الفصل الثاني: الكفر، وأنواعه
المبحث الأول: معنى الكفر
معنى الكفر لغة:
الكفر في اللغة: الجحود. وأصله من الكفر، وهو الستر والتغطية. يقال: كفر الشيء كفرا: ستره وغطاه. ويقال: كفر الزارع البذور بالتراب، غطاها وسترها؛ فهو كافر. وكفر التراب ما تحته: غطاه. وكفر الليل الأشياء بظلامه، غطاها وسترها، فهو كافر، وتكفر بالشيء: تغطى به وتستر. وكفر نعمة الله، وكفر بها كفورا وكفرانا: جحدها وسترها1.
معنى الكفر في الشرع:
الكفر ضد الإيمان، ويعرف شرعا بأنه: جحد ما لا يتم الإسلام بدونه. أو جحد ما لا يتم كمال الإسلام بدونه2.
والصلة بين المعنيين: أن جاحد الحق كأنه ساتر له، مغطية، وجاحد نعم الله: كأنه ساتر لها، مغطيها3.
ملاحظة هامة:
التكفير من الأحكام الشرعية -التي يطلقها الشارع؛ فلا يجوز لأحد إطلاقه بمجرد الهوى، أو بقياس عقلي، أو نحو ذلكن بل هو حق لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يطلق هذا الوصف على أحد إلا بعد استحقاقه له. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن الإيجاب والتحريم والثواب والعقاب والتكفير والتفسيق هو إلى الله ورسوله، ليس لأحد في هذا حكم؛ وإنما على الناس إيجاب ما أوجبه الله ورسوله، وتحريم ما حرمه الله ورسوله4.
__________
1 انظر: أساس البلاغة للزمخشري ص547. ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/ 9. والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص605-606. ولسان العرب لابن منظور 5/ 144. ومفردات غريب القرآن للأصفهاني ص434. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص791-792.
2 انظر: أعلام السنة المنشورة لحافظ الحكمي ص146. والمدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للبريكان ص181.
3 انظر القاموس المحيط للفيروزآبادي ص605.
4 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 5/ 545.
المبحث الثاني: أنواع الكفر الأكبر
تمهيد:
الكفر نوعان: كفر أكبر، وكفر أصغر؛ فالكفر الأكبر اعتقادي، يخرج من الإيمان بالكلية. والكفر الأصغر عملي، ينافي كمال الإيمان، ولا ينافي مطلقه؛ فهو لا يخرج من الإيمان بالكلية، بل ينقص من كماله1.
والحديث في هذا المبحث منصب على الكفر الأكبر، وهو الاعتقادي، الذي ينافي الإيمان، ويضاده من كل وجه، ويخرج صاحبه عن الدين والملة، ويوجب له الخلود في النار، كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ** [البينة: 6] .
وغنما قلنا عن هذا النوع إنه اعتقادي، لأن مقره القلب.
وقلنا إنه ينافي الإيمان ويضاده؛ لأننا عرفنا الإيمان بأنه قول وعمل؛ "قول القلب وعمله، وقول اللسان، وعمل الجوارح"؛ فإذا زالت هذه الأربعة، زال الإيمان بالكلية، وإذا زال تصديق القلب، لم تنفع البقية1. والكافر جاحد غير مصدق كما بينا ذلك آنفا.
والكفر الأكبر أنواع متعددة، من لقي الله بنوع منها، لم يغفر له، وقد ذكر بعضها العلامة ابن القيم رحمه الله بقوله: وأما الكفر الأكبر، فخمسة أنواع: كفر تكذيب، وكفر استكبارا وإباء مع التصديق، وكفر إعراض، وكفر شكن وكفر نفاق2.
ومن أنواع الكفر الأكبر أيضا: كفر البغض، والكفر بدعوى علم الغيب.
وسأقتصر على ذكر بعض أنواع الكفر الأكبر -بإذن الله- في المطالب التالية:
__________
1 انظر أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص147.
2 مدارج السالكين لابن القيم 1/ 366.
المطلب الأول: من أنواع الكفر الأكبر "كفر الجحود"
أولا: تعريفه
هو أن يعرف الإنسان الحق بقلبه؛ لكنه لا يقر به ولا يعترف به بلسانه، وبالتالي لا ينقاد بجوارحه، فهو جاحد له ظاهرا، مع معرفته باطنا1.
ثانيا: من الأمثلة عليه، مع الأدلة
1- كفر فرعون وقومه؛ حيث جحدوا الله عز وجل بألسنتهم، مع معرفتهم له بقلوبهم.
كما قال عز وجل عنهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ** [النمل: 14] ، وعللوا جحودهم بقولهم -كما حكى الله عنهم: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ** [المؤمنون: 47] .
2- كفر اليهود؛ حيث جحدوا نبوة رسولنا صلى الله عليه وسلم، وكتموا أمره، وكتموا صفاته الموجودة في كتبهم، على الرغم من معرفتهم له كمعرفتهم لأبنائهم، يقول عز وجل عنهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ** [البقرة: 146] ، ويقول سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ** [البقرة: من الآية 89] .
ثالثا: نوعا كفر الجحود
قسم العلامة ابن القيم رحمه الله كفر الجحود إلى نوعين: جحود مطلق عام، وجحود مقيد خاص؛ فالمطلق: أن يجحد جملة: ما أنزل الله، وإرساله الرسول.
والخاص المقيد: أن يحد فرضا من فروض الإسلام، أو تحريم محرم من محرماته، أو صفة وصف الله بها نفسه، أو خبرا أخبر الله به؛ عمدا، أو تقديما لقول من خالفه عليه، لغرض من الأغراض2.
رابعا: أمر يجدر التنبيه إليه
من جحد شيئا مما تقدم ذكره -في أمثلة الجحود الخاص المقيد- جهلا أو تأويلا يعذر فيه صاحبه، فلا يكفر صاحبه به؛ كحديث الذي جحد قدرة الله عليه، وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح. ومع هذا فقد غفر الله له، ورحمه لجهله؛ إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه، ولم يجحد قدرة الله على إعادته عنادا أو تكذيبا2.
__________
1 انظر: أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص148. ومدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لعثمان جمعة ضميرية ص337.
2 مدارج الساكين لابن القيم 1/ 176. والحديث في صحيح البخاري، كتاب التوحيد، ح7508.
المطلب الثاني: من أنواع الكفر الأكبر "كفر الإباء والاستكبار"
أولا: تعريفه
هو أن يعرف الإنسان الحق بقلبه، ويعترف به بلسانه، ولكنه يأبى أن يقبله أو يدين به؛ إما أشرا وبطرا، وإما احتقارا له ولأهله، أو لسبب آخر1.
ثانيا: من الأمثلة عليه، مع الأدلة
1- كفر إبليس؛ فإنه لم يجحد أمر الله عز وجل، ولا قابله بالإنكار، وغنما تلقاه بالإباء والاستكبارا2؛ كما قال عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ** [البقرة: 34] .
2- كفر من عرف صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه جاء بالحق من عند الله عز وجل؛ عرف، وأقر بذلك، ولم يشك في صدقه؛ لكنه لم ينقد إليه إباء واستكبارا، أو أخذته الحمية وتعظيم الآباء أن يرغب عن ملتهم، أو يشهد عليهم بالكفر2.
