علامات صدق التائب
لا يعتبر مجرد التلفظ بالتوبة دليلا على الصدق فيها، ما لم يأت التائب بعلامات تكون ترجمة عملية للتوبة. ومن العلامات الدالة على صدق التائب([98]).
1- الإقلاع الفعلي عن الذنب، والأخذ في مقابله من أعمال الطاعة، وهذا دليل حساسية القلب وانتفاضه وشعوره بالإثم، ورغبته في التوبة.
2- العزم والقصد لتدارك ما فات، وإصلاح ما يأتي، فإن كان الماضي تفريطا في عبادة قضاها، أو مظلمة أداها، أو خطيئة لا توجب غرامة حَزِنَ إذْ تعاطاها، وهذا دليل على تعظيم الله في قلبه واشتداد خوفه منه ورجائه إياه، وطمعه فيما عنده.
3- أن تضيق الأرض عليه كما ضاقت على كعب بن مالك وصاحبيه([99]) فيستولى عليه الحزن والبكاء، فيشغله عن اللهو والضحك.
4- أن تكون الحالة بعد التوبة خيرا مما كان قبلها. قال الله تعالى: **فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ**([100]).
5- أن لا يأمن مكر الله طرفة عين فقال تعالى: **وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ**([101]).
فيصحبه الخوف طيلة حياته، ويستمر على ذلك حتى يسمع قول الرسول لقبض روحه: **إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ**([102]).
6- أن يتألم ويندم ويأسف على ما فرط منه، وخوفا من سوء عاقبة.
7- أن يذكر دائما سرعة لقاء ربه ويترقب في كل لحظة نزول الموت به وأنه أقرب إليه من شراك نعله. قال رسول الله r: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك»([103]).
8- ومن أقوى علامات صدقه في التوبة: محبة الله ورسوله ومحبة المؤمنين فيه والإتيان من العمل بما تقتضيه هذه المحبة.
التوبة التامة
توبة يجمع العبد فيها كل عزمه وإرادته، مبادرا به عازما على المضي فيها إلى آخر عمره، مقلعا عن الذنب وهو يحدث نفسه ألا يعود إليه، كما لا يعود اللبن إلى الضرع.
توبة تبدأ بالندم، وتنتهي بالعمل الصالح والطاعة وتظل تذكر القلب بعدها، وتخلصه من رواسب المعاصي وعكارها، وتحضه على ألا يعود إلى الذنب أبدا، وأن تكون لله، لا حفظا للصحة أو المال، أو حرصا على حظ من متاع الدنيا، أو خوفا من عقاب أحد، أو سطوة قانون، أو عدم وجود ما يعينه على المعصية، لكنه يهجر الذنب كي لا يُغضب الله ورسوله.
ثم اعلم أن على كل عضو من أعضاء الإنسان توبة: فتوبة العين كفها عن النظر إلى المحارم، وتوبة اليد كفها عن تناول المحرم، وتوبة السمع كفه عن سماع المحرم، وتوبة الفرج كفه عن الزنا .. وهكذا.
وأن يستدرك العبد ما فاته، فيؤدي كل فرض ضيعه، ويريد إلى كل ذي حق حقه من المظالم، ويشغل البدن الذي استعمله في السحت والحرام بطاعة الله تعالى وامتثال أوامره والتغذي بالحلال، والبعد عن مواطن الشبهات والحرام.
التوبة النصوح([104])
أما التوبة النصوح فقد عرفها ابن كثير –رحمه الله تعالى- بقوله: "توبة صادقة جازمة تمحو ما قبلها من السيئات وتلم شعث التائب وتجمعه وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات».
ثمار التوبة
وثمار التوبة يتذوق حلاوتها من عرف حقيقة التوبة وتعبَّد الله بها، فهي سبب كل خير وفلاح وسبب طمأنينة النفس، واستكانة الروح، وطرب القلب، ونشوته، وفرحته، فإن الله جل وعلا يحب التائب ويفرح بتوبته، ويورثه في قلبه حلاوة، وسعادة وفرحا، ومن أهم ثمار التوبة([105]):
1- رضي الله تبارك وتعالى: التائب إلى الله سبحانه محبوب عند الله، مؤيد بعونه، مصان محفوظ من كل سوء وبلية، تتنزل عليه الرحمات، وتتغشاه البركات، وتستجاب له الدعوات. قال تعالى في الحديث القدسي: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه»([106]).
