هذا ما قاله الشيخ سليمان بن عبد الله من ذكر بعض الصور والأمثلة التي يقع فيها كثير من الناس من تعلقهم بالقبور والبناء عليها:
واعلم أنه قد وقع بسبب البناء على القبور من المفاسد التي لا يحيط بها على التفصيل إلاَّ الله، ما يغضب من أجله كل من في قلبه رائحة إيمان، كما نبَّه عليه ابن القيم وغيره.
فمنها: اعتيادها للصلاة عندها، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك.
ومنها: تحري الدعاء عندها. ويقولون: من دعا الله عند قبر فلان استجاب له، وقبر فلان الترياق المجرَّب، وهذا بدعة منكرة.
ومنها: ظنهم أن لها خصوصيات بأنفسها في دفع البلاء وجلب النعماء، ويقولون: إن البلاء يدفع عن أهل البلدان بقبور من فيها من الصالحين، ولا ريب أن هذا مخالف للكتاب والسنَّة والإجماع. فالبيت المقدس كان عنده من قبور الأنبياء والصالحين ما شاء الله، فلما عصوا الرسول وخالفوا ما أمرهم الله بهم، سلَّط الله عليهم من انتقم منهم. وكذلك أهل المدينة لما تغيروا بعض التغير، جري عليهم عام الحرَّة من النهب والقتل وغير ذلك من المصائب ما لم يجر عليهم قبل ذلك. وهذا أكثر من أن يحصر.
ومنها: الدخول في لعنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها.
ومنها: أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد، وخراب المساجد كما هو الواقع، ودين الله بضد ذلك.
ومنها: اجتماعهم لزيارتها واختلاط النساء بالرجال، وما يقع في ضمن ذلك من الفواحش وترك الصلوات، ويزعمون أن صاحب التربة تحمَّلها عنهم، بل اشتهر أن البغايا يسقطن أجرتهن على البغاء في أيام زيارة المشايخ، كالبدوي وغيره تقربًا إلى الله بذلك، فهل بعد هذا في الكفر غاية.
ومنها: كسوتها بالثياب النفيسة المنسوجة بالحرير والذهب والفضة ونحو ذلك.
ومنها: جعل الخزائن والأموال ووقف الوقوف لما يحتاج إليه من ترميمها ونحو ذلك.
ومنها: إهداء الأموال ونذر النذور لسدنتها العاكفين عليها، الذين هم أهل كل بلية وكفر، فإنهم الذين يكذبون على الجهال والطغام بأن فلانًا دعا صاحب التربة فأجابه، واستغاثه فأغاثه ومرادهم بذلك تكثير النذر والهدايا لهم.
ومنها: جعل السدنة لها كسدنة عباد الأصنام.
ومنها: الإقسام على الله في الدعاء بالمدفون فيها.
ومنها: أن كثيرًا من الزوَّار إذا رأى البناء الذي على قبر صاحب التربة سجد له.
ولا ريب أن هذا كفر بنص الكتاب والسنَّة وإجماع الأمة، بل هذا هو عبادة الأوثان، لأن السجود للقبة عبادة لها، وهو من جنس عبادة النصاري للصور التي في كنائسهم على صور من يعبدونه بزعمهم الباطل، فإنهم عبدوها
ومن هى صورته، وكذلك عباد القبور لما بنوا القباب على القبور آل بهم إلى أن عُبدت القباب ومن بنيت عليه من دون الله عزَّ وجلّ.
ومنها: النذر للمدفون فيها، وفرض نصيب من المال والولد، وهذا هو الذي قال الله فيه: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا** [الأنعام: 136]، بل هذا أبلغ فإن المشركين ما كانوا يبيعون أولادهم لأوثانهم.
ومنها: أن المدفون فيها أعظم في قلوب عباد القبور من الله وأخوف، ولهذا لو طلبت من أحدهم اليمين بالله تعالى أعطاك ما شئت من الأيمان كاذبًا أو صادقًا، وإذا طلبت بصاحب التربة لم يقدم إن كان كاذبًا.
ولا ريب أن عباد الأوثان ما بلغ شركهم إلى هذا الحد، بل كانوا إذا أرادوا تغليظ اليمين، غلَّظوها بالله كما في قصة القسامة وغيرها.
ومنها: سؤال الميت قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والإخلاص له من دون الله في أكثر الحالات.
ومنها: التضرع عند مصارع الأموات، والبكاء بالهيبة والخشوع لمن فيها أعظم مما يفعلونه مع الله في المساجد والصلوات.
ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله، وهى المساجد، فيعتقدون أن العبادة والعكوف فيه أفضل من العبادة والعكوف في المساجد، وهذا أمر ما بلغ إليه شرك الأولين، فإنهم يعظمون المسجد الحرام أعظم من بيوت الأصنام يرون فضله عليها، وهؤلاء يرون العكوف في المشاهد أفضل من العكوف في المساجد.
ومنها: أن الذي شرعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في زيارة القبور إنما هو تذكرة الآخرة، كما قال: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة»، والإحسان إلى المزور بالترحُّم عليه، والدعاء له والاستغفار، وسؤال العافية له، فيكون
الزائر محسنًا إلى نفسه وإلى الميت، فقلبَ عبَّاد القبور الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة: الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم ونصرهم على الأعداء ونحو ذلك. فصاروا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت، ولو لم يكن إلاَّ بحرمانه بركة ما شرعه الله من الدعاء والترحم عليه والاستغفار له.
ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله عباد القبور بها، فإنه يؤذيهم ما يفعلونه عند قبورهم، ويكرهونه غاية الكراهة، كما أن المسيح - عليه السلام - يكره ما يفعله النصاري، وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء، يؤذيهم ما يفعله أشباه النصاري عند قبورهم، ويوم القيامة يتبرءون منهم كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ** [الأحقاف: 5، 6].
ومنها: محادَّة الله ورسوله، ومناقضة ما شرعه فيها.
ومنها: التعب العظيم مع الوزر الكبير، والإثم العظيم.
وكل هذه المفاسد العظيمة وغيرها مما لم يذكر، إنما حدثت بسبب البناء على القبور، ولهذا تجد القبور التي ليس عليها قباب لا يأتيها أحدٌ لا يعتادها لشيء مما ذكر إلاَّ ما شاء الله، وصاحب الشرع أعلم بما يؤول إليه هذا الأمر، فلذلك غلَّط فيه وأبدأ وأعاد، ولعن من فعله، فالخير والهدى في طاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته.
والعجب ممن يشاهد هذه المفاسد العظيمة عند القبور، ثم يظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن اتخاذ المساجد عليها لأجل النجاسة، كما يظنه بعض متأخري الفقهاء، ولو كان ذلك لأجل النجاسة، لكان ذكر المجازر والحشوش، بل ذكر التحرز من البول والغائط أولى. وإنما ذلك لأجل نجاسة
الشرك، التي وقعت من عبَّاد القبور، لما خالفوا ذلك، ونبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنًا قليلاً، فبئس ما يشترون». (المختصر المفيد: 266، 270).