وخير من يمثل هذه الحال: أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي عرف صدق ابن أخيه، واعترف بذلك قائلا:
ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا3
لكن هذه المعرفة والإقرار لم ينفعاه؛ لأنه أبى أن ينقاد ويقول: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"؛ خشية أن يقال: ترك دين آبائه وأجداده. وقد سأل العباس رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حال أبي طالب في الآخرة، فأجابه: "هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" 4؛ فهو خالد في النار، لكن عذابه أهون من غيره.
__________
1 انظر: أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص149. ومدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لعثمان جمعة ضميرية ص338.
2 انظر مدارج السالكين لابن القيم 1/ 366.
3 انظر شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي 2/ 461.
4 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، والتخفيف عنه بسببه.
المطلب الثالث: من أنواع الكفر الأكبر الكفر بدعوى علم الغيب
أولا: تعريفه
هو اعتقاد أن احدا غير الله تعالى يعلم الغيب. وهو كفر لمعارضته لقوله عز وجل:
{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ** [النمل: 65] ، وقوله سبحانه وتعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ** [الأنعام: 59] .
ثانيا: من الأمثلة عليه
الأمثلة على هذا النوع كثيرة، ويمكن بيان بعضها في المسائل التالية.
المسألة الأولى: السحر
أولا: تعريفه
السحر في اللغة: ما خفي ولطف سببه1. وفي الاصطلاح: عزائم ورقى وعقد وكلام يتكلم به، أو يكتب، أو يعمل شيء يؤثر في القلوب والأبدان والعقول؛ فيمرض، ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه2.
ثانيا: قسما السحر: السحر قسمان 3
قسم: خيالات ترهب بظاهرها، وتؤثر في القلوب، بيد أنه لا حقيقة لها؛ كسحر سحرة فرعون. قال تعالى عنه: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى** [طه: من الآية66] .
وقسم: له حقيقة؛ كالذي حدث لر سول الله صلى الله عليه وسلم3، حين سحره اليهودي لبيد بن أعصم؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء، وما يفعله، حتى أتاه ملكان؛ فقعد أحدهما عند رجليه صلى الله عليه وسلم، والآخر عند رأسه، فأخبراه بصنيع اليهودي، وأنه سحره في مشط ومشاطة؛ جعله في وعاء طلع النخل، ودفنه في بئر ذي أروان، فأخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم4.
__________
1 انظر: الصحاح للجوهري 5/ 678. والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص519.
2 انظر المغني لابن قدامة 8/ 150.
3 انظر المجموع الثمين للشيخ ابن عثيمين 2/ 143.
4 انظر الحديث بطوله في صحيح البخاري، كتاب الطب، باب السحر، وباب: هل يستخرج السحر، وفي صحيح مسلم، كتاب السلام، باب السحر.
ملاحظة: هذا الذي وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه انتقاصا لشخصه، بل هو كالأمراض التي كانت تعتريه صلى الله عليه وسلم وإصابته به كإصابته بالسم، لا فرق بينهما. "انظر: زاد المعاد لابن القيم 4/ 124".
ثالثا: حكم السحر، مع الدليل: السحر محرم بالكتاب والسنة والإجماع.
وهو من أكبر الكبائر، ومن السبع الموبقات.
ودليل ذلك من كتاب الله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ** [البقرة: 102] ؛ فدلت هذه الآية الكريمة على أن السحر كفر، وأن السحرة يفرقون بين المرء وزوجه، كما دلت على أن السحر ليس بمؤثر لذاته نفعا ولا ضرا، وإنما يؤثر بغذن الله الكوني والقدري؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخير والشر. كما دلت الآية الكريمة على أن الذين يتعلمون السحر إنما يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، وأنه ليس لهم عند الله من خلاق -أي من حظ ونصيب. وهذا وعيد عظيم يدل على شدة خسارتهم في الدنيا والآخرة، وأنهم باعوا أنفسهم بأبخس الأثمان1.
ودليل حرمة السحر من السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا الموبقات: الشرك بالله، والسحر" 2.
فالسحر من الموبقات. يقول الإمام النووي رحمه الله عن السحر: عمل السحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات. ومنه ما يكون كفرا، ومنه ما لا يكون كفرا؛ بل معصية كبيرة. فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر، فهو كفر، وإلا فلا. وأما تعلمه وتعليمه فحرام3؛ فالسحر قد يكون كفرا إذا كان فيه تعظيم غي الله؛ من الجن والشياطين والكواكب وغيرهم، وإذا كان فيه ادعاء علم الغيب.
وأكثر العلماء على أن الساحر كافر يجب قتله4، وحده -كما في الحديث-: "ضربة بالسيف"5. وسئل الإمام أحمد عن الساحر، فقال: إذا عرف بذلك فأقر؛ يقتل6.
__________
1 رسالة في حكم السحر والكهانة للشيخ ابن باز ص7.
2 صحيح البخاري، كتاب الطب، باب الشرك والسحر من الموبقات.
3 نقله عنه ابن حجر في فتح الباري 10/ 224. وانظر كلام الحافظ ابن حجر عن حكم السحر وتعلمه في الموضع نفسه. وانظر: تفسير ابن كثير 1/ 258. وأضواء البيان للشنقيطي 4/ 456.
4 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 29/ 384.
5 أخرجه مالك في الموطأ 2/ 871. والحاكم في المستدرك 4/ 360 مرفوعا، ولا يصح رفعه، بل هو موقوف.
6 انظر مسائل الإمام أحمد، برواية ولده عبد الله ص247. وأحكام أهل الملل للخلال ص207.
رابعا: علاج السحر:
حصل العلاج بأن يقرأ على المسحور: سورة الإخلاص، والمعوذتين، وآية الكرسي، والآيات التي ذكر فيها السحر، وخاصة التي في سورة يونس، في قوله عز وجل:
{مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ** [يونس: 81] ، شريطة أن يصدر ذلك عن إخلاص، وصدق، وتوكل، وإيمان جازم بأن النافع والضار هو الله عز وجل وحده.
ولو أضاف سبع ورقات من السدر الأخضر، ودقهن، ووضعهن في ماء تقرأ فيه تلك الآيات، ويحسو منها المسحور ثلاث حسوات، ويغتسل بالباقي، لكان ذلك أفضل1.
المسألة الثانية: الكهانة
أولا: تعريف الكاهن
الكاهن هو الذي يدعي أنه يعلم الغيب، وهو لفظ يطلق على العراف، والرمال، والذي يضرب بالحصى، والمنجم2؛ فكل من أخبر عن المغيبات في المستقبل، هو كاهن، وكل من ادعى معرفة علم شيء من المغيبات، فهو إما داخل في اسم الكاهن، او مشارك له في المعنى، فيلحق به3.
فائدة:
سئل الإمام أحمد رحمه الله: الكاهن شرا أو الساحر؟ قال: كل شر4.
ثانيا: حكم الكهانة، مع الدليل
الكهانة محرمة بالكتاب، والسنة، والإجماع.
يقول الله عز وجل مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ** [الطور: 29] .