2- طمأنينة النفس: إن ضرر المعاصي على الأزواج والنفوس أخطر من ضرر الأمراض على الأجساد. بل إن ضرر المعصية يشمل الروح والبدن. فترى العاصي قد اجتمعت عليه أنواع الهموم والغموم، وألوان الوساوس والهواجس، فلا تجده إلا قلقا فزعا خائفا، وما ذلك إلا بسبب ما اقترفه من المعاصي والخطيئات، لذلك كانت التوبة طمأنينة للنفس، وسعادة للقلب، قال الإمام الحسن البصري –رحمه الله-: "الحسنة نور في القلب وقوة في البدن، والسيئة ظلمة في القلب ووهن في البدن، فالتوبة دواء لأمراض النفس والبدن تقتضي الصبر ومطالعة الثواب من عند الله. فهي دواء يصقل القلوب ويجلي عنها أسباب الضيق والضنك وهو الران. قال تعالى: **كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ**([107]) والقلوب إذا أزيل عنها الران أصبحت خفيفة مرحة لا تعرف اليأس ولا يصيبها النكد.
3- اجتناب سخط الله عز وجل: إن التوبة وقاية من عذاب الله وعقابه، ذلك لأن الذنوب موجبة للسخط والنكال، والتوبة ماحية للذنوب ناسخة لها. قال تعالى عن يونس –عليه السلام- **فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ**([108]) وإنما كان تسبيح يونس: **لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ**([109]).
فتفكر وفقك الله في أن الذنوب تنقضي لذاتها وتبقى تبعاتها، وأن التوبة هي فصل ما بين العبد وبين العقاب. فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي r قال: «إن الله يغار وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه»([110]).
فتذكر – يا عبد الله- أنك بشر، وأن أحكام البشرية جارية عليك من السهو والغفلة والنسيان والخطأ وغلبة الطبع. وهذا يقتضي أن تكون ملازما للتوبة في كل حين لأنها تجير ما بدر منك من زلل وما اقترفته من قبيح العمل.
فوائد التوبة([111])
اعلم يا عبد الله: أن للتوبة فوائد عظيمة وكثيرة ويكفي التائب أن يكون عند الله من أهل العدالة لقوله تعالى: **وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ**([112]). فيعرف الشيء بنقيضه، ونقيض الظلم العدالة وهي صفة التائبين ومن هذه الفوائد ما يلي:
1- سلاح خلقي: وهي من الأسلحة الإيمانية، بل هي سلاح فتاك إذا استعمله الإنسان في حق نفسه فإنه يغير طبيعة حياته. لهذا قال الكاتب الهولندي (فرانزستال) في مقال له نشر في المجلة الإسلامية التي تصدرها الجمعية الإسلامية في وولنج بإنجلترا "إن التوبة في الإسلام هي وسيلة تغير الأفراد أنفسهم، وهي سلاح خلقي عظيم، ففيها الندم والتغير والتحول".
2- احترام الذات: إن من أجمل فوائد التوبة أن يحترم الإنسان ذاته وكيانه. بعد أن كان يحتقرها ويكرهها، حين كانت ساقطة من عينيه أثناء المعصية. أما بعد التوبة فإن الواقع النفسي يختلف؛ حيث يحب التائب نفسه ويحترمها، ويكون ذلك بيان الأمور التالية:
- إن التوبة تفتح الأمل أمام الإنسان القلِق الذي حطمته ذنوبه وآثامه؛ حيث يجعله الأمل بعد التوبة يشعر براحة نفسية.
- إن التوبة تؤدي بصاحبها إلى احترام ذاته بعدما كان يعلن الحرب عليها ويحتقرها بسبب الآثام.
- إن التوبة تدفع صاحبها إلى التحرر من الشعور بالذنب والخوف.
3- البركة بالعمل والرقة بالقلب: أخي التائب إن للتوبة آثارا في القلب، ولهذا أخبر ابن قيم الجوزية "إن التوبة توجب على التائب: المحبة والرقة واللطف، وشكر الله وحمده والرضا عنه وعبوديات أخرى. فإذا تاب إلى الله توبته, فيترتب له على ذلك القبول أنواع من النعم التي لا يهتدي العبد لتفاصيلها، بل لا يزال يتقلب في بركاتها وآثارها ما لم ينقضها ويفسدها.
