مواعظ ورقائق من تاريخ الإسلام للذهبي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد:
فقد ذكر الحافظ الذهبي في كتابه "تاريخ الإسلام" مواعظ، ورقائق، وعِبرًا، في تراجِم بعض العلماء والعُبَّاد، اخترتُ بعضًا منها، أسأل الله أن ينفع بها.
الموت:
دعاء وندم عند الموت:
• الخليفة المأمون، قال وهو يُحتضَر: "يا من لا يزول ملكه، ارحم مَن قد زال ملكه... يا من لا يموت، ارحم من يموت"، ثم قضى ومات.
• الخليفة المعتصم قال في مرض موته: ﴿ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾ [الأنعام: 44]، وجعل يقول: "ذهبت الحيلة فليس حيلة"، حتى صمت.
• لما احتُضر الواثق، أمر بالبُسُط فطُوِيت، وألصق خده بالأرض، وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه.
• الملك خوارزم، كان يقول عند موته: ﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ [الحاقة: 28، 29].
الغفلة عن الموت:
قال محمد بن عبدالله بن عيسى الإليبري:
الموت في كل حين ينشر الكفنا
ونحن في غفلة عما يُراد بنا
لا تطمئن إلى الدنيا وزخرفها
وإن توشَّحت من أثوابها الحسنا
أين الأحبة والجيران ما فعلوا
أين الذين هم كانوا لنا سكنا
سقاهم الدهر كأسًا غير صافية
فصيرتهم لأطباق الثرى رهنا
من لم يردعه القرآن والموت:
قال الحسن بن عبدالعزيز بن ضابئ: "من لم يردعه القرآن والموت، ثم تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع".
اترك العمل الذي تخاف الموت من أجله:
قال سلمة بن دينار: "كل عمل تكره الموت من أجله فاتركه، ثم لا يضرك متى مُت".
مرحبًا بهذه الوجوه، ليست بوجوه إنسٍ ولا جانٍّ:
لما احتُضر عمر بن عبدالعزيز، قال: اخرجوا عني، فقام مسلمة وفاطمة على الباب، فسمعوه يقول: مرحبًا بهذه الوجوه ليست بوجوه إنسٍ ولا جانٍّ، ثم قال: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ... ﴾ [القصص: 83]، ثم هدأ الصوت، فقال مسلمة لفاطمة: قد قُبض صاحبك، فدخلوا فوجدوه قد قُبض.
إذا جاء الموت، ما الذي بين يديك؟
قال ابن السماك: هَبِ الدنيا كلها في يديك، ودنيا أخرى مثلها ضُمَّت إليك، وهب المشرق والمغرب يجيء إليك، فإذا جاء الموت، فماذا بين يديك؟
ذكر الموت:
• قال الأوزاعي: "من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير".
• قال أحمد بن حنبل: "إذا ذكرتُ الموت هان عليَّ كل شيء من أمر الدنيا، وإنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل".
• علي بن الحسين بن المبارك، ما كان لسانه يفتر عن ذكر الموت.
• قال عبداللطيف بن أبي العز يوسف بن محمد بن علي بن أبي سعد، المعروف قديمًا بابن اللباد: "إذا حدث لك فرح بالدنيا، فاذكر الموت، وسرعة الزوال... وإذا اعترتك غفلة فاستغفر، واجعل الموت نُصبَ عينيك".
شهوات عند الموت:
• الحافظ عبدالغني بن عبدالواحد المقدسي مرِض مرضًا شديدًا منعه الكلام والقيام، فكان ابنه كثيرًا ما يسأله: ما تشتهي؟ فيقول: أشتهي الجنة، رحمه الله، ولا يزيد على ذلك، وأجابه مرة: أشتهي النظر إلى وجه الله سبحانه.
• إسماعيل بن محمد بن يوسف البرزالي، مرِض بالسل ستة أشهر، وحصل له في المرض إقبال على الطاعة وملازمة الفرائض، حتى كان يصلي إيماء، قال له والده قبل موته بيوم: أيش تريد؟ قال: أشتهي أن يغفر الله لي.
الدنيا:
كن ملكًا في الدنيا والآخرة:
قال رجل لمحمد بن واسع: أوصني: قال: أوصيك أن تكون ملكًا في الدنيا والآخرة، قال: كيف هذا؟ قال: ازهد في الدنيا.
مخالطة الدنيا بالبدن، ومفارقتها بالقلب:
قال الحسين بن منصور بن جعفر بن عبدالله بن رزين: "رُبَّ معتزلٍ للدنيا ببدنه، مخالطها بقلبه، ورُبَّ مخالط للدنيا ببدنه، مفارقها بقلبه وهو أكيسهما".