ووجه الدلالة من هذه الآية على تحريم الكهانة: أن الله عز وجل نفي الكهانة عن نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الكهان يدعون علم الغيب. ومجرد ادعاء علم الغيب كفر بواح، فاعتبر الله عز وجل السلامة من الكهانة نعمة. ومفهوم ذلك أن الكهانة تتنافى مع نعمة الإسلام5.
__________
1 انظر: فتح الباري لابن حجر 10/ 233-234. وأضواء البيان للشنقيطي 4/ 464. ورسالة في حكم السحر والكهانة للشيخ ابن باز ص8-13. والمجموع الثمين للشيخ ابن عثيمين 1/ 155.
2 فتح الباري لابن حجر 10/ 216.
3 انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص414.
4 انظر أحكام أهل الملل للخلال ص208.
5 انظر أضواء البيان للشنقيطي 7/ 456.
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من تطير أو تطير لهن أوتكهن أو تكهن لهن أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" 1؛ ففي قوله صلى الله عليه وسلم: "أو تكهن أو تكهن له" إشارة إلى أن من تلقى الكهانة عمن يتعاطها، فقد برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففيه وعيد وتحذير من مجرد إتيان الكهان والعرافين ونحوهم ممن يدعون معرفة الغيب -ولو لم يصدقهم- ويشهد لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى عرافا فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة" 2. هذا إذا سأله ولم يصدقه. أما إذا سأله، ودقهن فالوعيد أشد -والعياذ بالله تعالى، يقول صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، أو أتى امرأة حائضا، أو أتى امرأة في دبرها، فقد برئ مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم" 3.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله معلقا على هذا الحديث: ظاهر الحديث أنه يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان4.
فإذا كان هذا حال من أتى الكاهن، فما هو حال الكاهن نفسه؟!
المسألة الثالثة: التنجيم
أولا: تعريفه
التنجيم -كما يزعم أهله: هو الاستدلال على الحوادث الأرضية قبل حدوثها بالنظر في الأحوال الفلكية5؛ فيخبر أهل هذه الصناعة عما سيقع في العالم مستقبلا، ويزعمون أنهم استفادوا ذلك من النظر في سير الكواكب في مجاريها، واجتماعها واقترانها، زاعمين أن لها تأثير في العالم السفلي6.
__________
1 ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 117، وقال: "ورجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن الربيع وهو ثقه". وقال المنذري في الترغيب والترهيب 4/ 33: "رواه البزار بإسناد جيد".
2 صحيح مسلم، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة، وإتيان الكهان.
3 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطب، باب في الكاهن. والترمذي في جامعه، كتاب الطهارة، باب ما جاء كراهية إتيان الحائض. وابن ماجه في سننه، كتاب الطهارة، باب النهي عن إتيان الحائض.
والحديث صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/ 739، وفي صحيح سنن الترمذي 1/ 44.
4 فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص411.
5 انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 35/ 192.
6 انظر التنجيم والمنجمون وحكمهم في الإسلام للدكتور عبد المجيد المشعبي ص31-33.
ثانيا حكم التنجيم، مع الدليل:
قبل الحديث عن حكم التنجيم، تجدر الإشارة إلى أن التنجيم نوعان:
أحدهما: مباح، وهو ما يعرف بعلم الحساب، أو علم التسيير؛ كمعرفة وقت الكسوف، والخسوف، والرصد، وهبوب الرياح، واتجاهاتها، مع الاعتقاد الجازم أن كل شيء يجري في هذا الكون بقضاء الله وقدره. وعند الإخبار بشيء من ذلك يقيد الكلام بمشيئة الله، وبعبارة التوقع؛ فهذا قال العلماء بجوازه. ولا يدخل تحت هذه المسألة1.
أما النوع الثاني: وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية؛ فيدعي المنجم أنه من خلال النظر في النجوم يمكن أن يعرف ما سيقع في الأرض؛ من نصر قوم، أو هزيمة آخرين، أو موت أو حياة، أو قيام أو زوال، أو خسارة لرجل، وربح لآخر.
فهذا النوع هو المراد بهذه المسألة، وهو محرم، وصاحبه يعتبر كافر كفار بواحا إذا اعتقد أن للنجوم تأثيرا ذاتيا في الحوادث الأرضية.
ومن الأدلة على تحريم التنجيم: أن الله عز وجل إنما خلق النجوم زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدي بها. لم يخلقها سبحانه للاستدلال بها على ما يجري على الأرض.
يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ** [الملك: 5] ، ويقول سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ** [الأنعام: 97] .
وقد دلت السنة على تحريم التنجيم؛ فمن ذلك: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد" 2. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف على أمتي في آخر زمانها: النجوم، وتكذيب بالقدر، وحيف السلطان" 3.
__________
1 انظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص448. والمجموع الثمين للشيخ ابن عثيمين 2/ 141-142. والتنجيم والمنجمون وحكمهم في الإسلام للدكتور عبد المجيد المشعبي ص160-162، 305-320.
2 أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الطب، باب في النجوم. وابن ماجه في السنن، كتاب الأدب، باب تعلم النجوم. وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 793، وفي صحيح سنن أبي داود 2/ 739، وفي صحيح سنن ابن 2/ 305.
3 أخرجه الطبراني في المعجم في الكبير، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 203، وقال: "فيه ليث بن أبي سليم، وهو لين، وبقية رجاله وثقوا" وقال الألباني: "الحديث له شواهد كثير يرتقي بها إلى درجة الصحة في نقدي". "السلسلة الصحيحة 3/ 119، رقم 1127".
المبحث الثالث: أنواع الكفر الأصغر
تمهيد:
الكفر الأصغر أحد نوعي الكفر. ومن الفروق بينه وبين الكفر الأكبر1:
1- الكفر الأكبر يحبط العمل؛ كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ** [إبراهيم: 18] . والأصغر لا يحبط العمل، وإن كان ينقصه.
2- الكفر الأكبر كفر اعتقادي، والكفر الأصغر كفر عملي.
3- الكفر الأكبر يخرج من ملة الإسلام، وأما الأصغر فلا يخرج، وصاحبه مؤمن ناقص الإيمان.
4- الكفر الأكبر إذا مات العبد عليه لم يغفر له. والكفر الأصغر إن مات العبد عليه فهو تحت المشيئة، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه. ولا ينافي ذلك إيجابه للوعيد؛ لأننا نقول إن استحقاقه للوعيد لا يمنع العفو عنه.
5- الكفر الأكبر يوجب الخلود في النار؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ** [البينة: 6] ، والكفر الأصغر لا يوجب الخلود في النار إن دخلها صاحبه.
أولا: تعريف الكفر الأصغر
هو كل معصية أطلق عليها الشارع اسم الكفر، مع بقاء اسم الإيمان على عاملها2؛ فهو معصية عملية لا تخرج عن أصل الإيمان، وإنما توجب لصاحبها الوعيد بالنار، دون الخلود فيها. وسميت كفرا لأنها من خصال الكفر3.
ثانيا: من أشهر أنواع الكفر الأصغر
للكفر الأصغر أنواع متعددة ضابطها ما تقدم في التعريف:
كل معصية أطلق الشارع عليها اسم الكفر، مع بقاء اسم الإيمان على عاملها.
وبيان بعض هذه الأنواع يمكن في المطالب التالية:
__________
1 انظر المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للدكتور إبراهيم البريكان ص182-183.
2 انظر أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص149.
3 انظر: مدارج السالكين لابن القيم 1/ 346. فتح الباري لابن حجر 1/ 83-85.
المطلب الأول: من أنواع الكفر الأصغر كفر النعمة
أولا: المراد به
نسبة النعم التي أنعم الله عز وجل بها علينا إلى غير المنعم عز وجل، أو استعمالها في غير مرضات الله؛ كالإسراف، والتبذير، وشراء المحرمات، أو إعطاء النعم لمن نهانا ربنا عز وجل عن إعطائهم؛ كالسفهاء من الصبيان وغيرهم. قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا** [النساء: 5] .
ثانيا: الأدلة عليه، من الأدلة على كفر النعمة:
1- قول الله عز وجل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ** [النحل: 112] .
2- قول الله عز وجل: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ** [النحل: 83] ؛ فهؤلاء عرفوا نعم الله عز وجل، وعروفا أن الله هو المنعم عليهم بها، ولكنهم جحدوها، وزعموا أنهم ورثوها كابرا عن كابر1.
3- قصة الثلاثة: الأبرص، والأقرع، والأعمى، الذين أنعم الله عليهم بإصلاح حالهم وبالمال، فجحد اثنان منهم نعمة الله، وقالا: إنما ورثنا هذا المال كابرا عن كابر. واعترف الأعمى بنعم الله، وقال: قد كنت أعمى، فرد الله إلي بصري. فقال له الملك: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك2.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ معلقا على هذا الحديث: وهذا حديث عظيم، وفيه معتبر؛ فإن الأولين جحدا نعمة الله، فما أقرا لله بنعمة، ولا نسبا النعمة إلى المنعم بها، ولا أديا حق الله، فحل عليهما السخط، وأما الأعمى فاعترف بنعمة الله، ونسبها إلى من أنعم عليه بها، وأدى حق الله فيها، فاستحق الرضا من الله قيامه بشرك النعمة لما أتى بأركان الشكر الثلاثة التي لا يقوم الشكر إلا بها، وهي الإقرار بالنعمة، ونسبتها إلى المنعم، وبذلها فيما يجب3.
__________
1 انظر: جامع البيان للطبري 7/ 629. والقول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين 2/ 201-202.
وفتح المجيد لعبد الرحمن بن حسن ص592-594.
2 الحديث بطوله أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع. ومسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب رقم10.
3 فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ص636.
المطلب الثاني: من أنواع الكفر الأصغر الطعن في الأنساب والنياحة على الميت
أولا: المراد بهما
عيب النسب، والطعن فيه، ورفع الصوت بندب الميت، وتعداد فضائله.
وهما من أنواع الكفر العملي، لما فيهما من مشابهة صنيع الكفار في الجاهلية قبل الإسلام1.
ثانيا: من الأدلة عليهما
1- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت" 2؛ فهاتان الخصلتان بالناس كفر؛ لأنهما من أعمال الجاهلية، وهما قائمتان بالناس، ولا يسلم منهما إلا من سلمه الله عز وجل3. يقول الإمام النووي في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "هما بهم كفر": فيه أقوال أصحها أن معناه: هما من أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية4. فلهذا عدهما العلماء من جنس الكفر العملي.
2- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية" 5. وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأصناف الثلاثة؛ لأنها غالبا ما يفعلها الناس عند نزول المصاءئب، وهي من التسخط المنهي عنه، وفيها إظهار عدم الرضا بقدر الله، أو الصبر على قضائه. ودعوى الجاهلية هي: النياحة، وندبة الميت، والدعاء بالويل وشبهة6. فهذه من أعمال الكفار في الجاهلية قبل الإسلام. من أجل هذا عدها العلماء من جنس الكفر العملي.
__________
1 انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ص520.
2 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة.
3 انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لليخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ص520.
4 شرح النووي على صحيح مسلم 2/ 57.
5 صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب ليس منا من شق الجيوب. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود.
6 انظر شرح النووي على صحيح مسلم 2/ 110.
المطلب الثالث: من أنواع الكفر الأصغر قتال المسلم
أولا: المراد به
يراد به: قتال المسلم للمسلم بغير وجه حق، وهو نوع من أنواع الكفر العملي، المنافي لكمال الإيمان.
ثانيا: من الأدلة عليه
1- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" 1؛ فأطلق صلى الله عليه وسلم على قتال المسلم اسم: "الكفر"، تنبيها على عظم حق المسلم، وبيان حكم من قاتله بغير حق.
وهذا كفر عملي لأنه شبيه بفعل الكفار؛ فهو كفر أخوة الإسلام، لا كفر الجحود2.
2- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" 3.
فأطلق صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين على قتال المسلمين بعضهم بعضا اسم "كفر"، وسمى من يفعل ذلك "كفارا". وليس المراد بالكفر ههنا الكفر الأكبر المخرج من الملة؛ لأن الله عز وجل أبقى على المتقاتلين من المؤمنين اسم "الإيمان"، فقال سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ** [الحجرات: 9] ، ثم سماهم مؤمنين، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ** [الحجرات: 10] ، فأثبت لهم الإيمان، وأخوة الإيمان، ولم ينف عنهم شيئا من ذلك4؛ فعلم أن الكفر هنا كفر عملي لا يخرج صاحبه من دائرة الإسلام، وهو من جنس الكفر الأصغر5.
__________
1 صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر".
2 انظر شرح النووي على صحيح مسلم 2/ 54.
3 صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ".
4 انظر أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص150.
5 انظر شرح النووي على صحيح مسلم 2/ 55.
الفصل الثالث: النفاق، وأنواعه
المبحث الأول: معنى النفاق
معنى النفاق لغة:
النفاق في اللغة: من "النفق"، وهي تدل على الإخفاء وعدم الإظهار. ومنه سمي السرب في الأرض الذي له مخلص إلى مكان نفقا. وقيل لأحد جحري اليربوع: النافقاء والنفقة؛ لأنه يكتمه ويظهر غيره؛ فإذا أتي من جهة القاصعاء، ضرب النافقاء برأسه، فانتفق. يقال: نافق اليربوع، إذا أخذ في نافقائه1.
معنى النفاق في الشرع:
النفاق شرعا: هو أن يظهر المرء ما يوافق الحق، ويبطن ما يخالفه؛ فمن أظهر أمام الناس ما يدل على الحق، وكان حقيقة أمره أنه على باطل من الاعتقاد، أو الفعل، فهو المنافق، واعتقاده، أو فعله هو النفاق2.
الصلة بين المعنيين:
يلاحظ أن المنافق قد ستر اعتقاده، أو عمله، وأخفاه، وأضمره، فمثله كثل الضب؛ يدخل من جحر ظاهر، ثم إذا شعر بالخطر خرج من باب آخر تتعذر رؤيته. وكذلك يفعل المنافق: يدخل في الإسلام من باب ظاهر؛ فينطق الشهادتين، ويصلي مع الناس، مع أنه يكتم خلاف الإسلام، ويتربص بالمسلمين الدوائر، وينتظر ظهور الكفر، حتى يتخلى عما أظهره، كما قال الله عن المنافقين: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ** [النساء: 141] .
نوعا النفاق: النفاق نوعان: نفاق أكبر "اعتقادي"، ونفاق أصغر "عملي".
__________
1 انظر: أساس البلاغة للزمخشري ص648-649. ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/ 454-455.
والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص1195-1196. ولسان العرب لابن منظور 10/ 358-359.
والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص942.
2 انظر: المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للبريكان ص192. والمعجم الوسيط ص942.
المبحث الثاني: النفاق الأكبر الاعتقادي
أولا: تعريف النفاق الأكبر
هو أن يظهر الرجل للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله، مكذب به1؛ فهو قد أظهر الانقياد والتصديق ظاهرا؛ لكنه أبى ذلك باطنا2.
ثانيا: حكم النفاق الأكبر
النفاق الأكبر نفاق اعتقادي محله القلب، وصاحبه كافر، خالد مخلد في النار، بل في الدرك الأسفل منها إن لم يتب3، كما قال عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا** [النساء: 145] .
وقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين، وكشف أسرارهم في القرآن، وجلى لعباده أمورهم ليكونوا منها ومن أهلها على حذر فإن بلية الإسلام بهم شديدة جدا؛ لأنهم منسوبون إليه، وإلى نصرته وموالاته، وهم أعداؤه في الحقيقة4.
ثالثا: صفات المنافقين نفاقا أكبر
قد كشف الله في كتابه أسرار المنافقين، وهتك أستارهم، في آيات كثيرة، نزلت تخبر عن أوصافهم، وأهدافهم، ووسائلهم الدنيئة لهدم الدين، أو إضعاف المسلمين.
والنفاق الأكبر "الاعتقادي" قد جمع أهله خصالا كثيرة، وصفات عديدة، سأقتصر على ذكر بعضها، كي لا يقع شيء منها في قلب المؤمن، فيخسر الدنيا والآخرة. فمنها:
1- تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم باطنا لا ظاهرا. ودليل هذه الصفة قول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ** [المنافقون: 1] ؛ أي كاذبون فيما أظهروا من شهادتهم، وحلفهم بألسنتهم. فمن قال شيئا، واعتقد خلافه، فهو كاذب5.
__________
1 انظر: مدارج السالكين لابن القيم 1/ 379-377. والقاموس المحيط للفيروزآبادي 1196.
2 انظر أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص149.
3 انظر مدارج السالكين لابن القيم 1/ 376.
4 انظر المرجع نفسه 1/ 377.
4 انظر المرجع نفسه 1/ 377.
5 انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/ 80.
2- موالاة الكافرين، وإعانتهم في حربهم ضد المسلمين. ودليل هذه الصفة قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ** [الحشر: 11] ؛ فهؤلاء المنافقون أطمعوا إخوانهم من أهل الكتاب في نصرتهم، وموالاتهم على المؤمنين، وأقسموا أنهم لن يطيعوا في عدم نصرتهم أحدا يعذلهم أو يخوفهم، وأنهم سينصرونهم ويعينوهم على المسلمين إن قاتلوهم1.
3- تبييت الشر للمسلمين، وتدبير المكائد لهم. ودليل هذه الصفة قول الله عز وجل: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا** [النساء: 108] ؛ فمخافة الخلق عند هؤلاء المنافقين أعظم من مخافة الله عز وجل، لذلك تجدهم يحرصون بالوسائل المباحة والمحرمة على تجنب الفضيحة عند الناس، وهم مع ذلك قد بارزوا الله بالعظائم، ولم يبالوا بنظره واطلاعه عليهم، خصوصا في حال تبييتهم ما لا يرضيه من القول2.
4- المسرة بانخفاض دين المسلمين، وكراهية انتصاره. ودليل هذه الصفة قول الله عز وجل: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ** [التوبة: 48] ؛ فقد طلب هؤلاء المنافقون الشر من البداية، واحتالوا في تشتيت أمر المسلمين وإبطال دينهم، حتى أظهر الله دينه، وأعز جنده، والمنافقون كارهون لذلك3. ومن الأدلة أيضا قوله سبحانه وتعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ** [التوبة: 50] ؛ فقد أخبر سبحانه وتعالى أن المنافقين إن أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه نصر وغنيمة ساءهم ذلك، وإن أصابهم قتل وهزيمة، قالوا: عملنا بالحزم فلم نخرج معكم، ثم ينقلبون وهم فرحون بمصابكم وسلامتهم4.
__________
1 انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن سعدي 7/ 338.
2 انظر المرجع نفسه 2/ 154.
3 انظر زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 3/ 448.
4 انظر المصدر نفسه 3/ 450.
المبحث الثالث: النفاق الأصغر العملي
أولا: تعريف النفاق الأصغر:
هو ترك المحافظة على أمور الدين سرا، ومراعاتها علنا1.
ثانيا: حكم النفاق الأصغر:
النفاق الأصغر نفاق عملي؛ فصاحبه يدعي الإيمان بالله عز وجل، والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنه يعمل أعمالا عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من النفاق.
وصاحب هذا النوع لا يخرج عن ملة الإسلام في الدنيا، وهو في الآخرة مستحق للوعيد؛ لكنه لا يخلد في النار إن دخلها.
ثالثا: صفات المنافقين نفاقا أصغر:
ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة علامات ظاهرة، من اتصف بها فقد شابه المنافقين في أعمالهم؛ وإنما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر عنها كي نحذر من هذه الصفات الذميمة؛ لأنها من علامات النفاق، ويخشى أن يكون هذا النفاق العملي مؤديا إلى نفاق في الاعتقاد -والعياذ بالله تعالى2.
ومن هذه العلامات:
1- الكذب في الحديث. فيحدث الناس بحديث يصدونه فيه، وهو كاذب.
2- إخلاف الوعد. فيعد بوعد، ومن نيته أن لا يفي، أو يعد ثم يبدو له أن يخلفه من غير عذر في الخلف3.
3- خيانة الأمانة؛ فإذا ائتمن أمانة، لم يؤدها.
4- الغدر. فإذا عاهد غدر، ولم يف بعهده.
5- الفجور في الخصومة. فيخرج عن الحق عمدا، حتى يصير الحق باطلا والباطل حقا4.
__________
1 انظر مدخل لدراسة العقيدة الإسلامة لعثمان جمعة ضميرية ص348.
2 انظر شرح رياض الصالحين للصديقي 4/ 578.
3 انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب 2/ 482.
4 انظر المصدر نفسه 2/ 486.
وهذه العلامات الخمس جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" 1، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" 1.
تنبيه: النفاق الأصغر "العملي" مقدمة للنفاق الأكبر "الاعتقادي"؛ فمن اتصف بصفات النفاق العملي، فقد أشبه المنافقين "اعتقادا" في أعمالهم، ولكنه ليس على كفرهم أو اعتقادهم.
وإن كان يخشى عليه من النفاق الاعتقادي؛ فالواجب على المؤمن أن يتجنب هذه الصفات؛ لأن الإيمان ينهى عنها. وعلينا أن نعلم أن هذه الصفات إذى اجتمعت في شخص، وغلبت على أعماله، ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهو المنافق الخالص2 -والعياذ بالله-.