4- تبديل السيئات: لقوله تعالى **إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا**([113]) وهذه أعظم الفوائد التي ترغب التائب في أن يتوب في كل لحظة من حياته، فتجُبُّ التوبة ما قبلها من السيئات، ويكون المرء دائما كما ولدته أمه طاهرا نقيا، بعد إعلان التوبة الصادقة.
من هم التائبون؟
هم الذين إذا فعلوا سيئة أو فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله، فندموا وتابوا وآمنوا، ورجعوا إلى الله من قريب، واستغفروا لذنوبهم، ولم يستمروا على ما فعلوا من المعصية غير مقلعين عنها، وعزموا أن لا يعودوا إليها أبدا. وأتبعوا توبتهم الأعمال الصالحة.
- التائب: صادق العبارة جم المشاعر، جياش الفؤاد. مشبوب الضمير.
- التائب: منكسر القلب، غزير الدمعة، حي الوجدان، قلق الأحشاء.
- التائب: بين الرجاء والخوف، والسلامة والعطب والنجاة والهلاك.
- التائب في قلبه حرقة، وفي وجدانه لوعة، وفي وجهه أسى، وفي دمعه أسرار.
- التائب: له في كل واقعة عبرة، فالحمام إذا غرد بكى، والطير إذا صاح ناح، والبلبل إذا شدا تذكر، والبرق إذا لمع اهتز.
قال عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-: "اجلسوا إلى التوابين فإنهم أرق أفئدة فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" وقد جعل الله تعالى باب التوبة مفتوحا على مصراعيه. ولن يغلقه حتى تطلع الشمس من مغربها.
وقال أبو يزيد البسطامي –رحمه الله-: علامات التائب خمس: إذا ذكر نفسه افتقر، وإذا ذكر ذنبه استغفر، وإذا ذكر الدنيا اعتبر، وإذا ذكر الآخرة استبشر، وإذا ذكر المولى افتخر.
قال أحد الشعراء:
إلهي تبت عما كان مني
فكفر سيئاتي وارض عني
وعاملني بلطفك يا إلهي
ولا تقطع لأجل الذنب مني
وكن يوم القيامة لي معينا
وأحسن بي كما أحسنت ظني
التائب يناجي ربه
يتقلب التائب([114]) في الليل الداجي يبكي ويناجي, فيقال له: مالك أطلعنا فسترنا، وعرفنا فعذرنا، وعلمنا فحملنا، وقدرنا فغفرنا!
قال التائب: يا رب أذنبت: قال الرب: وأنا غفرت، قال التائب: ذنوبي تجل عن الإحصاء، قال الرب: ولو بلغت عنان السماء. قال التائب: يا رب أهلكتني السيئات، قال الرب: إن الحسنات يذهبن السيئات.
قال التائب: يا رب تسامحنا على ما فات أما تحاسبنا على تلك الزلات؟ فقال الرب: بل أبدل السيئات حسنات. قال التائب: لا أكرم منك أحد، قال الله: أنا الصمد! **قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ**([115]).
أيها التائب: أبشر فإن تذكرك لذنبك طاعة منك لربك، كلما احترق قلبك بنار الندم، ذابت جبال الخطايا والهم، كلما أطار الهم نومك وكدر الحزن يومك غسلت سيئاتك ومحوت خطيئاتك، التائب حبيب الله وصديق عباده، وضيف رحمته، ووافد جنته، ومستحق كرامته، وحائز قربه.
التائب يحبه المرسلون لأنه صدق قيلهم، واتبع سبيلهم، واقتفى دليلهم، والتائب تحبه الملائكة، لأنهم يستغفرون له، ويفرحون بطاعته، ويحبون توبته، والتائب يحبه المؤمنون، لأنه أعانهم على نفسه، وجاهد معهم شيطانه، وأرضى إلههم وإلهه.
دمع التائب على صدق صاحبه برهان وعلى صحة توبته سلطان أيها التائب: الآن عرفت فالزم، ووصلت فاسلم، وحصلت فاغنم، فتقدم ولا تحجم، الباب أمامك مفتوح، والعطاء من ربك ممنوح، والكرم منه يغدو ويروح.
والله والله ما أبكي على طلل
أقفى وأفقر من أهل وسكان
ولا بكيت على واد الغضا سحرا
أو خيمة بين روض الطلح والبان
وما ذرفت دموعي في الهوى سفها