معرفة الدنيا:
قال سلمة بن دينار: "من عرف الدنيا لم يفرح فيها برخاء، ولم يحزن على بلوى".
الزهد في الدنيا:
قال محمد بن الفضل بن عباس: "الدنيا بطنك فبقدر زهدك في بطنك زهدك في الدنيا".
إقبال الدنيا وإدبارها:
قال محمد بن عبدالوهاب الثقفي: "أفٍّ من أشغال الدنيا إذا أقبلت، وأفٍّ من حسراتها إذا أدبرت، العاقل لا يركن إلى شيء إن أقبل كان شغلًا، وإن أدبر كان حسرة".
الدنيا والهموم:
قال أحمد بن محمد بن منصور بن القاسم، ابن المنير الجذامي: "من كانت الدنيا أكبر همه لم يزل مهمومًا، ومن كان زهرتها نصب عينه لم يزل مهزومًا".
الذنوب:
ريح الذنوب:
قال محمد بن واسع: "لو كان للذنوب ريح ما جلس أحد إليَّ".
التفكر في عظمة الله جل جلاله يمنع من ارتكاب الذنوب:
قال بلال بن سعد: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيت".
الحمية من الذنوب:
قال عبدالله بن شبرمة: "عجبت من الناس يحتمون من الطعام مخافة الداء، ولا يحتمون من الذنوب مخافة النار".
عقوبات الذنوب:
• قال أبو الحسن المزين: "الذنب بعد الذنب عقوبة الذنب".
• قال عبدالله بن محمد الراسبي: "الهموم عقوبات الذنوب".
حرمان طعم العبادة بسبب الذنوب:
قيل لوهيب بن الورد: "أيجد طعم العبادة من يعصي الله؟ قال: لا، ولا من يهم بالمعصية".
العاصي والمُصِرُّ:
قال سهل التستري: "العاصي سكران، والمصر هالك".
قلَّت ذنوبهم فعرفوا من أين يؤتون:
قال ابن سيرين: "إني لأعرف الذنب الذي حمل عليَّ به الدَّين، قلتُ لرجل منذ أربعين سنة: يا مفلس، قال أبو سليمان الداراني: قلَّت ذنوبهم، فعرفوا من أين يؤتَون، وكثرت ذنوبنا، فليس ندري من أين نُؤتى.
الذي تكره أن يكون معك في الآخرة اتركه اليوم:
قال سلمة بن دينار: "انظر الذي تحبه أن يكون معك في الآخرة فقدِّمه اليوم، والذي تكره أن يكون معك في الآخرة فاتركه اليوم".
لا تأمنِ العقوبة إذا كنت مقيمًا على الذنوب ولو تتابعت عليك النعم:
قال سلمة بن دينار: "إذا رأيت ربك يتابع عليك نعمة وأنت تعصيه فاحذره".
أكذب الناس:
قال الفضيل بن عياض: "أكذب الناس العائد في ذنبه".
الظلم:
السجود لله شكرًا لموت الظلمة:
قال علي بن زيد: "كنت عند الحسن، فأُخبر بموت الحجاج، فسجد".
القصاص أمامك:
قال الحجاج لسعيد بن جبير: "اختر أي قِتلة أقتلك؟ فقال: اختر أنت؛ فالقصاص أمامك".
أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك:
قتل الحجاج ابن الزبير وصلبه، وقال لأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم: كيف رأيتني صنعت بعبدالله؟ قالت: رأيتك أفسدتَ عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك.
نهاية سيئة لمن ظلم وسفك الدماء وأخذ الأموال:
جيش بن محمد بن صمصامة، أمير دمشق، كان جبارًا ظالم سفَّاكًا للدماء، أخَّاذًا للأموال، كثر ابتهال أهل دمشق إلى الله في هلاكه، حتى هلك بالجذام... ولما بلغ في مرضه ما بلغ من الجذام، وألقى ما في بطنه، كان يقول لأصحابه: اقتلوني، أريحوني من الحياة؛ لشدة ما يناله من الألم.
دعوة مظلوم غفلنا عنها، لم يغفل الله عنها:
قال ولد يحيى البرمكي لأبيه وهو في السجن والقيود: يا أبَهْ، بعد الأمر والنهي والأحوال صِرْنا إلى هذا؟ فقال: يا بني، دعوة مظلوم غفلنا عنها، لم يغفلِ الله عنها.
من ظلم مَن دونه فهو ناقص العقل:
قال أبو جعفر المنصور: "أنقص الناس عقلًا من ظلم من هو دونه".
لا يكبرن عليك ظُلم من ظلمك:
عبدالله بن صالح بن علي بن عبدالله بن عباس، له كلمة نفيسة؛ وهي: "لا يكبرن عليك ظُلم من ظلمك، فإنه يسعى إلى مضرته وينفعك".
تسليط الله على العبد من يظلمه:
قال الفضيل بن عياض: "إذا أراد أن يُتحف العبد سلَّط عليه من يظلمه".
أوصى أن يدفن في قيوده لأنه مخاصم من ظلمه:
نعيم بن حماد بن معاوية، الحافظ الفقيه، مات في السجن، وكان مقيدًا لامتناعه من القول بخلق القرآن، وأوصى أن يدفن في قيوده، وقال: إني مخاصِم.
دعا على من ظلمه فاستجاب الله له:
عبدالله بن أبي داود السجستاني، حسده جماعة لتبحره في الحفظ، ورموه ببغض عليٍّ رضي الله عنه، وشهد عليه بذلك جماعة، وحُكم عليه بالقتل، فعلم محمد بن عبدالله بالأمر، فأتى وجرح الشهود، ونسب أحدهم إلى العقوق بوالديه، والثاني إلى أنه يأكل الربا، والثالث أنه غير صدوق، وخلَّصه من القتل، فكان يدعو له طول حياته، ويدعو على الذين شهدوا عليه، فاستُجيب له فيهم، فمنهم من احترق، ومنهم من خلط وفقد عقله.
سُقيتُ كما سَقيتُ:
الوزير ابن هبيرة، حضر طبيبه فسقاه شيئًا، فيقال: إنه سمَّه، فمات، وسُقي الطبيب بعده بنصف سنة سمًّا، فكان يقول: سُقيتُ كما سَقيتُ، فمات.
متفرقات:
المسلم محتاج للموعظة مهما بلغ من العلم والمنزلة:
قال عمر بن عبدالعزيز لمزاحم مولاه: قد جعلتك عينًا عليَّ، إن رأيت مني شيئًا، فعِظْني ونبهني عليه.
متى تنفع مواعظ الواعظ:
قال يحيى بن معاذ الرازي:
مواعظ الواعظ لن تقبلا
حتى يعيَها قلبه أولا
يا قوم من أظلم من واعظ
خالف ما قد في الملا
أظهر بين الناس إحسانه
وبارز الرحمن لما خلا
جفاف الدموع وقساوة القلوب:
قال يحيى بن معاذ الرازي: ما جفَّتِ الدموع إلا لقساوة القلوب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب، وما كثرت الذنوب إلا من كثرة العيوب، قلت [القائل الذهبي]: وما كثرت العيوب إلا من الاغترار بعلَّام الغيوب.
رقة القلب:
إسماعيل بن يحيى المزني، كان يغسِّل تعبدًا وديانة، قال: "تعانيت غسل الموتى ليرق قلبي".
أقرب شيء وأبعد شيء وأرجى شيء:
قال الأصمعي: قيل لخالد بن يزيد: ما أقرب شيء؟ قال: الأجل، قيل: فما أبعد شيء؟ قال: الأمل، قيل: ما أرجى شيء؟ قال: العمل.
الشوق إلى الجنة:
قال الفضيل بن عياض: المؤمن... زهادته في الدنيا على قدر شوقه إلى الجنة.
أصبحنا ضعفاء مذنبين نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا:
كان إذا قيل للربيع بن خثيم: كيف أصبحت؟ قال: ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا، وننتظر آجالنا.
القبر:
قال عبدالله العمري: "ليس شيء أوعظ من قبر".
ظلمة القبر:
قال هشام الدستواني: "إذا فقدت السراج ذكرت ظلمة القبر".
الخلاص:
سأل رجلٌ الفضيلَ عن الخلاص، فقال: أخبرني من أطاع الله، هل تهمه معصية أحد؟ قال: لا، قال: فمن يعصي الله تنفعه طاعة أحد؟ قال: لا، قال: هذا الخلاص.
أمطرت السماء دمًا عبيطًا:
قال ربيعة بن لقيط: كنت مع عمرو بن العاص عام الجماعة، فمطرنا دمًا عبيطًا، فظن أنها الساعة، وماج الناس بعضهم في بعض، فقام عمرو، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: يا أيها الناس، أصلحوا ما بينكم وبين الله، ولا يضركم لو اصطدم هذا الجبلان.
لم أسأل الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؟
دخل هشام بن عبدالملك الكعبة، فإذا هو بسالم بن عبدالله، فقال: سَلْني حاجةً، قال: إني أستحيي من الله أن أسأل في بيته غيره، فلما خرج، خرج في أثره، فقال: الآن قد خرجت، فسلني حاجة، فقال: والله ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؟
الجنة والنار:
قال هرم بن حيان: "ما رأيت كالنار نام هاربها، ولا كالجنة نام طالبها".
من خاف الله لم يضره شيء:
قال الفضيل: "من خاف الله لم يضره شيء، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد"