في الإصلاح بين الناس
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسباب وقوع الخلاف بين الناس 2- الخلاف بين المسلمين يحلق الدين بما يصدر عن
المتخاصمين من هتك للحرمات 3- حرمة المسلم في دمه وماله وعرضه 4- هجر المسلم
5- فضيلة الإصلاح بين المسلمين 6- جواز الكذب للإصلاح
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا ربكم واصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، إنما المؤمنون إخوة فاصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون، والصلح خير، وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا، قوموا بما أمركم به ربكم من الإصلاح ينجز لكم ما وعدكم من الفلاح؛ من الخير العميم، والأجر العظيم، قال تعالى: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس من يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً [سورة النساء:114].
أيها الناس: إن الاختلاف بين الناس، والخصومة فيما بينهم، أمر واقع وله أسباب كثيرة، منها الشيطان الذي يعدهم الفقر ويأمرهم بالفحشاء، والنفس الأمارة بالسوء، والهوى المضل عن سبيل الله، والشح المهلك، والنميمة المفسدة، وإشتباه الأمور، وغير ذلك من الأسباب متفرقة أو مجتمعة، التي تنتج الخلاف وتورث الفتنة، حتى تفرق بين المحب وحبيبه، والقريب وقريبه، والصاحب وصاحبه، والنظير ونظيره؛ حتى تهجر الولد أباه، والزوج زوجه، والأخ أخاه، والجار جاره، والشريك شريكه، والجماعة من مجتمعهم، وذلك أنه إذا دب الخلاف واشتدت الخصومة، فسدت النيات، وتغيرت القلوب، وتدابرت الأجساد، وأظلمت الوجوه؛ فوقعت الحالقة التي لا تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، حيث يسوء ظن المسلم بأخيه، وهو كما في الصحيح: ((الظن أكذب الحديث)) ، وتتفوه الأفواه بفاحش القول وألوان البهت، وقد تمتد الجوارح إلى الضرب أو القتل، وغير ذلك من القبائح، وفي الصحيح عنه قال: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه)). وحتى يحتقر المرء اخاه، وفي الصحيح عنه قال: ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر اخاه المسلم)). ويقطع ما أمر الله به أن يوصل من حق الرحم وكل مسلم؛ فيقع المرء تحت طائلة قوله تعالى: والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار [سورة الرعد:25]. وحتى يتهاجر المسلمان، وقد قال : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، ويعرض هذا فيعرض هذا فيعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)). واخبر أن من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه. وحتى يقع الحسد والتحريش بين المسلمين، وفي الحديث عنه قال: ((إياكم والحسد فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)) أو قال: ((العشب)). وقال : ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم)). وذلك لما ينتج عنه من المفاسد قال : ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشترك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا)).
معاشر المسلمون: فإذا كان الاختلاف بين المسلمين وما ينتج من الهجر والقطيعة بينهم تنتج هذه المفاسد العظيمة، والعواقب الوخيمة من الاثم وسوء الظن، والكذب والبهت، واستحلال الحرمات، وتأجيل المغفرة او حرمانها، فمن ذا الذي يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر وهو يعلم ان بين اثنين من إخوانه - وخاصة الاقارب والارحام - شحناء وقطيعة، ثم لا يبذل وسعه وغاية جهده في الاصلاح بينهما؛ رحمة بهما وشفقة عليهما، وطمعا في فضل الله ورحمته، اللذين وعدهما الله من اصلح بين الناس.
أيها المسلمون: إن الصلح بين المسلمين من الصدقات التي ينبغي أن يتقرب بها المؤمن كل يوم إلى ربه؛ شكراً له على أن عافاه في بدنه، كما في المتفق عليه أن النبي قال: ((كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة)) أي تصلح بينهما، وروى الإمام أحمد وغيره أن النبي قال: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إصلاح ذات البين)). ولما بلغ النبي أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شر، خرج رسول الله يصلح بينهم في أناس معه حتى كادت تفوته الصلاة بسبب ذلك، وفي رواية قال : ((اذهبوا بنا نصلح بينهم)).
أيها المسلمون: ومن أجل عظيم منافع الإصلاح بين الناس رخص النبي في الكذب الذي يثمر الصلح، فقال: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا ويقول خيرا)). ولم يرخص في شيء مما يقوله الناس- أي من الكذب- إلا في ثلاث: لحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها.
فاتقوا الله أيها المؤمنون وأصلحوا بين إخوانكم عند الإختلاف، وتوسطوا بينهم عند النزاع والبغي، ولا سيما قراباتكم، ولا تتركوهم للشيطان وقرناء السوء يضلونهم عن سواء السبيل، ويهدونهم طريق الجحيم، أصلحوا بينهم تحفظوا لهم دينهم، وتحافظوا على نعمتهم قبل زوالها، وتفوزوا من الله بالأجر العظيم والثواب الكريم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين [سورة الحجرات:9].
بارك الله لي ولكم في القران العظيم، ونفعنا جميعا بما فيه من الآيات والذكر والحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.