نسأل الله أن يجنب المسلمين هذا الداء العضال، إنه جواد كريم.
__________
1 صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق.
2 انظر شرح النووي على صحيح مسلم 2/ 47.
الباب الثالث: عقيدة الولاء والبراء
الفصل الأول: نصوص الولاء والبراء في القرآن والسنة
أولا: من نصوص الولاء والبراء في القرآن الكريم
...
الباب الثالث: عقيدة الولاء والبراء
الفصل الأول: نصوص الولاء والبراء في القرآن والسنة
القرآن الكريم والسنة النبوية مليئان بالأدلة التي تأمر بموالاة المؤمنين، وتنهى عن موالاة الكفار، وتحض على البراءة منهم. ونظرا لكثرة هذه النصوص، سأقتصر على ذكر بعضها:
أولا: من نصوص الولاء والبراء في القرآن الكريم
1- قول الله عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ** [البقرة: 120] ؛ فهذه فيها "النهي العظيم عن اتباع أهواء اليهود والنصارى والتشبه بهم فيما يختص به دينهم"1.
2- قول الله سبحانه وتعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ** [آل عمران: 28] ؛ فنهى سبحانه وتعالى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصدقاء وأصحابا من دون المؤمنين، يعينونهم على المؤمنين، ويدلونهم على عوراتهم، وأخبر عز وجل أن من فعل ذلك فقد برئ من الله، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر2.
3- قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ** [المائدة: 51] ؛ فأخبر عز وجل أن من يعاضد اليهود والنصارى ويناصرهم على المسلمين، فحكمه كحكمهم في الكفر والجزاء3.
__________
1 تيسير الكريم الرحمن للشيخ ابن سعدي 1/ 133.
2 انظر جامع البيان جرير الطبري 3/ 227.
3 انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/ 141.
4- قول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ** [الأنفال: 73] ؛ فقطع الله الولاية بين الكفار والمؤمنين؛ فجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والكفار بعضهم أولياء بعض، يتناصرون بدينهم، ويتعاملون باعتقادهم1.
5- قول الله عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ** [المجادلة: 22] ؛ فأخبر سبحانه وتعالى أنك لا تجد من يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانا حقيقيا ثم تصدر منه موادة لمن حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب2.
6- قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ** [الممتحنة: 1] ؛ فنهى سبحانه عن موالاة الكفار، أو إلقاء المودة إليهم، وأخبر ان ذلك مناف للإيمان، ومخالف لملة إبراهيم الخليل عليه السلام، ومناقض للعقل الذي يوجب الحذر كل الحذر من العدو3.
7- قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ** [الممتحنة: 13] ؛ فنهى سبحانه وتعالى عن موالاة وموادة ومناصرة الكفار، وأخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء الكفار قد حرموا من خير الآخرة؛ فليس لهم منها نصيب، ثم حذر عبادة المؤمنين أن يتولوهم، فيوافقوهم على شرهم وشركهم، فيحرموا خير الآخرة كما حرموا4.
__________
1 انظر المرجع نفسه 8/ 37-38.
2 انظر كتاب الإيمان: أركانه، حقيقته، نواقضه للدكتور محمد نعيم ياسين ص186.
3 انظر تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي 7/ 348-349.
4 انظر المرجع نفسه 7/ 348-349.
ثانيا: من نصوص الولاء والبراء في السنة النبوية
1- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام؛ فإذا لقيتم أدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه" 1.
2- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: "أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين" 2.
3- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسلم على مسلم محرم، أخوان نصيران، لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملا، أو يفارق المشركين إلى المسلمي ن " 3.
4- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل" 4.
5- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي" 5.
6- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأس المنافقين عبد الله بن أبي: "قد كنت أنهاك عن حب يهود" 6.
7- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب" 7.
__________
1 صحيح مسلم، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يرد عليهم.
2 أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/ 365. والنسائي في السنن، كتاب البيعة، باب البيعة على فراق المشرك. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 636، وفي صحيح سنن النسائي 3/ 875.
3 أخرجه النسائي في السنن، والحاكم في المستدرك 4/ 600، وصححه، ووافقه الذهبي. وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 369.
4 أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس. والترمذي في الجامع الصحيح، أبواب الزهد، باب رقم 32، وقال: حديث حسن. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/ 917، وفي صحيح سنن الترمذي 2/ 280، وفي السلسلة الصحيحة رقم 927.
5 أخرجه الترمذي في الجامع الصحيح، أبواب الزهد، باب ما جاء في صحبة المؤمن. وأبو داود في السنن، كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس. وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/ 285.
وصحيح سنن أبي داود 3/ 917. وصحيح الجامع رقم 7341.
6 أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الجنائز، باب في العيادة. وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/ 598: ضعيف الإسناد، لكن قصة القميص صحيحة.
7 صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب علامة الحب في الله. وصحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب.
الفصل الثاني: مفهوم الولاء والبراء، ومنزلته في الدين
المبحث الأول: معنى الولاء والبراء في اللغة والشرع
...
الفصل الثاني: مفهوم الولاء والبراء، ومنزلته في الدين
بعدما أوردنا في الفصل السابق عددا من النصوص الشرعية التي تحث على موالاة المؤمنين، والبراءة من المشركين والكافرين، وتنهى عن موالاة المشركين والكافرين ومحبتهم، أو البراءة من المؤمنين ومعاداتهم، لزم أن نتعرف على معنى الولاء والبراء، كي يكون السلم على بينة من أمره، ومعرفة واضحة لما طلب منه فعله، أو تركه.
وهذا يستدعي أن نتعرف على معنى الولاء والبراء في اللغة، وفي الشرع.
المبحث الأول: معنى الولاء والبراء في اللغة والشرع
أولا: معنى الولاء لغة
الولاء مصدر من والى يوالي ولاء وموالاة، بمعنى: أحب، وقرب، وأدنى، وحابى. والمولى: الحليف، وهو من انضم إليك فعز بعزك، وامتنع بمنعتك.
وتولاك الله: أي نصرك. والولي ضد العدو، وهو: المحب، والصديق، والنصير، والتابع1. فالولاء على هذا يعني في اللغة: الحب، والدنو، والقرب، والنصرة.
ثانيا: معنى البراء لغة
البراء مصدر من برئ يبرأ براء وبراءة بمعنى: أبغض، وتباعد، وتخلص.
يقال: بارأت الرجل، إذا فارقته، وبارأت المرأة، إذا صالحتها على الفراق. وبرئت من كذا، إذا تخلصت منه، وتنزهت، وتباعدت عنه، وبرئ المريض برءا وبرءا، إذا شفي وتخلص مما به. وبرئ فلان من فلان، إذا تباعد وتخلى عنه2؛ فالبراء لغة يأتي بمعنى التخلص، والتنزه، والتباعد، والتباغض، والتجافي، والمفارقة.
__________
1 انظر: أساس البلاغة للزمخشري ص689. والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص1732. ولسان العرب لابن منظور 15/ 406-414. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص1057.
2 انظر: أساس البلاغة للزمخشري ص34. والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص42. ولسان العرب لابن منظور 1/ 31-34. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص46.
ثالثا: معنى الولاء شرعا
الولاء في الشرع: هو النصرة، والمحبة، والإكرام، والاحترام، والكون مع المحبوبين ظاهرا وباطنا1؛ فهو يعني التقرب وإظهار الود بالأقوال والأفعال والنوايا لمن يتخذه الإنسان وليا. فإن كان هذا التقرب وإظهار الود بالأقوال والأفعال والنوايا مقصودا به الله ورسوله والمؤمنين؛ فهي الموالاة الشرعية الواجبة على كل مسلم.
وإن كان المقصود بالتقرب وإظهار الود بالأقوال والأفعال والنوايا هم الكفار على اختلاف أجناسهم؛ فهي موالاة كفر وردة عن الإسلام إذا صدرت ممن يدعي الإسلام.
أما الكفار ومن في حكمهم من المرتدين والمنافقين، فبعضهم أولياء بعض، فلا يستغرب منهم ذلك2.
رابعا: معنى البراء شرعا
البراء في الشرع: هو البعد، والخلاص، والعداوة بعد الأعذار والإنذار3؛ فهو يعني بغض أعداء الله تعالى، ومعاداتهم، ومجافاتهم، والتبري منهم4، والتخلص من قبائحهم وباطلهم، والتنحي عن التشبه بهم5.
__________
1 انظر الولاء والبراء في الإسلام لمحمد بن سعيد بن سالم القحطاني ص92.
2 كتاب الإيمان: أركانه، حقيقته، نواقضه للدكتور محمد نعيم ياسين ص188.
3 انظر الولاء والبراء في الإسلام لمحمد بن سعيد بن سالم القحطاني ص92.
4 انظر حقيقة الولاء والبراء في معتقد أهل السنة والجماعة لسيد سعيد عبد الغني ص33.
5 انظر مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لعثمان جمعة ضميرية ص367.
المبحث الثاني: منزلة الولاء والبراء في الدين الإسلامي
لعقيدة الولاء والبراء منزلة عظيمة في الشرع، تتلخص فيما يأتي1:
1- إن عقيدة الولاء والبراء يرددها المسلم يوميا مرات كثيرة، كلما ردد كلمة الإخلاص:
"لا إله إلا الله"؛ لأنها تعني البراء من كل ما يعبد من دون الله. وهذه الكلمة مزقت كل رابطة، وأهدرت كل وشيجة، إلا وشيجة العقيدة.
__________
1 انظر: الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية لمحماس بن عبد الله الجلعود ص187-330. والمدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للدكتور إبراهيم البريكان ص225-227.
2- إن الحب في الله والبغض في الله شرط من شروط صحة "لا إله إلا الله"؛ لأن من شروطها:
حبها، وحب ما دلت عليه، وحب من نطق بها، ودعا إليها، وبغض ما يضادها1.
3- إن عقيدة الولاء والبراء هي أوثق عرى الإيمان. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله" 2.
4- إن تحقيق عقيدة الولاء والبراء من مكملات الإيمان. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان" 3.
5- إن تحقيق عقيدة الولاء والبراء تحقيقا تاما سبب لنيل ولاية الله عز وجل. يقول حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما: "من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك"4.
6- إنها سبب لذوق القلب حلاوة الإيمان. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" 5.
7- إن الاتصاف بصفة الحب في الله، سبب لنيل الأجر العظيم؛ فالمتحابون في الله يظلهم الله في ظله. يقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي" 6. والتحاب في الله سبب لنيل محبة الله عز وجل.
__________
1 انظر ما تقدم في هذا الكتاب ص74-75.
2 أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عباس. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/ 497، رقم 2539، وفي السلسلة الصحيحة رقم 1728.
3 أخرجه أبو داود في السنن، كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/ 886، وصحيح الجامع الصغير 2/ 1042، رقم 5965، وفي السلسلة الصحيحة رقم 380.
4 أخرجه الأصبهاني في حلية الأولياء 1/ 312.
5 تقدم تخريجه ص75 من هذا الكتاب.
6 صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب في فضل الحب في الله.
الفصل الثالث: لمن يكون الولاء؟
إن المسلم وهو ينشد مرضاة الله عز وجل، يجب عليه معرفة من الذين يجب عليه ولاؤهم وموالاتهم، ومن هم الذين يجب أن يصرف لهم الحب، ويتوجه إليهم بالمحبة، حتى ينال رضى الله تعالى1.
ولقد بين الله عز وجل لنا في كتابه لمن يصرف الولاء؛ فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ** [المائدة: 55-56] ؛ فمن تولى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، كان تمام ذلك تولي من تولاه، "وهم المؤمنون الذين قاموا بالإيمان ظاهرا وباطنا، وأخلصوا للمعبود بإقامتهم الصلاة بشروطها وفروضها ومكملاتها، وأحسنوا للخلق، وبذلوا الزكاة من أموالهم لمستحقيها منهم، وهم خاضعون لله ذليلون. ومن حقق هذه الولاية فإنه من الحزب المضافين إل الله إضافة عبودية وولاية، وحزبه الغالبون الذين لهم العاقبة في الدنيا والآخرة"2.
فعلم من هاتين الآيتين أن التوجه بالولاء يكون: لله -لدينه عز وجل، ولكتابه-، ولرسوله- لسنته، ولهديه وطريقته صلى الله عليه وسلم-، ولعامة المؤمنين.
1- أما موالاة الله عز وجل، فهذه يطلب فيها أشدها وأكملها، كما قال عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ** [البقرة: 165] .
2- أما موالاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه يطلب فيها تقديم محبته صلى الله عليه وسلم على كل غال وثمين؛ من ولد، ووالد، وأهل، وعشيرة، وأموال، وغير ذلك، يقول الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ
__________
1 انظر حقيقة الولاء والبراء في معتقد أهل السنة والجماعة لسيد سعيد عبد الغني ص645.
2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المناس للشيخ ابن سعدي 2/ 310-311.
تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ** [التوبة: 24] ؛ فهذه الآية فيها وجوب محبته صلى الله عليه وسلم، وأن محبة الله ورسوله مقدمة على كل محبوب1.
ومحبته صلى الله عليه وسلم سبب لتكميل الإيمان الواجب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" 2. وسبب لوجود حلاوة الإيمان في القلب، كما في الحديث: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما"3.
3- وأما عامة المؤمنين، فليست موالاتهم بدرجة واحدة، بل هي على درجات.
فالمؤمنون الخلص من الأنبياء، والصديقين، والشهداء والصالحين، تجب محبتهم، وفي مقدمتهم سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم؛ فإنه تجب محبته محبة أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، ثم زوجاته أمهات المؤمنين، وأهل بيته الطيبين، وصحابته الكرام، خصوصا الخلفاء الراشدين، وبقية العشرة، والمهاجرين، والأنصار، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ثم التابعون، والقرون المفضلة، وسلف هذه الأمة، وأئمتها؛ كالأئمة الأربعة"4.
أما المؤمنون الذين خلطوا عملا صالحا، وآخر سيئا، فهؤلاء يحبون من وجه، وييبغضون من وجه، فيجتمع فيهم المحبة والعداوة، وهم عصارة المؤمنين: يحبون لما فيهم من الإيمان، ويبغضون لما فيهم من المعصية التي هي دون الكفر والشرك. ومحبتهم تقتضي مناصحتهم والإنكار عليهم؛ فلا يجوز السكوت على معاصيهم، بل ينكر عليهم، ويؤمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وتقام عليهم الحدود والتعزيرات؛ حتى يكفوا عن معاصيهم، ويتوبوا من سيئاتهم؛ لكن لا يبغضون بغضا خالصا ويتبرأ منهم، كما تقوله الخوارج في مرتكب الكبيرة التي هي دون الشرك، ولا يبون ويوالون حبا وموالاة خالصين كما تقوله المرجئة، بل يعتدل في شأنهم على ما ذكرنا، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة5.
__________
1 انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/ 95.
2 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والوالد والناس.
3 تقدم تخريجه في ص75.
4 الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للدكتور صالح الفوزان ص317.
5 المرجع نفسه ص318-319.
الفصل الرابع: ممن يكون البراء؟
لا بد أن يعرف كل مسلم من هم الذين يجب البراء منهم؛ فيصرف إليهم معاني البراء التي سبق ذكرها، وذلك حتى يحقق الولاء تحقيقا تاما؛ إذ لا ولاء إلا ببراء.
ومن قرأ نصوص الولاء والبراء في الكتاب والسنة، والتي سبق ذكر بعضها في الفصل الأول1، واطلع على تفاسيرها تبين له أن الذين يجب البراءة منهم هم: كل من كفر بالله سبحانه وتعالى، وبدينه، وبرسوله صلى الله عليه وسلم، أو بأحدهم، أو حارب كتاب الله عز وجل، وشرعه الحنيف، أو بيت لدين الله الشر، وأضمر للمسلمين العداوة؛ من الكافرين، والمشركين، والمنافقين، والملحدين، وأشباههم ممن يحادون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ** [المجادلة: 22] . فدلت الآية الكريمة على عدم محبة ومودة كل من حاد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل وأوجبت بغض هؤلاء، وإظهار العداوة والبغض لهم، موالاة لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وبراءة من الكافرين، ومن كفرهم2.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقا على هذه الآية: فأخبر عز وجل أنك لا تجد مؤمنا يواد المحادين لله ورسوله، فإن نفسه الإيمان ينافي موادته، كما ينفي أحد الضدين الآخر. فإذا وجد الإيمان انتفى ضده؛ وهو موالاة أعداء الله؛ فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه، كان ذلك دليلا على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب3.
فهؤلاء الكفار، والمشركون، والمنافقون والمرتدون، والملحدون على اختلاف أجنائهم ممن يبغض، ويعادي، بغضا ومعاداة خالصين، لا محبة ولا موالاة معهما4.
__________
1 تقدم ذكرها في 199-201 من هذا الكتاب.
2 انظر حقيقة الولاء والبراء في معتقد أهل السنة والجماعة لسيد سعيد عبد الغني ص649.
3 كتاب الإيمان لابن تيمية ص17.
4 الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للدكتور الفوزان ص318.
الفصل الخامس: حكم الولاء والبراء
قد أخبرنا مولانا سبحانه أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، فقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ** [التوبة: 71] ، وأخبرنا جل جلاله أن الكافرين بعضهم أولياء بعض، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ** [الأنفال: 73] ، فقطع سبحانه وتعالى بذلك الموالاة بين المؤمنين والكافرين، وبين أن الكفار بعضهم أولياء بعض، كما أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض.
وموالاة المؤمنين تستلزم معاداة الكافرين. ومعاداتهم واجبة، كما أن موالاة المؤمنين واجبة؛ فمن قال أحب المؤممنين، لكني لا أعادي الكافرين، أو أعاديهم ولا أكفرهم، فلم يوال المسلمين حقا؛ لأن من شرط موالاة الله ورسوله والمؤمنين بغض أعدائهم، ومحبة أوليائهم.
فمعاداة الكفار -إذا- واجبة على كل مسلم، وموالتهم محرمة على المسلمين:
يقول الشيخ حمد بن علي بن محمد بن عتيق رحمه الله: فأما معاداة الكفار والمشركين، فاعلم أن الله سبحانه وتعالى أوجب ذلك، وأكد إيجابه، وحرم موالاتهم، وشدد فيها، حتى إنه ليس في كتاب الله حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم، بعد وجوب التوحيد، وتحريم ضده1. ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ رحمه الله: يجب أن تعلم: أن الله افترض على المؤمنين عداوة الكفار والمنافقين، وقطع الموالاة بين المؤمنين وبينهم، وأخبر أن من تولاهم فهو منهم2. ويقول العلامة ابن القيم رحمه الله3:
أتحب أعداء الحبيب وتدعي ... حبا له ما ذاك في الإمكان
وكذا تعادي جاهدا أحبابه ... أين المحبة يا أخا الشيطان
شرط المحبة أن توافق من تحـ ... ـب على محبته بلا نقصان
فإذا ادعيت له المحبة مع خلافـ ... ـك ما يحب فأنت ذو بهتان
لو كان حبهم لأجل الله ما ... عادوا أحبته على الإيمان
__________
1 سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك للشيخ حمد بن عتيق ص31.
2 أوثق عرى الإيمان للشيخ سليمان بن عبد الله ص26-27.
3 انظر النونية لابن القيم /بشرح الهراس- 2/ 125.
والمؤمن له أعداء يبغضهم في الله، وأولياء يحبهم في الله؛ لأن الأرض لا تخلو من أعداء الله وأعداء الإسلام والمسلمين؛ فما خلت منهم زمن الرسل والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فكيف بأوقات الفتنة في آخر الزمان. يقول عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ** [الأنعام: 112] ، ويقول سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا** [الفرقان: 31] .
تنبيه: لا تعني البراءة من الكفار والمشركين أن نسيء إلى أهل الملة الذين يعيشون في كنف الدولة الإسلامية، وتحت حمايتها؛ بل لهم من المسلمين حسن المعاملة، والتسامح معهم، وعدم إكراههم على الدخول في دين الإسلام، ووصلهم بقسط من المال على وجه البر والصلة، كما قال مولانا عز وجل: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ** [الممتحنة: 8] ؛ فهذا إحسان وبر ظاهري يندب إليه، شريطة أن لا يصل إلى المودة الباطنية التي نهينا عنها؛ من محبتهم، ونصرتهم، وإعانتهم على المسلمين. والمسلم المؤمن بالله ربا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، يستطيع أن يجمع بين ما أمر به، وما نهي عنه؛ فإن برهم والإحسان إليهم مأمور به. وودهم وتوليهم منهي عنه؛ فهما قاعدتان: إحداهما محرمة، والأخرى مأموره بها1. يقول الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله: إن الله لا ينهى المؤمنين عن بر من لم يقاتلهم وأما موالاتهم ومحبتهم وإكرامهم، فلم يرخص الله تعالى في ذلك2.
نسأل الله أن يعصمنا بالتقوى، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه قريب مجيب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أفضل صلاة وأتم تسليم، والحمد لله رب العالمين.
تم بحمد الله
__________
1 مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لعثمان جمعة ضميرية ص374.
2 أوثق عرى الإيمان للشيخ سليمان بن عبد الله ص64-65.
فهرس المصادر والمراجع: