه معهم فتى حديث السن قد كان آمن به وصدقه فجلسوا إلى أيوب ونظروا إلى ما به من البلاء فأعظموا ذلك وفظعوا به وبلغ من أيوب صلوات الله عليه مجهوده وذلك حين أراد الله أن يفرج عنه ما به فلما رأى أيوب ما أعظموا مما أصابه قال أي رب لأي شيء خلقتني ولو كنت إذ قضيت علي البلاء تركتني فلم تخلقني ليتني كنت دما ألقتني أمي ثم ذكر نحو حديث بن عسكر عن إسماعيل بن عبد الكريم إلى وكابدوا الليل واعتزلوا الفراش وانتظروا الأسحار ثم زاد فيه أولئك الآمنون الذي لا يخافون ولا يهتمون ولا يحزنون فأين عاقبة أمرك يا أيوب من عواقبهم قال فتى حضرهم وسمع قولهم ولم يفطنوا له ولم يأبهوا لمجلسه وإنما قيضه الله لهم لما كان من جورهم في المنطق وشططهم فأراد الله أن يصغر به إليهم أنفسهم وأن يسفه بصغره لهم أحلامهم فلما تكلم تمادى في الكلام فلم يزدد إلا حكما وكان القوم من شأنهم الاستماع والخشوع إذا وعظوا أو ذكروا فقال إنكم تكلمتم قبلي أيها الكهول وكنتم أحق بالكلام وأولى به مني لحق أسنانكم ولأنكم جربتم قبلي ورأيتم وعلمتم ما لم أعلم وعرفتم ما لم أعرف ومع ذلك قد تركتم من القول أحسن من الذي قلتم ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم ومن الموعظة أحكم من الذي وصفتم وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم هل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم ولم تعلموا أيها الكهول أن أيوب نبي الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض يومكم هذا اختاره الله لوحيه واصطفاه لنفسه وأتمنه على نبوته ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله على أنه سخط شيئا من أمره مذ آتاه ما آتاه إلى يومكم هذا ولا على أنه نزع منه شيئا من الكرامة التي أكرمه بها مذ آتاه ما آتاه إلى يومكم هذا ولا أن أيوب غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن الله يبتلي النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ثم ليس بلاؤه لأولئك بدليل سخطه عليهم ولا لهوانه لهم ولكنها كرامة وخيرة لهم ولو كان أيوب ليس من الله بهذه المنزلة ولا في النبوة ولا في الأثرة ولا في الفضيلة ولا في الكرامة إلا أنه أخ أحببتموه على وجه الصحابة لكان لا يجمل بالحكيم أن يعذل أخاه عند البلاء ولا يعيره بالمصيبة بما لا يعلم وهو مكروب حزين ولكن يرحمه ويبكي معه ويستغفر له ويحزن لحزنه ويدله على مراشد أمره وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا فالله الله أيها الكهول في أنفسكم قال ثم أقبل على أيوب e فقال وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع لسانك ويكسر قلبك وينسيك حججك ألم تعلم يا أيوب أن لله عبادا أسكتتهم خشيته من غير عي ولا بكم وإنهم لهم الفصحاء النطقاء النبلاء الألباء العالمون بالله وبآياته ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم واقشعرت جلودهم وانكسرت قلوبهم وطاشت عقولهم إعظاما لله وإعزازا وإجلالا فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعدون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين وإنهم لأنزاه برآء ومع المقصرين والمفرطين وإنهم لأكياس أقوياء ولكنهم لا يستكثرون لله الكثير ولا يرضون لله بالقليل ولا يدلون عليه بالأعمال فهم مروعون مفزعون مغتمون خاشعون وجلون مستكينون معترفون متى ما رأيتهم يا أيوب قال أيوب إن الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير فمتى نبتت في القلب يظهرها الله على اللسان وليست تكون الحكمة من قبل السن ولا الشبيبة ولا طول التجربة وإذا جعل الله العبد حكيما في الصيام لم يسقط منزله عند الحكماء وهم يرون عليه من الله نور الكرامة ولكنكم قد أعجبتكم أنفسكم وظننتم أنكم عوفيتم باحسانكم فهنالك بغيتم وتعززتم ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم ثم صدقتم أنفسكم لوجدتم لكم عيوبا سترها الله بالعافية التي ألبسكم ولكني قد أصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم قد كنت فيما خلا مسموعا كلامي معروفا حقي منتصفا من خصمي قاهرا لمن هو اليوم يقهرني مهيبا مكاني والرجال مع ذلك ينصتون لي ويوقروني فأصبحت اليوم قد انقطع رجائي ورفع حذري وملني أهلي وعقني أرحامي وتنكرت لي معارفي ورغب عني صديقي وقطعني أصحابي وكفرني أهل بيتي وجحدت حقوقي ونسيت صنائعي أصرخ فلا يصرخونني وأعتذر فلا يعذرونني وإن قضاءه هو الذي أذلني وأقمأني وأخسأني وإن سلطانه هو الذي أسقمني وأنحل جسمي ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي ثم كان ينبغي للعبد أن يحاج عن نفسه لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي ولكنه ألقاني وتعالى عني فهو يراني ولا أراه ويسمعني ولا أسمعه لا نظر إلي فرحمني ولا دنا مني ولا أدناني فأدلي بعذري وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي لما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب ثم نودي منه ثم قيل له يا أيوب إن الله يقول ها أنا ذا قد دنوت منك ولم أزل منك قريبا فقم فأدل بعذرك الذي زعمت وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد إزارك ثم ذكر نحو حديث بن عسكر عن إسماعيل إلى آخره وزاد فيه ورحمتي سبقت غضبي فاركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فيه شفاؤك وقد وهبت لك أهلك ومثلهم معهم ومالك ومثله معه وزعموا ومثله معه لتكون لمن خلفك آية ولتكون عبرة لأهل البلاء وعزاء للصابرين فركض برجله فانفجرت له عين فدخل فيها فاغتسل فأذهب الله عنه كل ما كان به من البلاء ثم خرج فجلس وأقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه فلم تجده فقامت كالوالهة متلددة ثم قالت يا عبد الله هل لك علم بالرجل المبتلي الذي كان ها هنا قال لا ثم تبسم فعرفته بمضحكه فاعتنقته حدثنا بن حميد قال ثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبهقال فحدثت عبد الله بن عباس حديثه واعتناقها إياه فقال عبد الله فوالذي نفس عبد الله بيده ما فارقته من عناقه حتى مر بها كل مال لهما وولد حدثنا بن حميد قال ثنا سلمة عن بن إسحاق قال وقد سمعت بعض من يذكر الحديث عنه أنه دعاها حين سألت عنه فقال لها وهل تعرفينه إذا رأيته قالت نعم ومالي لا أعرفه فتبسم ثم قال ها أنا هو وقد فرج الله عني ما كنت فيه فعند ذلك اعتنقته قال وهب فأوحى الله في قسمه ليضربنها في الذي كلمته أن وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث أي قد برت يمينك يقول الله تعالى إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب يقول الله ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي قال ثنا فضيل بن عياض عن هشام عن الحسن قال لقد مكث أيوب مطروحا على كناسة سبع سنين وأشهرا ما يسأل الله أن يكشف ما به قال وما على وجه الأرض خلق أكرم على الله من أيوب فيزعمون أن بعض الناس قال لو كان لرب هذا فيه حاجة ما صنع به هذا فعند ذلك دعا حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ثنا بن علية عن يونس عن الحسن قال بقي أيوب على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا تختلف عليه الدواب حدثني محمد بن إسحاق قال ثنا يحيى بن معين قال ثنا بن عيينة عن عمرو عن وهب بن منبه قال لم يكن بأيوب أكلة إنما كان يخرج به مثل ثدي النساء ثم ينقفه حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثنا مخلد بن حسين عن هشام عن الحسن وحجاج عن مبارك عن الحسن زاد أحدهما على الآخر قال إن أيوب آتاه الله مالا وأوسع عليه وله من النساء والبقر والغنم والإبل وإن عدو الله إبليس قيل له هل تقدر أن تفتن أيوب قال رب إن أيوب أصبح في دنيا من مال وولد ولا يستطيع أن لا يشكرك ولكن سلطني على ماله وولده فسترى كيف يطيعني ويعصيك قال فسلطه على ماله وولده قال فكان يأتي بالماشية من ماله من الغنم فيحرقها بالنيران ثم يأتي أيوب وهو يصلي متشبها براعي الغنم فيقول يا أيوب تصلي لربك ما ترك الله لك من ماشيتك شيئا من الغنم إلا أحرقها بالنيران وكنت ناحية فجئت لأخبرك قال فيقول أيوب اللهم أنت أعطيت وأنت أخذت مهما تبقي نفسي أحمدك على حسن بلائك فلا يقدر منه على شيء مما يريد ثم يأتي ماشيته من البقر فيحرقها بالنيران ثم يأتي أيوب فيقول له ذلك ويرد عليه أيوب مثل ذلك قال وكذلك فعل بالإبل حتى ما ترك له من ماشية حتى هدم البيت على ولده فقال يا أيوب أرسل الله على ولدك من هدم عليهم البيوت حتى هلكوا فيقول أيوب مثل ذلك قال رب هذا حين أحسنت إلي الإحسان كله قد كنت قبل اليوم يشغلني حب المال بالنهار ويشغلني حب الولد بالليل شفقة عليهم فالآن أفرغ سمعي وبصري وليلي ونهاري بالذكر والحمد والتقديس والتهليل فينصرف عدو الله من عنده لم يصب منه شيئا مما يريد قال ثم إن الله تبارك وتعالى قال كيف رأيت أيوب قال إبليس أيوب قد علم أنك سترد عليه ماله وولده ولكن سلطني على جسده فإن أصابه الضر فيه أطاعني وعصاك قال فسلط على جسده فأتاه فنفخ فيه نفخة قرح من لدن قرنه إلى قدمه قال فأصابه البلاء بعد البلاء حتى حمل فوضع على مزبلة كناسة لبني إسرائيل فلم يبق له مال ولا ولد ولا صديق ولا أحد يقربه غير زوجته صبرت معه بصدق وكانت تأتيه بطعام وتحمد الله معه إذا حمد وأيوب على ذلك لا يفتر من ذكر الله والتحميد والثناء على الله والصبر على ما ابتلاه الله قال الحسن فصرخ إبليس عدو الله صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الأرض جزعا من صبر أيوب فاجتمعوا إليه وقالوا له جمعتنا ما خبرك ما أعياك قال أعياني هذا العبد الذي سألت ربي أن يسلطني على ماله وولده فلم أدع له مالا ولا ولدا فلم يزدد بذلك إلا صبرا وثناء على الله وتحميدا له ثم سلطت على جسده فتركته قرحة ملقاة على كناسة بني إسرائيل لا يقربه إلا امرأته فقد افتضحت بربي فاستعنت بكم فأعينوني عليه قال فقالوا له أين مكرك أين علمك الذي أهلكت به من مضى قال بطل ذلك كله في أيوب فأشيروا علي قالوا نشير عليك أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة من أين أتيته قال من قبل امرأته قالوا فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها وليس أحد يقربه غيرها قال أصبتم فانطلق حتى أتى امرأته وهي تصدق فتمثل لها في صورة رجل فقال أين بعلك يا أمة الله قالت هو ذاك يحك قروحه ويتردد الدواب في جسده فلما سمعها طمع أن تكون كلمة جزع فوقع في صدرها فوسوس إليها فذكرها ما كانت فيه من النعم والمال والدواب وذكرها جمال أيوب وشبابه وما هو فيه من الضر وأن ذلك لا ينقطع عنهم أبدا قال الحسن فصرخت فلما صرخت علم أن قد صرخت وجزعت أتاها بسخلة فقال ليذبح هذا إلي أيوب ويبرأ قال فجاءت تصرخ يا أيوب يا أيوب حتى متى يعذبك ربك ألا يرحمك أين الماشية أين المال أين الولد أين الصديق أين لونك الحسن قد تغير وصار مثل الرماد أين جسمك الحسن الذي قد بلي وتردد فيه الدواب اذبح هذه السخلة واسترح قال أيوب أتاك عدو الله فنفخ فيك فوجد فيك رفقا وأجبته ويلك أرأيت ما تبكين عليه مما تذكرين مما كنا فيه من المال والولد والصحة والشباب من أعطانيه قالت الله قال فكم متعنا به قالت ثمانين سنة قال فمذكم ابتلانا الله بهذا البلاء الذي ابتلانا به قالت منذ سبع سنين وأشهر قال ويلك والله ما عدلت ولا أنصفت ربك ألا صبرت حتى نكون في هذا البلاء الذي ابتلانا ربنا به ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة والله لئن شفاني الله لأجلدنك مئة جلدة هيه أمرتيني أن أذبح لغير الله طعامك وشرابك الذي تأتيني به علي حرام وأن أذوق ما تأتيني به بعد إذ قلت لي هذا فاغربي عني فلا أراك فطردها فذهبت فقال الشيطان هذا قد وطن نفسه ثمانين سنة على هذا البلاء الذي هو فيه فباء بالغلبة ورفضه ونظر أيوب إلى امرأته وقد طردها وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق قال الحسن ومر به رجلان وهو على تلك الحال ولا والله ما على ظهر الأرض يومئذ أكرم على الله من أيوب فقال أحد الرجلين لصاحبه لو كان لله في هذا حاجة ما بلغ به هذا فلم يسمع أيوب شيئا كان أشد عليه من هذه الكلمة حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثني حجاج عن جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال كان لأيوب أخوان فأتياه فقاما من بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من ريحه فقال أحدهما لصاحبه لو كان الله علم في أيوب خيرا ما ابتلاه بما أرى قال فما جزع أيوب من شيء أصابه جزعه من كلمة الرجل فقال أيوب اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة شبعان قط وأنا أعلم مكان جائع فصدقني فصدق وهما يسمعان ثم قال اللهم إن كنت تعلم أني لم أتخذ قميصين قط وأنا أعلم مكان عار فصدقني فصدق وهما يسمعان قال ثم خر ساجدا فحدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال فحدثني مخلد بن الحسين عن هشام عن الحسن قال فقال رب إني مسني الضر ثم رد ذلك إلى ربه فقال وأنت أرحم الراحمين حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثني حجاج عن جرير عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال فقيل له ارفع رأسك فقد استجيب لك حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثني حجاج عن مبارك عن الحسن ومخلد عن هشام عن الحسن دخل حديث أحدهما في الآخر قالا فقيل له اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فركض برجله فنبعت عين فاغتسل منها فلم يبق عليه من دائه شيء ظاهر إلا سقط فأذهب الله كل ألم وكل سقم وعاد إليه شبابه وجماله أحسن ما كان وأفضل ما كان ثم ضرب برجله فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج فقام صحيحا وكسي حلة قال فجعل يتلفت ولا يرى شيئا مما كان له من أهل ومال إلا وقد أضعفه الله له حتى والله ذكر لنا أن الماء الذي اغتسل به تطاير على صدره جرادا من ذهب قال فجعل يضمه بيده فأوحى الله إليه يا أيوب ألم أغنك قال بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها قال فخرج حتى جلس على مكان مشرف ثم إن امرأته قالت أرأيت إن كان طردني إلى من أكله أدعه يموت جوعا أو يضيع فتأكله السباع لأرجعن إليه فرجعت فلا كناسة ترى ولا من تلك الحال التي كانت وإذا الأمور قد تغيرت فجعلت تطوف حيت كانت الكناسة وتبكي وذلك بعين أيوب قالت وهابت صاحب الحلة أن تأتيه فتسأل عنه فأرسل إليها أيوب فدعاها فقال ما تريدين يا أمة الله فبكت وقالت أردت ذلك المبتلي الذي كان منبوذا على الكناسة لا أدري أضاع أم ما فعل قال لها أيوب ما كان منك فبكت وقالت بعلي فهل رأيته وهي تبكي إنه قد كان ها هنا قال وهل تعرفينه إذا رأيتيه قالت وهل يخفي على أحد رآه ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه ثم قالت أما إنه كان أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحا قال فإني أنا أيوب الذي أمرتيني أن أذبح للشيطان وإني أطعت الله وعصيت الشيطان فدعوت الله فرد على ما ترين قال الحسن ثم إن الله رحمها بصبرها معه على البلاء أن أمره تخفيفا عنها أن يأخذ جماعة من الشجر فيضربها ضربة واحدة تخفيفا عنها بصبرها معه حدثني محمد بن سعد قال ثني أبي قال ثني عمي قال ثني أبي عن أبيه عن بن عباس قوله وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر إلى آخر الآيتين فإنه لما مسه الشيطان بنصب وعذاب أنساه الله الدعاء أن يدعوه فيكشف ما به من ضر غير أنه كان يذكر الله كثيرا ولا يزيده البلاء في الله إلا رغبة وحسن إيمان فلما انتهى الأجل وقضى الله أنه كاشف ما به من ضر أذن له في الدعاء ويسره له وكان قبل ذلك يقول تبارك وتعالى لا ينبغي لعبدي أيوب أن يدعوني ثم لا أستجيب له فلما دعا استجاب له وأبدله بكل شيء ذهب له ضعفين رد إليه أهله ومثلهم معهم وأثنى عليه فقال إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب .
....................................