بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فهذه اختيارات لبعض الفوائد من درس فضيلة الشيخ / محمد بن أحمد الفراجحفظه الله ورعاه ، المسمَّى بـ ( فقه البيوع ) والذي أُقيم بجامع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بسلطانه عام 1415هـ وعِدّة هذا الدرس أربعة أشرطة .
ومنهجي في هذا التفريغ أني أُفرِّغ ما يتعلق بصلب هذا الموضوع فقط ( فقه البيوع ) دون ما يكون فيه من استطراد ، فأذكر المسائل الفقهية المبحوثة فيه وإن استطرد الشيخ استطراداً لا مساس له بالموضوع فلا ألتزم بذكره .
علماً بأني لن ألتزم بعبارات الشيخ التزاماً حرفياً ولكن قد أتصرَّف في بعض عبارات المسائل بما لا يُخلِّ بالمسألة المبحوثة ، كما أني قد أرتِّب بعض المسائل والفقرات أو أضع عناوين لبعض المسائل من عندي بما أرى الحاجة إليه حتى تفهم المسائل ويكون الكلام على نسق واحد .
هذا وأسأل الله تعالى أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم ، وأن ينفع به الكاتب والقارئ ، كما أُنبِّه القارئ الكريم أن هذا عملٌ بشري يعتريه ما يعتري الأعمال البشرية من النقص الذي لا بد له منه ولكن أُذكِّرُ بقول القائل :
إن تجد عيباً فسد الخللا
جلَّ من لا عيب فيه وعلا
وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أبو العنود
خلاصة الدروس والفوائد من درس فضيلة الشيخ / محمد الفراج (فقه البيوع )
* الأصل في المعاملات الجواز إلا ما حرّمه الشارع ، بخلاف العبادات فالأصل فيها المنع إلا ما دلّ الدليل على مشروعيته ؛ لأن الشارع يسد باب البدعة .
والدليل على أن الأصل في المعاملات الحل قوله تعالى ** هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ** فاللام في قوله ** لكم ** للملك .
والدليل على جواز البيع ** وأحل الله البيع ** وقوله تعالى ** ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة ** وقال النبي صلى الله عليه وسلم :« إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من بر وصدق » وفي الصحيح عن ابن عمر :« البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن بينا وصدقا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما » .
والإجماع منعقد على جوازه وحله والحاجة قائمة إليه ؛ لأن الإنسان بحاجة إلى ما في يد أخيه والإنسان لا يدفع ما معه إلا بعوض وثمن فشُرع البيع لتحصيل هذا وهذا .
الربا :
السلف رحمهم الله كانوا يطلقون على البيوع المحرمة : الربا ، كما جاء في تسمية الناجش مرابي .
تعريف الربا لغة : له معاني عديدة كلها ترجع إلى الزيادة .
اصطلاحاً : كثرت تعريفات الفقهاء له ، ومن أجمع التعاريف وأشملها ما ذكره الشربيني الشافعي صحب ( مغني المحتاج شرح المنهاج ) حيث قال : عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير البدلين أو أحدهما .
شرح التعريف :
على عوض مخصوص : لبيان أن الربا لا ينهى عنه في كل الحالات وإنما في أموال خاصة وهي التي وجدت فيها علة الربا .
غير معلوم التماثل : فأخرج معلوم التفاضل ومجهول التماثل ؛ لأن الأموال الربوية - كما قال العلماء - حالة مبادلتها لا تخلو من أحوال ثلاثة :
1- إما أن يعلم تماثلها ، مثل : صاع بصاع .
2- أو يعلم تفاضلها ، مثل : صاعين بصاع .
3- أو يجهل التماثل ، مثل : كومة تمر بكومة تمر لم تُكَلْ .
فالثانية والثالثة ممنوعة والأولى هي الصحيحة .
في معيار الشرع : لبيان أنه ليس كل تماثل معتبراً ، فالمكيلات حال بيعها ببعض تباع كيلاً والموزونات حال بيعها ببعض تباع وزناً ، والمعدودات حال بيعها ببعض تباع عداً ، فلا يصح : بيع كيلو ريالات بكيلو ريالات .
حالة العقد : فلو كان التفاضل فيما بعد انتهاء العقد غير مشروط فلا بأس ، مثل : صاع تمر بصاع تمر وبعد مدة زاد أحدهما الآخر صاعاً من غير شرط بينهما فإنه يجوز .
حكم الربا :
الربا حرام بالإجماع ([1]) وكبيرة من كبائر الذنوب .
دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع .
أقسام الربا :
1- ربا فضل : يعني الزيادة ، مثل : صاعين بصاع .
2- ربا نسيئة : يعني التأخير ، وهو نوعان :
أ ) ما يقع في البيع : بيع ربوي بربوي يشتركان في علة مع عدم القبض ، مثل : صاع تمر بصاع بر .
ب ) ما يقع في القرض : قلب الدين على المعسر وهو أقبح وأشد وأفظع أنواع الربا وهو ما يقع في البنوك فيستدين 1000 ثم يقول له إذا حل الدين : إما أن تقضي وإما أن تربي.
ربا الفضل : عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد .
حكم ربا الفضل :
ربا النسيئة بنوعيه حرام ولم يخالف أحد في تحريمه بالإجماع غير من لا يعتد بخلافهم .
أما ربا الفضل فهو أيضاً حرام بالإجماع ولكن صح عن بعض السلف من الصحابة أنه تكلم في جوازه فلما بين لهم حرمته حرموه .
فقد روي عن ابن عمر وابن عباس وزيد بن أرقم وأسامة بن زيد ولكن الجميع رجعوا إلى القول بالتحريم ، والسبب في خفاء هذا الحكم عليهم :
1- أن ربا الفضل لم يحرم إلا أخيراً وكان من آخر ما نزل الآيات في شأن ربا الفضل فظن ابن عباس أن الفضل لا ربا فيه حتى علم التحريم وهو قد روي عن أكثر الصحابة مثل : أبو هريرة ، عبادة بن الصامت ، أبو سعيد الخدري ، فضالة بن عبيد ، بلال بن رباح ، سواد بن غزية ، عمر بن الخطاب ، وثبت رجوع ابن عباس في مسلم وبوب البيهقي :« باب رجوع من قال من الصدر الأول بجواز الربا ورجوعه عنه أو كما قال .
كيفية تخريج حديث أسامة بن زيد « لا ربا إلا في النسيئة » :
1- من العلماء من ذهب إلى الجمع – وهو الأولى ما دام ممكناً ؛ لأن فيه عملاً بالنصوص كلها – فقالوا : إن مراد النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :« إنما الربا في النسيئة » هذا في حالة ما إذا اختلف جنسه كبر وتمر فهنا لا بأس بالفضل لاختلاف الجنس ويمنع النسأ .
2- من العلماء من قال بالنسخ فقال : في أول الإسلام نزل قوله تعالى ** يآ أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة ** يعني ربا النسيئة .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم :« لا ربا إلا في النسيئة » ثم في آخر الإسلام نزل تحريم ربا الفضل في قوله تعالى ** يآ أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ** فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد » .
وهذا قول له حظ من القوة والوجاهة . وإن كان لا يقال بالنسخ إلا عند الضرورة .
3- من العلماء من سلك مسلك الترجيح ، فرجح روايات النهي عن ربا الفضل على حديث ( إنما الربا في النسيئة ) ووجه الترجيح أمور :
أ – أن رواة التحريم أكثر عدداً وأكثر حفظاً منهم : أبو هريرة وأكبر سناً وأكثر ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم بخلاف حديث أسامة فإنه لم يروه إلا أسامة .
وابن عباس لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة إلا بضعة عشر حديثاً وقيل : بضعاً وثلاثين وأكثر أحاديثه مراسيل صحابة .
ب – أن التحريم نقل عن البراءة والتحليل بقاء على البراءة وإذا تعارض المبقي على البراءة والناقل عن البراءة قدمنا الناقل عن أصل البراءة ؛ لأنه أبرأ في الذمة وأحوط في الديانة .
جـ – أن حديث أسامة دل على إباحة ربا الفضل بالمفهوم وحديث عبادة وأبي سعيد « لا تبيعوا الذهب بالذهب » دل على التحريم بالمنطوق والقاعدة : أنه إذا تعارض المنطوق والمفهوم قدمنا المنطوق .
وبهذا يتبين ويزول الإشكال وأنه لا مستمسك لأحد في حديث أسامة .
من وجوه الجمع :
من العلماء من قال : القصر هنا ليس قصراً حقيقياً وإنما هو إضافي ؛ لأن الحصر والقصر منه حقيقي ومنه إضافي فالحقيقي مثل : لا إله إلا الله ، والإضافي ما سيق على سبيل المبالغة مثل : لا عالم إلا ابن باز فهنا القصر إضافي وليس حقيقي ؛ لأن هناك علماء آخرون ولكن هذا مسوق على سبيل المبالغة .
وهنا : إنما الربا في النسيئة يعني ليس قصراً حقيقياً وإنما هو إضافي : يعني : الربا الأشد والأعظم والأشنع هو النسيئة ربا الجاهلية وهناك ربا محرم لكنه دونه في التحريم وإن كان محرماً وهو ربا الفضل .
مسألة / الأموال التي يجري فيها الربا :
نصت الأحاديث على ستة أنواع من الأموال كما في حديث عبادة عند مسلم :« الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد » فهذه الأموال مما يجري فيها الربا بالإجماع .
مسألة / هل يجري الربا في غير هذه الأنواع أم لا ؟
الجمهور : على أنه يجري في غيرها وأنه نبه بها على غيرها وذكرت تمثيلاً لا حصراً .
قال الجمهور : إن الربا في الأموال الستة معلل بعلة متى ما وجدت في غير هذه الأموال قسناها عليها وعدي الحكم إليها ؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً .
وخالف بعض الفقهاء فقالوا : لا يجري الربا في غير هذه الأصناف الستة فقط لا غير ، وهو مروي عن قتادة وطاووس وأهل الظاهر وأبي الوفاء بن عقيل الحنبلي .
وهؤلاء المخالفين انقسموا في تعليل قولهم إلى قولين :
1- فقال الظاهرية : لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليها ولو كان يريد غيرها لذكر العلة فلما عدد عرفنا أنه يريد الحصر ، وهم يمنعون القياس ولا يقولون به .
وأما الآخرون فقالوا بالقياس ولكنهم عللوا قصر الربا على الأصناف الستة بقولهم : لم نر علة واضحة بينة ، ووجدنا الأقوال الأخرى متضاربة فجعلنا العلة قاصرة غير متعدية واشتركوا في القول بأن الربا لا يجري في غير الأصناف الستة .
وقول الجمهور هو الصحيح ، والدليل على هذا :
1- ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم أنه قال :« الطعام بالطعام مثلاً بمثل » فأتى بـ ( ال ) التي تدل على العموم فنبه على علة وهي الطعم .
2 – حديث النهي عن المزابنة ولعل هذا الحديث أصرح الأدلة ، ففي الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمحاقلة .
المزابنة عرَّفها راوي الحديث ابن عمر – والراوي أعرف بما روى – فقال : أن يبيع ثمر حائطه بتمر كيلاً ، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً ، وإن كان طعاماً أن يبيعه بطعام كيلاً نهى عن ذلك كله .
يعني : يبيع الرطب الذي على رؤوس النخل بتمر كيلاً فيقدره مثلاً بـ 10 آصع ثم يبيعه بـ 10 آصع من تمر فهذا ممنوع ؛ لأنه مجهول التماثل والجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل .
فالشاهد من الحديث : قوله « وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً » فهذا في الحديث أدخل نوعاً وهو الزبيب والعنب فدل على أن الربا لا يقتصر على الستة أنواع فقط .
بل كل ما كيل أو وزن من المطعومات ولذل قال ( كيلاً ) للتنبيه على العلة .
3- آثار رويت عن بعض الصحابة ، مثل : ما روي عن عمار بن ياسر أنه قال : إنما الربا في النسيئة إلا ما كيل أو وزن ، يعني : وفيه ربا فضل .
فأعطى علة عامة وهي الكيل والوزن .
وبهذا يترجح قول الجمهور بأن الربا يجري في غير الأصناف الستة مما وجد فيه علتها فلا بد أن نعرف العلة في الأصناف الستة التي حرم الربا لأجلها حتى نطبقها على الأموال الأخرى فنجري الربا فيها ، وهذا ما سنتطرق إليه في المسألة التالية .
مسألة / العـلة التي حرم الربا لأجلها :
حصل خلاف طويل عريض بين الفقهاء ولكن نذكر أشهر الأقوال ونخلص إلى القول الراجح ، فنقول : إن الأموال التي نص الحديث على دخول الربا فيها ستة أنواع ، وهذه الأنواع الستة تنقسم إلى قسمين :
1- أثمان ، وهي الذهب والفضة .
2- مطعومات ، وهي : البر ، الشعير ، التمر ، الملح .
أجمع القائلون بتعليل الربا على أن العلة في النقدين غير العلة في المطعومات الأربع .
أولاً النقدان :
نظر الجمهور فيهما لماذا حرم الربا فيهما ؟ فقالوا أقوالاً كثيرة ، ولكن القول الراجح فيها : مطلق الثمنية .
لأن الشارع أراد أن تكون أثماناً بحيث لا تقصد لذاتها – لأنها لو قصدت لذاتها لحصل الربا – فأراد أن يبثها ويفرقها في الناس ويفتتها فتكون وسيلة للتعامل وحصول الأشياء . حتى لا يؤدي تراكمها بيد معينة كما يحصل الآن عند المرابين .
وهذا قول المالكية والشافعية ورواية عند الحنابلة اختارها الموفق وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ورجحته هيئة كبار العلماء .
فعلى هذا ننقل العلة فنقول : كل مال وجدت فيه العلة حرم فيه الربا قياساً على النقدين حتى قال الإمام مالك – كما في المدونة - : لو تواضع الناس على أن يجعلوا الجلود أثماناً لكرهت الربا فيها . وهذا من فقه الإمام رحمه الله فإنه ما علم أنه سيأتي زمان الورق الذي هو أرخص الأشياء سيتخذ أثماناً .
فإذاً نقيس كل مال استعمل ثمناً جرى فيه الربا قياساً على النقدين ، فالريال يستعمل ثمناً فيجري فيه الربا وكذا كل العملات .
ثانياً : المطعومات ( البر ، الشعير ، التمر ، الملح ) :
أيضاً اختلف فيها العلماء في استنباط العلة فيها على أقوال عديدة ولكن أشهر الأقوال :
1- أن العلة فيها الكيل والوزن فقط ، فكل مكيل أو مووزون جرى فيه الربا قياساً على هذه المطعومات الأربع .
قالوا : نظرنا لهذه المطعومات الأربع فوجدناها مكيلة ، وأما الموزون فمن نصوص أخرى كما في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أنكر على الرجل الذي باع صاعين بصاع من تمر جيد قال الراوي كما في الصحيحين : وقال في الميزان مثل ذلك .
وكذلك قول عمار : إلا ما كيل أو وزن ، فالوزن مثل الكيل .
فكل مكيل أو موزون جرى فيه الربا سواء كان مطعوماً كالبر والملح والتمر وكاللحم أو غير مطعوم كالصابون والأشنان والحديد والرصاص ، وهذا مذهب الحنفية والمعتمد عند الحنابلة وقول بعض التابعين ، فهؤلاء وسعوا الدائرة .
2- أن العلة فيها هي الطعم فكل ما كان مطعوماً جرى فيه الربا ، ودليلهم حديث عمر عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« الطعام بالطعام مثلاً بمثل » وقالوا : كما شرّف الشارع الثمنين وأراد أن تكون وسائل كذلك شرّف الأطعمة لئلا يحصل احتكارها فنهى عن الربا فيها .
وهذا قول الشافعية ورواية قوية عند الحنابلة .
وقالوا : العبرة بالطعام سواء كان مكيلاً أو موزوناً كالتمر والملح والبر واللحم والدهن والعسل أو غير مكيل ولا موزون يعني معدود مثل البطيخ والتفاح والكمثرى .
وهذا قول واسع .
3- أن العلة فيها هي الكيل والوزن مع الطعم ، وهو قول وسط بين القولين السابقين وضيقوا الدائرة قليلاً ولم يوسعوا الربا فسهلوا على الناس .
فيجري الربا في كل مكيل مطعوم أو موزون مطعوم ولا يجري الربا في المكيل غير المطعوم كالصابون ولا الموزون غير المطعوم كالحديد والرصاص ، ولا يجري في المطعوم غير المكيل ولا الموزون كالمعدود مثل البطيخ وغيره .
وهؤلاء أقرب إلى الدليل ؛ لأنهم جمعوا بين الأدلة ولم يفرقوا بينها وهذا قول قوي عند الحنابلة وقول الشافعية في القديم واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والموفق والرأي الذي استقرت عليه هيئة كبار العلماء وهو الراجح إن شاء الله .
وعلى هذا فكل ما وجدت فيه العلة من غير الأصناف الأربعة مما هو مطعوم مكيل أو مطعوم موزون جرى فيه الربا مثل العنب الزبيب اللبن اللحم قوالب السكر .
مسألة / القاعدة في جريان الربا بنوعيه :
قبل هذه القاعدة نذكر أموراً :
يجب أن تعلم أولاً أنه لا يوجد عندنا إلا ثلاث علل للربا فقط وليس في الدنيا غيرها :
1- الأثمان .
2- المكيل المطعوم .
3- الموزون المطعوم .
ويدخل تحت العلة أجناس وتحت الجنس أنواع وتحت النوع أفراد مثال : الريال السعودي جنس وتحته من أنواعه الورقي والمعدني وتحت الأنواع أفراد يعني ريال وريال .
هذا في الأثمان .
وفي المكيل المطعوم تحت هذه العلة أجناس كالتمر والبر والشعير إلخ ، وتحت كل جنس أنواع فالتمر تحته : سكري ، برني ، خلاص ، وتحت النوع أفراد يعني تمرة وتمرة وتمرة .
وفي الموزون المطعوم تحت هذه العلة أجناس ، مثل : اللحم ، وتحته أنواع : البقر ، الغنم ، والنوع أفراد ، وهكذا .
بعد هذا نأتي إلى قاعدة جريان الربا ، فنقول :
* إذا اتحد الجنس فإنه يجري نوعا الربا : الفضل والنسأ .
فإذا بعتُ مالاً من جنس واحد ولو من نوعين حرُم الفضل والنسأ مثل تمر سكري بتمر خلاص ، فلا بد أن يكون مثلاً بمثل يداً بيد .
* إذا اختلف الجنس واتحدت العلة فإنه يجوز الفضل ويحرم النسأ .
مثل : ريال بدولار فإنه يجوز التفاضل ولا بد من التقابض .
* إذا اختلفت العلة فإنه لا يجري الربا في النوعين .
بمعنى أنه يجوز التفاضل والنسأ مثل : تمر بريال فلا بأس من التفاضل والتأخير .
* ومن باب أولى إذا بعت ربوي بغير ربوي فإنه لا يجري الربا في النوعين .
كالمعدودات كسيارة بريالات فلا بأس هنا بالفضل والتأخير فيها .
مسألة / ما يصلح المطعوم :
ذكرنا أن كل مطعوم مكيل أو موزون يجري فيه الربا ويقاس عليه غيره مما لم يذكر .
ومثل المطعوم ما يصلح المطعوم ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة أطعمة وهي : البر والشعير والتمر ، وذكر ما يصلح المطعوم وهو الملح فيقاس المطعوم على المطعوم فنقيس الذرة والرز والدخن على المطعومات .
ويقاس ما يصلح المطعوم على ما يصلح المطعوم ، فنقيس البهورات والكمون والفلفل على الملح ؛ لأنها تصلح المطعوم .
مسألة / بيع المكيل والموزون بجنسه :
في ربا الفضل لا يجوز أن تبيع مكيلاً بجنسه إلا كيلاً مثل تمر بتمر فلا يجوز أن تبيعها وزناً ولا عداً ؛ لأن الشارع حدد في الربويات الكيل لأنها قد تتساوى وزناً ولا تتساوى كيلاً .
ولكن إذا بعت المكيل بغير جنسه فلا يحجر الشارع عليك سواء بعتها وزناً أو كيلاً أو عداً كتمر ببر أو بأي طريقة .
وهكذا لا يباع الوزن بجنسه إلا وزناً كذهب بذهب فلا يباع كيلاً ولا عداً .
مسألة / هل هناك تأثير للجودة والرداءة أو القدم والحداثة في باب الربا؟
أجمع العلماء على أنه لا تأثير للجودة والرداءة أو القدم والحداثة في باب الربا بمعنى أنك إذا بعت تمراً جيداً بتمر رديء فإنه لا يعفيك الشارع من المماثلة وحديث بلال في الصحيح صريح في المسألة .
وكذلك إذا أراد الإنسان تغيير ذهب زوجته القديم بذهب جديد فإنه أيضاً لا بد في ذلك من التماثل دون النظر في هذا للقدم والحداثة .
وهكذا إذا أتى بذهب مكسر أو تبر وأراد أن يشتري به ذهباً مصنعاً فإنه لا يجوز التفاضل في هذا مقابل الصنعة .
والحل الصحيح والشرعي في جميع هذه الحالات : أن يبيع القديم بدراهم ثم يشتري بالدراهم ما يريد من الجديد سواء كان تمراً أو ذهباً أو غير ذلك كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً في الصحيح في قصة خيبر .
مسألة / الريال الورقي والمعدني :
قلنا سابقاً أن الجنس إذا اتحد فلا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلاً بل لابد في ذلك من التماثل والتقابض ولو اختلف النوع .
وهنا مسألة مشهورة في هذا المقام وهي : بيع الريال الورقي بمعدني أو المعدني بورقي متفاضلاً فقد أفتى بجواز ذلك بعض المشايخ والصحيح عدم الجواز ؛ لأن هذا من قبيل اختلاف النوع لا الجنس .
حجة المجيزين : ومنهم الشيخ ابن جبرين حفظه الله تعالى فقد أجاز تسعة معدن بعشرة ورق فهم نظروا إلى أنهما جنسان لا نوعان مثل : فضة وذهب وبر وتمر فلما اختلفا في الجنس جاز الفضل حسب القاعدة .
وقالوا : جنس الورقي يختلف عن المعدني فالورقي : الفأر يخرقها والنار تحرقها والماء يتلفها وتلك لا ، فهي جنس آخر .
ولو فرضنا أن عندك ملء غرفة من الريال المعدني وأخرى من الورقي ثم سحب السلطان الثقة والتعامل بها ، فالحديد يمكن أن تصهر وتستعمل معادن وأواني وغير ذلك .
لكن الصحيح أن دليلهم هذا لا يستقيم فنقول : أنه لا قيمة للريالات من حيث هي معدن أو ورق فلا قيمة لها بذاتها وإنما قيمتها معنوية واكتسبت قوتها مما يسمونه بالقوة الشرائية وثقة التعامل بها في الأسواق ولذلك لا تختلف قيمة الورقي عن المعدني فكلاهما يشتري لك علبة مرطبات .
فالصحيح أنهما ليسا جنسين وإنما هما جنس واحد داخلان في جنس الريال لكن الاختلاف في النوع وهذا القول أبرأ في الذمة وأحوط في الديانة وفيه سد للذريعة أيضاً .
مسألة / بيع الربوي بجنسه ومعهما أو مع أحدهما غيره :
قال العلماء : لا يجوز بيع الربوي بجنسه ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسه كما لو بعت ذهباً مرصعاً بأحجار كريمة بذهب خالص فإنه لا يجوز ؛ لأنه يخل بالتماثل في الوزن.
وفي هذه المسألة حديث صريح عند مسلم وهو حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه فإنه لما فتحت خيبر جاء للنبي صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها خرز وذهب وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشتراها بدنانير ذهبية فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تباع حتى تفصل ) وفي رواية ( فرده حتى ميز بينهما ) ؛ لأن هذا يخل بالتماثل فإنك لو نزعت الخرز لوجدت أن هذا يزيد قليلاً .
وهذه المسألة لها صور كثيرة ذكرها العلماء رحمهم الله فقالوا : إنه لا يجوز بيع بر ببر مطحون ولا النيئ بالمطبوخ ولا الدقيق بالحب ولا الخالص بالمشوب لعدم المماثلة في كل هذه الصور .
مسألة / المزابنة :
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزابنة وهي مأخوذة من الزبن وهو الدفع ؛ لأن كل واحد من المتبايعين يدفع صاحبه لإتمام الصفقة . وتعريف المزابنة هو : بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر على الأرض . فنهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم لعدم العلم بالتماثل .
ورخص الشارع في صورتين من المزابنة تسمى العرايا أو العرية سميت بذلك من العري لأن البائع يترك النخل يعني يعريها للمشتري أو من الاعتوار وهو التكرر والتداول لأن هذه النخلة اختلفت عليها أيدي الملاك .
وهي نفس صورة المزابنة بيع رطب بتمر وأرخص الشارع فيها لحاجة الفقراء لها .
وصورتها : أن يكون هناك من الفقراء من يكون عنده تمر قديم من السنة الماضية ثم إذا جاء موسم الرطب اشتاقت نفسه للرطب الجني الجديد الطري وليس عنده دنانير أو دراهم أو شيئاً يشتري به غير هذا التمر القديم .
فأرخص النبي صلى الله عليه وسلم للفقراء للحاجة أن يشتروا بالتمر رطباً فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزابنة وأرخص في العرايا يأكلها أهلها رطباً .
ويشترط في المزابنة حتى تكون عرية جائزة شروطاً خمسة :
1- أن تكون لمحتاج إلى الرطب ( فقير ) .
2- أن لا يكون عنده ثمن آخر غير التمر القديم .
3- أن يكون فيما دون خمسة أوسق فهذه هي الحاجة وأما إذا زاد عليها فإنه يكون أراد بها المتاجرة لا الأكل ، والوسق ستون صاعاً .
4- التقابض ، فيشترط التقابض ولا يجوز التأخير ويحصل القبض في هذا التمر بكيله وفي الرطب الذي على رؤوس النخل بتخليته .
5- الخرص ، وهو الاجتهاد والتخمين فيجتهد غاية الاجتهاد في تقدير الرطب الذي على رؤوس النخل ويستعين بأهل الخبرة لمحاولة المقاربة بأكبر صورة ممكنة فإذا قالوا : إن الرطب يساوي 40 صاعاً فيعطيه 40 صاعاً من التمر القديم ؛ لأنه لما فات يقين المماثلة فإنه يجتهد في المقاربة من المماثلة غاية الإمكان .
مسألة / ضابط المكيلات والموزونات في باب الربا :
قد تقدم في مسألة سابقة أنه لا يجوز بيع المكيل بمكيل آخر إلا كيلاً ، وكذلك الموزونات لا تباع ببعضها إلا وزناً وهذا في الربويات إذا بيع بعضها ببعض .
فكيف نعرف المكيل والموزون في باب الربا ؟
المرجع في معرفة المكيل والموزون من الأطعمة إلى عرف أهل الحجاز على زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فما تعارفوا عليه في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم أنه طعام مكيل فهو مكيل أبداً ، وما تعارفوا على أنه موزون فهو موزون أبداً ، وما تعارفوا على أنه معدود فهو معدود أبداً لا يجري فيه الربا .
فمثلاً عرف الحجاز في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أن التمر مكيل فهو مكيل يجري فيه الربا . واللحم موزون يجري فيه الربا ، والتفاح عندهم معدود فلا يجري فيه الربا ولو بيع هذا الزمان وزناً ! لأنه في عرف الزمان الأول معدود .
والدليل على ذلك : قول النبي صلى الله عليه وسلم :« المكيال مكيال أهل المدينة والميزان ميزان أهل مكة » رواه مالك والنسائي بسند صحيح عن ابن عمر ، وفي رواية :« الوزن وزن أهل مكة والكيل كيل أهل المدينة » وفي رواية العكس وهذا لا يؤثر ؛ لأن المكيل عند أهل مكة هو المكيل عند أهل المدينة وكذلك الوزن .
ولكن أكثر الروايات نسبت الكيل للمدينة والوزن لمكة ؛ لأن أهل مكة يغلب عليهم التجارة فيستعملون الوزن كثيراً ، وأهل المدينة أهل حرث وزرع فيستعملون الكيل كثيراً.
وأما الذي لا عرف له عندهم كالبرتقال والطماطم والرز فيرجع فيها إلى عرف الناس فما تعارف الناس على أنه مكيل فهو مكيل وما تعارفوا على أنه موزون فهو موزون وما تعارفوا على أنه معدود فهو معدود لا يجري فيه الربا .
وإذا اختلفت الأعراف كأن يكون هناك ناس يبيعونه كيلاً وآخرون يبيعونه وزناً وآخرون يبيعونه عداً فإنه يُقضى بالعرف الغالب .
وإذا لم يكن هناك عرف غالب يرجع إلى القياس فيقاس الشيء بنظيره على زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فمثلاً الرز هناك من يبيعه كيلاً وهناك من يبيعه وزناً لكن إذا تأملنا فيه وجدنا أنه : قوت تستقيم به بنية الآدمي ، ولا تفسد بالاقتصار عليه ، ووجدنا أنه أقرب إلى الذرة وأقرب إلى الشعير فنقيسه به ونقول بجريان الربا فيه .
واجتهد الفقهاء في حصر كثير من الأطعمة ومرجعها إلى كتب الفقه فيرجع إليها .
ربا النسيئة نوعان :
1- ما يقع في البيع : يقع في كل مالين اتحدا جنساً كتمر بتمر ، أو اتحدا علة كتمر بشعير كلاهما مكيل .
والدليل عليه : قوله تعالى ** وحرم الربا ** وهذا داخل فيه .
وقال عليه الصلاة والسلام :« إنما الربا في النسيئة » يعني : الأشد تحريماً .
وقال عليه الصلاة والسلام :« فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد » .
وقال عليه الصلاة والسلام :« ولا تبيعوا غائباً منها بناجز » .
مسألة / المصارفة بين عين ودين :
صورتها : لو اقترضت من زميلك جنيهاً مصرياً في مصر ثم لما رجعت إلى الرياض طلب منك زميلك الجنيه ولم يكن معك إلا ريالات فهل يجوز أن تعطيه ريالات ؟ وهل تصارفه بسعر الجنيه في يوم القرض أو بسعر الجنيه في هذا اليوم ؟
جاء في هذه المسألة حديث رواه أبو داود وبعض أصحاب السنن وهو صحيح وإن كان ضعفه ابن حزم لكن الصحيح أنه ثابت كما ذكر النووي وغيره .
والحديث : أن ابن عمر كان يبيع الإبل يقول : كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدنانير – يعني الذهبية – ونأخذ عنها الدراهم – يعني الفضية – ونبيعها بالدراهم ونأخذ عنها الدنانير .
قال : فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فقلت : يا رسول الله رويدك أسائلك إنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم ونأخذ عنها الدنانير ونبيعها بالدنانير ونأخذ عنها الدراهم فقال : لا بأس أن تبيعها بسعر يومها إذا تفرقتما وليس بينكما شيء .
فأجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرطين :
1- أن تصرف الجنيه المصري بسعره الآن ؛ لأنه إلى هذه اللحظة والذي في ذمتي له جنيه مصري فأعطيه هذا الجنيه المصري فلو قال : هذا حيف ، فأقول : الواجب في ذمتي جنيهاً مصرياً فإن شئت أعطيتك الجنيه فاصرفه بما شئت فلن تجد إلا ريالين .
2- إذا تفرقتما وليس بينكما شيء ، يعني تُقْبِضُه الريالات كاملة في المجلس لئلا يحصل ربا النسيئة لأنك إذا صارفت ربوياً بربوي من علة واحد فلا بد من التقابض يداً بيد .
قد يقول قائل : الجنيه المصري الذي في الذمة غير مقبوض مع أن الحديث يقول : لا بد من التقابض يداً بيد ؟!!
والجواب : أنه لا يعتبر القبض في الساقط ، فالدين الساقط لا يلزم فيه القبض ؛ لأنه في حكم المقبوض لكن الذي يشترط فيه القبض في الواجب ولذلك في مثالنا السابق لما وجب له ريالات سعودية اشترط الشارع تسليمها كلها .
فإذاً يجوز المصارفة بين عينين كريال حاضر بدولار حاضر ويشترط التقابض في الجميع ، وبين دين وعين كدينار في الذمة بريال حاضر ويشترط التقابض في الحاضر ، وأما الدين الغائب فهذا ساقط والساقط لا يشترط فيه القبض لأنه في حكم المقبوض .
والصورة الثالثة : مصارفة بين دينين .
مسألة / المصارفة بين دينين([2]):
صورتها : إذا وجب في ذمتي لزيد 10 دنانير كويتية ثم وجب في ذمته لي 120 ريالاً سعودياً فهل يصح أن نتصارف في الذمتين ؟
يصح ذلك بشرط أن يكون بسعر اليوم وأن يكون التفرق وليس بينكما شيء في الذمة .
ففي المثال السابق يحسب كم يساوي الدينار الكويتي من ريال سعودي بسعر اليوم فنقول مثلاً يساوي 120 ريالاً وأنا أريد منه 120 ريالاً فيتقابل الدينان ويتساقطان .
قد يقول قائل : لم يحصل التقابض والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : يداً بيد ؟
فنقول : الساقط لا يشترط فيه القبض وإنما يشترط القبض في الواجب يعني الذي ثبت في الذمة وهو الذي يُسَلَّم لكن الذي يسقط من الذمة لا يشترط فيه القبض .
لكن إذا لم يتقابلا في القيمة وحصل فرق لأحد الدينين فالفرق لابد أن يدفع ولا بد أن يسلَّم في المجلس ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : « ما لم تتفرقا وليس بينكما شيء » .
وبهذا نكون انتهينا من الجزء الأول وهو ربا النسيئة الواقع في البيع وبقي الجزء الثاني وهو ربا النسيئة الواقع في القرض .
القسم الثاني من ربا النسيئة الذي يقع في القرض :
هذا هو أشنع الربا وهو ربا الجاهلية الذي لعنه ا لله ومقته وحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ووضعه تحت قدميه وقال :« ألا إن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا عمي العباس بن عبد المطلب » فأشنع أنواع الربا ربا النسيئة الواقع في القرض وهو ربا البنوك اليوم .
مسألة / ضع وتعجل :
صورتها : زيد له في ذمة عمرو 1000 ريال تحل في رمضان ، فاحتاج زيد وجاء إلى عمرو وقال : اقضني الدين الآن وقَدِّم الأجل من رمضان وسلمه لي الآن وأسامحك من 200 ريال .
المسألة فيها قولان لأهل العلم ، والصحيح الجواز .
والذين تكلموا بالمنع اعتمدوا على أحاديث لا تصح رويت عن بعض الصحابة والصحيح أن هذه الأحاديث لا تثبت فلا يحتج بها .
وأيضاً قال المانعون : قياساً على ( إما أن تقضي وإما أن تربي ) بجامع أنه جعل للأجل حصة في كل من المعاملتين .
لكن القول الصحيح وهو قول الأكثرين : الجواز .
والدليل على ذلك : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجلى يهود بني النضير قالوا له : يا أبا القاسم إن لنا على الناس ديوناً لم تحل فقال النبي صلى الله عليه وسلم :« ضعوا وتعجلوا» وهذا الحديث أصح من أحاديث المنع .
وأما ما ذكروه من التعليل فهو ممنوع ؛ لأن الممنوع أن يجعل للأجل حصة على حساب المقترض وهنا جعل للأجل حصة لمصلحة المقترض ، والشرع دائماً إلى جانب الضعيف والمقترض في الغالب هو الضعيف .
مسألة / بيع النخل والشجر عموماً :
يقول النبي صلى الله عليه وسلم :« من باع نخلاً قد أُبِّر فثمرته للبائع الذي باعه إلا أن يشترطه المشتري » رواه البخاري ومسلم .
معنى التأبير : التلقيح ، فيؤخذ طلع الذكر فيوضع في طلع الأنثى .
منطوق الحديث : إذا بيعت النخلة المؤبرة فالثمرة تكون للبائع إلا أن يشترطها المشتري ويجب حينئذ على المشتري أن يبقي الثمرة إلى أوان صلاحها ليأخذها البائع ولا يلزمه المشتري بجزها الآن لأنه لا يستفيد منها قبل صلاحها .
والسقي يكون على البائع ولا يمنعه المشتري من سقيها وتعاهدها .
وقال جمهور الفقهاء : إن المراد بالتأبير : التشقق – وهي مرحلة قبل التأبير – وقال الجمهور : إن الحكم مربوط بالتشقق ، فإذا بيعت النخلة المتشقق أكمامها فالثمرة تكون للبائع إلا أن يشترطها المشتري .
واعترض عليهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« التأبير » ومعنى التأبير التلقيح .
فأجابوا : أن المراد هو التشقق وإنما عبر بالتأبير ؛ لأنه لازم للتشقق .
والصحيح القول الأول وهو التأبير وقال بهذا الظاهرية وشيخ الإسلام وقال : الرسول يقول : قد أبرت ونحن نقول قد تشققت ؟ إنما نربط الأمر بالتلقيح وليس مجرد التشقق .
وهو المناسب من ربط الحكم به ؛ لأنه إذا تشقق فليس للبائع عمل فيه حتى يستحقه لكن إذا أبره البائع فإن النماء يكون له لأنه بذل جهداً ومالاً فيه فيستحقه .
مسألة / اشتراط البائع للثمرة :
إذا بيعت النخلة قبل التأبير فإن الثمرة للمشتري فهل للبائع أن يشترط الثمرة كما اشترط المشتري الصورة السابقة ؟
قيل : له أن يشترطها لأنه أحد المتبايعين .
وقيل : ليس له أن يشترطها لأنه عقد على الثمرة قبل بدو صلاحها .
والصحيح : أن له أن يشترطها لأنه ليس بيعاً وإنما استثناء من البيع والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم .
مسألة / حكم غير النخل :
وغير النخل كالنخل ، فأشجار العنب وأشجار التين والتفاح والموز تقاس على النخل فإذا بيعت الشجرة قبل تلقيح الثمرة فالثمرة تكون للمشتري وإذا بيعت بعد التلقيح فالثمرة للبائع .
مسألة / ربط الحكم بالتلقيح ، والعمل في الأشجار التي لا تلقح ؟ :
بعض الثمار حساس جداً حتى إنه تكفي الريح في تلقيحه ولا يلقحه الشخص ولذلك تكثر الرياح في الصيف وهذا من آيات الله وأحياناً يلقح النحل من خلال تنقله بين الأشجار فيأخذ من هذه ويضعها في الأخرى .
فهناك من الثمار ما لا يحتاج إلى تلقيح بيِّن كالتفاح وهناك ما يحتاج إلى تلقيح من قبل الإنسان كالتمر ولو لم تلقح لخرجت شيصاً .
فهذه الثمار التي لا تحتاج إلى تلقيح نربط الحكم فيها بالتشقق فإذا تشققت فالثمرة للبائع وإذا بيعت قبل التشقق فالثمرة للمشتري .
وأما الثمر الذي لا يتشقق ويظهر ظهوراً كالتين والعنب فهذا إذا بيعت الشجرة قبل الظهور فالثمرة للمشتري وإن بيعت بعد الظهور فالثمرة للبائع إلا أن يشترطها المشتري .
مسألة / بيع الثمرة :
في المسألة السابقة تكلمنا عن بيع الأصل وهو النخلة أو الشجرة والآن نتكلم عن بيع الفرع وهو الثمرة كالتمر والعنب وغيرها .
هذه لها أحكام كثيرة ولها صور ممنوعة كثيرة وصور جائزة فيستحسن أن نفصل فيها تفصيلاً لابد منه :
أولاً : إما أن تباع الثمرة ([3]) مع أصلها أو بدون أصلها .
فإذا بيعت مع أصلها فلا نسأل ولا نفصل ؛ لأنها حينئذ تكون تابعاً و ( التابع تابع ) ويغتفر في التوابع ما لا يغتفر في الأصول .
وأما إذا بيعت الثمرة دون أصلها ، فننظر : إما أن تكون بيعت بعد بدو صلاحها أو قبل بدو صلاحها .
فإن بيعت الثمرة بعد بدو صلاحها جاز على كل حال ، يعني : جاز بيعها مطلقاً وجاز بيعها بشرط القطع في الحال ، وجاز بيعها بشرط التبقية يعني التبقية على النخل حتى يصرفها شيئاً فشيئاً حتى لا تفسد على المشتري .
أما إذا بيعت الثمرة قبل بدو صلاحها ، فلا يخلو الأمر من ثلاثة تقاسيم :
1- إما أن تباع مع أصلها .
2- أو لمالك أصلها .
3- أو لغير مالك أصلها .
فإن بيعت الثمرة قبل بدو صلاحها مع أصلها فالحكم الجواز ؛ لأنه تابع للأصل ويغتفر في التوابع ما لا يغتفر في الأصول والقاعدة الفقهية المقررة أن : ( التابع تابع ) .
أما إذا بيعت الثمرة قبل بدو صلاحها لمالك أصلها - وصورتها أن يبيع النخلة بعد أن أبرها فينتقل الأصل للمشتري وتبقى الثمرة للبائع ثم يبدو للبائع أن يبيع النخلة لصاحب النخلة - فهل يجوز له ذلك أو لا يجوز ؟ قولان لأهل العلم .
من الفقهاء من قال : لا يجوز استصحاباً للنهي الشديد عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها .
ومن الفقهاء من قال : يجوز ؛ لأنها صارت كالتابع في الصورة السابقة ولأنه يحصل التسليم للمشتري على وجه الكمال .
وهما قولان قويان ولكن النهي شديد كما يقول الإمام أحمد فلذلك وإن كان التعليل قوياً فلا اجتهاد مع النص فالأولى أن نقف حيث نهانا النبي صلى الله عليه وسلم ونقول : لا يجوز ؛ لأنه منهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بأدلة كثيرة كما سيأتي ولا دليل على التفريق بين بيعها لمالكها أو لغير مالك أصلها .
بقيت صورة ثالثة وهي : بيع الثمرة قبل بدو الصلاح لغير مالك الأصل .
صورتها : زيد من الناس عنده نخيل وأثمرت النخيل وبينما كان البلح أخضراً قبل أن يصلح أراد أن يبيعه لعمرو ، فهل يجوز له ذلك أو لا يجوز ؟
الأصل أنه لا يجوز ، وهذه المسألة فيها تقسيم آخر .
فإما أن تباع الثمرة قبل بدو الصلاح بشرط التبقية أو تباع بشرط القطع في الحال أو تباع بيعاً مطلقاً يعني بدون شرط من المتبايعين .
فالصورة الأولى : إذا باع الثمرة قبل بدو الصلاح وشرط المشتري أن يبقيه إلى أن يصلح فهذا لا يجوز بإجماع الفقهاء وبهذا جاء النص الثابت :« نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها نهى البائع والمشتري » أو « المبتاع » ، وهذا الحديث في الصحيحين عن أنس .
وجاء أيضاً نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل أن تطيب للأكل وهذا الحديث في الصحيح ، ونهى صلى الله عليه وسلم عن بيع البلح قبل أن يُزهي ، قيل لأنس وما زهوه ؟ قال : أن يحمار أو يصفار ، يعني : يبدأ فيه الحمرة أو الصفرة .([4])
فهذا النهي ينصب أول ما ينصب على ما شُرط فيه التبقية .
صورته : يشتري زيد ثمر هذه النخلة ويشترط على عمرو أن يبقيها حتى تصلح ثم يجزها ، هذا لا يجوز ؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم ولأنها عرضة لأن تصيبها العاهة ( وهو التلف ) ولهذا علل النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يأمن العاهة فقال : أرأيت إن حبس الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق .
فالثمرة إذا تلفت تكون على المشتري فلذلك نهي عنه .
الصورة الثانية : أن يبيع الثمرة قبل بدو صلاحها وشرط البائع على المشتري القطع في الحال وأن تُفرّغ النخلة له ، هل يجوز أو لا ؟
الجمهور على الجواز ومنهم أصحاب المذاهب وخالف آخرون فقالوا بالمنع ومن أشد من تمسك بالمنع الظاهرية .
وحجتهم في ذلك عموم أدلة في نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها ، وحتى تطيب ، وحتى تصلح للأكل ، وحتى تزهو .
وهذه الثمرة لم تتحقق فيها ذلك فلذلك قالوا : الأصل المنع .
أما الجمهور فاستدلوا على الجواز بأنه إذا شرط القطع في الحال فقد أمن العاهة فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح ؛ لأنها لا تأمن العاهة قبل أن تصلح ، فإذا شرط القطع في الحال أمنت العاهة .
ولكن قد يقال : فماذا يستفاد منها ؟ يقال : تُطْعَم ولو لحيوان أو ليستفاد منها .
الصورة الثالثة : أن يبيع الثمرة قبل بدو الصلاح مطلقاً يعني بدون شرط من المتبايعين فما الحكم ؟
الجمهور : على المنع وقالوا : لأن مطلق العقد يحمل على الأصل وهو المنع لأن أكثر الصور محرمة والنهي عام عن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح .
الحنفية : قالوا : بالجواز ؛ لأن قاعدة الحنفية التساهل في المعاملات ولذلك كانوا يقولون في قواعدهم : متى أمكن حمل العقد على الصحة لم يحمل على الفساد .
قالوا هنا : يمكن حمل العقد على ما شرط فيه القطع في الحال ، فإذا باع بيعاً مطلقاً وسكت ولم يشترط فنقول العقد صحيح ونشترط عليه أن يقطعه في الحال فتصير جائزة .
والاحتياط يقتضي بأخذ قول الجمهور وهو: المنع .
مسألة / بم يعرف صلاح الثمر ؟
لا بد من معرفة علامة صلاح الثمرة ؛ لأن الصلاح حد فاصل ، فما قبل الصلاح لا يجوز البيع في الأصل ، وما بعد الصلاح يجوز البيع في الأصل .
فنقول : الثمار منها ما يتلون كالبلح والعنب ، فالذي يتلون فصلاحه بابتداء تلونه ولهذا قيل لأنس رضي الله عنه وما زهوه ؟ قال : أن تحمارّ أو تصفارّ ، يعني : تبدأ شيئاً فشيئاً بالحمرة أو الصفرة ، فإذا تلون جاز بيعه وقبل ذلك لا يجوز بيعه .
وأما الذي لا يتلون كالعنب الأبيض ومثل التفاح فصلاحه بتغير طعمه ولذلك جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يتموه حلواً .
وما لا يتلون ولا يتغير طعمه فيعرف صلاحه بطيبه للأكل ، فيرجع في هذا للعرف فمتى ما طاب للأكل فهذا صلاح ، ويرجع في هذا لحديث :« نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب للأكل » .
مسألة / بيوع الأجل والتقسيط :
الأجل هو : المدة ، وهو تأخير الوفاء مدة معينة .
وعقد البيع مع الأجل على أربعة أنواع :
1- بيع يفسده دخول الأجل ، باتفاق أهل العلم ، فيحرم الأجل والحالة هذه .
2- بيع يجب الأجل فيه ويعتبر شرطاً لصحة العقد .
3- بيع يباح فيه الأجل .
4- بيع اختلف فيه وهو الذي يندرج تحته بيوع التقسيط الموجودة الآن في السيارات والأراضي والعقارات وغيرها .
النوع الأول : بيع يحرم فيه الأجل ويفسده الأجل .
وهذا مثل بيع مالين ربويين من جنس واحد أو من علة واحدة ، وهو ربا النسيئة . مثل : بيع عملة بعملة صرفاً مع عدم التقابض .
ويلحق بهذا النوع أيضاً : بيع الدين بالدين ولو لم يكن في الأموال الربوية فيكون الثمن والمثمن مؤجلاً .
فإذا كان في الأموال الربوية فهذا أفظع وأشنع .
مثال : اشترى زيد من عمرو سيارة بخمسين ألف ريال ولم يسلِّم زيد المبلغ ولم يستلم السيارة من عمرو فهذا متفق على بطلانه ، وحكى الإمام أحمد فيه إجماع الناس وهو يسمى : بيع الكالئ بالكالئ .
ويلحق بهذا النوع أيضاً : بيع العينة ، ولأهميتها سنفرد لها وقتاً خاصاً للكلام عليها وتفصيلها .
النوع الثاني : بيع يجب ويشترط له الأجل :
فهذا النوع يجب له الأجل ولو لم يوجد الأجل لبطل البيع ، وهو بيع السَّلَم بلغة أهل الحجاز ويقال له : السلف بلغة أهل العراق .
وهو : عقد على موصوف في الذمة معلوم بصفته بثمن مقبوض في مجلس العقد .
وأُرخص فيه لحاجة الناس إليه قديماً وحديثاً ، فكان المزارع إذا كان وقت البذار والزرع يحتاج إلى مال ليخلص الأرض وينقيها من الآفات والشوائب وليحرث الأرض ويسمدها ويشتري البذر ويحتاج إلى مال لأجر العمال .
وفي الزمان هذا تتضاعف الحاجة نظراً لشساعة الأراضي المزروعة ولحاجته إلى المعدات والآلات الزراعية .
فهذا المزارع لا يجد مالاً ، فيدخل في عقد السلم مع إنسان آخر يحتاج إلى شراء طعام مؤجل بثمن أرخص من الحال فشرع لسد حاجة هذا وهذا فيعطي المشتري صاحب الأرض مالاً ويجعل هذا المال المدفوع ثمناً لـ 1000 صاع مثلاً من البر أو الشعير .
من شروط صحة السلم : أن يكون المبيع مؤجلاً والمال مدفوعاً في مجلس العقد .
والسلم - إن قيل أنه بيع - مستثنى من بيع ما لم يوجد ؛ لأن الأصل أنه لا يجوز بيع ما لم يوجد وما ليس عندك ، فهو مستثنى للحاجة .
وإن قيل إنه عقد مستقل بذاته فلا يحتاج إلى هذا الاستثناء .
والسلم جائز بالكتاب والسنة ، فمن الكتاب قوله تعالى ** يآ أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ** استدل بها ابن عباس وغيره على السلم ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :« من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم » وله شروط مذكورة في كتب الفقه .
النوع الثالث : بيع يباح فيه الأجل :
الأصل في العقود والشروط الإباحة ، والأصل في البيع جواز التأجيل لأحد الثمنين . فالبيع المطلق يجوز فيه التأجيل لكن بشرط أنه ما يلحق بالنوع الأول وهو بيوع الربويات وبيع الدين بالدين أو الذرائع الربوية كالعينة .
النوع الرابع : بيع اختلف فيه الأجل .
1- القرض :
إذا أقرضتَ زيداً من الناس 1000 ريال إلى شهر فهل يلزم الأجل أو لا ؟
الجمهور قالوا : أن القرض حالّ ولا يتأجل بالتأجيل حتى قال الإمام أحمد : القرض حالّ ولو أجله ، فيحق لك أن تطلب منه الألف الآن وتطالبه بها ولك الحق عليه فلا يلزم الأجل ولو أجله .
وذهب الحنابلة في رواية ومالك رحمه الله والظاهرية وبعض الفقهاء : إلى أن القرض يتأجل بالأجل بمعنى أنه إذا أقرضه 1000 ريال إلى أجل لا يحق له أن يطلبها قبل حلول الأجل .
أدلة المانعين : قالوا : لأنه لو أجل القرض لكان كبيع النسيئة مثل : بيع ريال بريال إلى أجل أو صاع بر ويرده بعد شهر كأنك بعته صاعاً بصاع إلى أجل .
أدلة المجيزين : قالوا : الصحيح أن القرض يتأجل بالتأجيل فلو أقرضه مالاً إلى أجل فلا نطالبه به قبل انتهاء الأجل .
ومن أدلتهم : ** إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ** .
وردوا على المانعين فقالوا : إن عقد القرض غير عقد البيع ، فعقد البيع معاوضة وعقد القرض إرفاق وإحسان فهو أشبه بالصدقة .
واستدل المجيزون : بدليل صحيح في البخاري : حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل استسلف من أخ له 1000 فدفعها إليه إلى أجل مسمى ، و هذا هو الشاهد .
فدل على أن القرض يتأجل بالتأجيل وهذا هو الصحيح .
2- بيع التقسيط ، وهو نوعان :
أ ) أن يعرض السلعة بواحد من ثمنين ، إما حالة بـ 800 أو مؤجلة بـ 1000 ، فإن باعه السلعة وهو متردد ولم يجزم بواحد من البيعين ، فقال : خذها إما بـ 800 حالة أو بـ 1000 مؤجلة ولم يجزم بأحد السعرين فهذا لا يصح للجهالة بالثمن ، وقد قيل إنه معنى نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة والحديث ثابت في السنن .
وأما إن جزم بأحد السعرين بأن قال : خذها إما بـ 800 حالة أو بـ 1000 مؤجلة فقال المشتري : اشتريت مؤجلاً فهل يصح هذا ؟
هذا يدخل في الخلاف الذي سيأتي في النوع الثاني وهو بيع الأقساط .
بأن يبيع مثلاً السيارة إلى شهر بـ 100 وإلى شهرين بـ 200 وإن اختار أجلاً أبعد زاد في الثمن فهل يصح هذا أو لا يصح ؟
قيل بالجواز ، وقيل بالمنع ، وفيما أعلم أن ا لجمهور ذهبوا إلى الجواز ومنع منه بعض السلف ، وقد روي منع ذلك عن سليمان بن يسار وروي عن غيره من الفقهاء .
أما حجة من اختار الجواز ، فهو : الأصل ، فالأصل في البيوع الحل ولم يقم دليل ونص على منع هذا النوع من البيع ولا هو في معنى المنصوص .([5])
حجة المانعين : أنه في هذا البيع ما قصد توفير السلعة في السوق ولكنه قصد المال بدليل أنه زاد في مقابل الأجل فصار كأن قصده الأول هو المال ، فيصير هذا شبيهاً بمسألة : ( إما أن تقضي وإما أن تربي ) وهو ربا الجاهلية . قالوا : لأن الثمن أصبح ديناً في ذمته فهو يضاعفه في كل شهر ، ولذلك منعوا هذا .
وبعضهم فسر حديث :« نهى عن بيعتين في بيعة » ببيوع الأجل هذه ( التقسيط ) فيضع للمال ثمناً وللمؤجل ثمناً آخر أكثر منه فمنعوا هذا البيع .
ولكن الذي يظهر والله أعلم : الجواز إن شاء الله تعالى ؛ لأنه الأصل كما ذكرنا ، وليس في معنى المنصوص ، وهو يختلف عن ( إما أن تقضي وإما أن تربي ) لأن ( إما أن تقضي وإما أن تربي ) هذا إذا كان ديناً في ذمته فلما جاء وقت السداد ولم يكن معي المال قال : هي إذا عليك بكذا ، يعني بالزيادة .
ولكن الصورة التي معنا بيع وليست ديناً ، فهو متفق على الزيادة قبل العقد قبل أن يصبح هذا الثمن ديناً في ذمة المشتري ودخل المشتري على بصيرة والشارع لا يمنع من هذا ؛ لأن في هذا تحقيق المصلحتين : مصلحة المشتري بالتأجيل ، ولا شك أن التأجيل لأنفع له من التنجيز ؛ لأنه قد لا يجد .
ومصلحة البائع بالزيادة لأنه لا يمكن - أيضاً - أن يبيع سلعة مؤجلة بالثمن نفسه حالاً فهذا عليه مضرة وعليه نوع خسارة فلأجل مصلحة الفريقين يحكم بجواز المسألة إن شاء الله تعالى خاصة وأنه لم يرد دليل يمنع منها .
أما مسألة أنه جعل للأجل مقابلاً ، فنقول : تقدم الكلام في مسألة ( ضع وتعجل ) أنه ليس كل أجل زيد في مقابلته من المال لا يعتبر هذا ممنوعاً بدليل ( ضع وتعجل ) أسقط مقابل إسقاط بعض الأجل .
إنما المنهي عنه من الزيادة في الأجل في صورة معينة معروفة ، وهي : صورة الدين المؤجل ، أما البيع المؤجل فلا مانع ، ولو جعل في مقابل الأجل زيادة في الثمن فمثل هذا لا يمنع منه الشارع .
والمسألة فيها كلام كثير وتفصيل طويل ، ولكن الراجح إن شاء الله تعالى والمعمول به ما اختاره كثير من المحققين : الجواز .
مسألة / العينة :
العينة داخلة في بيوع الآجال المحرمة ، وإن كانت مختلفاً فيها ، وذهب إلى جوزاها الشافعية ، وهو المذهب المعتمد عندهم لكن الجمهور على منعه ؛ ولذلك تكلمت عنها في بيوع الآجال المختلف فيها .
سميت العينة من العين . ولفظ ( العين ) مشترك لفظي ومن معانيه : النقد ( الدراهم ، الدنانير ) .
وسميت العينة بهذا الاسم : لأن أحد المتبايعين يقصد بالبيع العين ، ولا يقصد السلعة .
وتعتبر العينة ذريعة إلى الربا ، وهذا الربا ربا القرض الذي يجر نفعاً وتقدم أنه ( كل قرض جر نفعاً فهو ربا ) وقد ثبت هذا عن جملة من الصحابة كابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام في البخاري وغيره .
أحياناً يتوصل إلى القرض الذي يجر نفعاً بنوع من أنواع البيوع الصورية ، التي لا يُقْصَد فيها حقيقة البيع ، وإنما يُتوصَّل بها إلى القرض الذي يجر النفع ومن ذلك : بيع العينة .
والراجح : منع بيع العينة ، وهو قول جمهور الفقهاء وهو الصحيح الموافق للأصول الشرعية .
وتفسير العينة صح عن الصحابة ، وأما النهي عن العينة فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور حديث ابن عمر عند أبي داود وأحمد وهو ثابت قال النبي صلى الله عليه وسلم :« إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر وتركتم الجهاد ورضيتم بالزرع سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم » .
في هذا الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه سبب لتسليط الذل فكان الظاهر أن تسليط الذل والعذاب إنما سببه هذه الأمور ومنها العينة ؛ لأن المجيزين وهم الشافعية قالوا : إن الرسول ما نهى العينة وغاية ما في الأمر أنه ذكر خبراً أنه يأتي أناس يكون من أمرهم كذا وكذا ويسلط الله عليهم عقاباً ولم يقل إن العينة حرام .
سبحان الله !! فإن النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يصرح بمنع العينة فإنه يفهم من ربط الحكم بالعلة أن هذا سبب وعلة ، فحينما تقول مثلاً : عصى الناس ربهم فسلط الله عليهم عذاباً ، ألا يفهم أن سبب هذا العذاب هو المعصية ؟! بلى ، وبالتالي ألا يفهم منعها وتحريمها والتحذير منها ؟! بلى ، وهكذا العينة فيستفاد من ذلك المنع .
وصح عن عائشة رضي الله عنها أنها فسرت العينة بالصورة المعروفة لما جاءتها أم ولد لزيد بن ثابت كما في حديث سبيعة والحديث مختلف في صحته والراجح إن شاء الله تعالى الاحتجاج به كم رجح ذلك ابن القيم وغيره وهو عند الإمام أحمد ، جاءت أم ولد زيد بن ثابت وأخبرت عائشة أن زيداً اشترى سلعة مؤجلة بمائة وباعها حالة بثمانين - يعني نفس صورة العينة - فقالت : بئس ما شريت وما اشتريت ، أخبري زيداً أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حبط إلا أن يتوب ، أو كما قالت .
فيستفاد من ذلك تصريح الصحابة بالمنع من هذه الصورة وتطبيق العينة على الصورة التي ذكرها الفقهاء .
صور العينة :
العينة الممنوعة ، التي هي ذريعة للقرض الذي جر نفعاً لها صور عديدة :
الصورة الأولى :
وهي من أشهر الصور مما هو موجود اليوم في سوق الدلالين ( الشريطية ) أن يأتي المحتاج إلى المرابي فيقول : أقرضني 80.000 ريال فيقول : ما عندي ، لكن أنا أبيعك سيارتي هذه بـ 100.000 ريال مؤجلة إلى سنة ثم تشتريها مني الآن حالة بـ 80.000 ريال فيأتي المرابي ويبيع السيارة على المحتاج بـ 100.000 ريال مؤجلة ثم يبيعها المحتاج على المرابي بـ 80.000 ريال حالة فيرجع المحتاج بـ 80.000 ريال حالة ويعيدها بعد سنة 100.000 ريال التي هي الثمن المؤجل ، فصارت ربا قرض جر نفعاً .
فحقيقة هذه المسألة قرض جر نفعاً والمؤدى والحاصل أن يقترض زيد من عمرو 80.000 ريال ويشترط عليه عمرو أن يردها عليه بعد سنة 100.000 ريال وهذا ربا الجاهلية .
وهذا البيع الصوري الذي يفعلونه إنما هو تحايل على الله عز وجل كما قال أيوب السختياني رحمه الله : يخادعون الله كما يخادعون صبياً .
ومعلوم أن الحيل حرام إلا ما أُرخص فيه ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :« لعن الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحوم الميتة جملوها ثم باعوها ثم أكلوا ثمنها » فكل من تحايل للوصول إلى حرام ففيه شبه من اليهود وهم أصل الحيل ، والحيل جاءت من طريقهم ؛ لأنهم أهل الجشع والطمع .
الصورة الثانية :
عكس مسألة العينة وهي داخلة في العينة على الصحيح .
فيشتري المرابي سيارة المحتاج بـ 80.000 ريال حالة ثم يبيعها على الفقير بـ 100.000 ريال مؤجلة فيرجع الفقير بسيارته و80.000 ريال ثم بعد الأجل يعيد له 100.000 ريال فصارت 80.000 ريال أُرجعت 100.000 ربا قرض جر نفعاً .
الصورة الثالثة :
أن يبيع المرابي على المحتاج السيارة بـ 100.000 ريال مؤجلة والفقير لا يبيعها على المرابي ولكن يبيعها على أبيه أو أخيه أو وكيله الذي اتفق معه ويظن أن هذا يخرجه من العينة ، وهذا في الحقيقة لا يخرجه من العينة ، فيدخل شخصاً ثالثاً ولا يخرجه هذا من العينة بحال .
الصورة الرابعة :
أن يدخلا بينهما محللاً ، يدخل معهما في الجريمة ، فيأتي الفقير المحتاج يسأل التاجر المرابي سلفاً فيقول : ما عندي سلف ، لكن اشتر السيارة من فلان من الناس وأنا اشتريها منك ، فيذهب الفقير المحتاج إلى فلان من الناس ( المحلل ) ويشتري منه السيارة مؤجلة بـ 100.000 ريال ثم يرجع إلى التاجر الأول فيبيعها الفقير عليه حالة بـ 80.000 ريال ثم التاجر المرابي يعيدها ثانية على المحلل بـ 80.000 ريال حالة وحينما يأتي الفقير يسدد الـ 100.000 ريال يقتسمان بينهما هذا الربح .
كل هذه من صور العينة .
على كل حال كل بيع توصل فيه إلى الوصول إلى القرض الذي يجر نفعاً فهو داخل في العينة وهو حرام .
وقد ثبت تحريمه عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعائشة وعن كثير من السلف ، ثبت عن ابن عباس أن رجلاً اشترى حريراً بمبلغ حال ثم باعها مؤجلة بأكثر - يعني نفس صورة العينة - فقال ابن عباس : بيع ببيع دخلت بينهما حريرة ، يعني أن هذه لا تعدو إلا أن تكون وسيلة وإلا فإنها غير مقصودة .
الجاري الآن عند بعض الناس أنهم يتعاملون بالعينة كثيراً ويسمونها الدينة ولذلك تجد عنده مثلاً صناديق هيل أو أكياس بن ونحو ذلك ، ثم يبيعها على المحتاج بـ 100.000 ريال مؤجلة ويبيعها المحتاج عليه أو على شخص ثالث يتظاهرون أنه أجنبي عنهم وهو ليس بأجنبي بل متفق في السر مع البائع يبيعها عليه بـ 80.000 ريال حالة ، وهذه هي حقيقة العينة ، فالواجب الإنكار على أهلها لأنها موجودة بكثرة .
لكن قد يستعمل العامة ( الدينة ) بمعنى التورق ، والتورق فيه خلاف ، منعه بعض وأجازه البعض ، ولعل الراجح إن شاء الله تعالى أنه جائز ؛ لأنه فيه اتفاق .
والتورق بينه وبين العينة فرق دقيق ، فالتورق : أن يأتي ويشتري السيارة من صاحب المعرض بـ 100.000 ريال مؤجلة ثم يبيعها حالة بـ 80.000 ريال على شخص أجنبي ليس بينه وبين صاحب المعرض أي اتفاق ، فهذا هو التورق ويستعمله الناس كثيراً وذلك بقصد توفير السيولة بأيديهم ، فلا يكون معه دراهم وهو محتاج لعمار أو غيره فيشتري سيارتين إلى أجل ثم يبيعها حالة في السوق ويستفيد من السيولة لإكمال العمار أو مشروعه والمبلغ المؤجل يسدده على أقساط .
هذا على الصحيح أنه جائز وإن كان ورد الكلام فيه عن البعض .
هذا والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
([1]) يبدأ الفقهاء بالإجماع ؛ لأن مستند الإجماع دليل شرعي ؛ لأنه لا يتطرق إليه نسخ ، ولأن الأمة لا تجتمع إلا على دليل سالم من المعارضات .
([2]) فائدة : الدين ليس خاصاً بالقرض فقط ، وإنما كل ما وجب في الذمة سمي ديناً سواء كان بدل قرض أو ثمن مبيع أو عوض جناية أو قيمة متلف أو أي سبب من الأسباب .
([3]) بيع الثمار المقصود به : بيع الرطب ، أو التمر ، أو البسر ، أو العنب ، أو غيرها .
([4]) لأنه أخضر ثم منه ما هو أصفر ومنه ما هو أحمر على اختلاف البلح .
([5]) هذه العبارة يستعملها الفقهاء كثيراً ، كما في المغني مثلاً ، فالمنصوص هو الذي جاء فيه نص من كتاب أو سنة ، والذي في معنى المنصوص : المجتمع معه في علة ( معنى ) .