قال الله عز وجل ـ إخباراً عن نبيه عيسى عليه السلام أنَّه قال : {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ**" أي : لا أعلم ما في ذاتك المقدسة ، فأنت تعلم ما في نفسي ، فلو أخفيتُ شيئاً في نفسي ولم يطَّلع عليه أحد من الخلق لعلمتَه ، كما قال تعالى : {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ**1 ، فهو سبحانه وتعالى عليم بكلِّ شيء ، الغيب عنده شهادة ، والسر عنده علانية ، لا تخفى عليه خافية ، فهو يعلم ما في نفوس العباد .
وفي هذه الآية أدب رفيع من نبي الله عيسى عليه السلام ، وهذا يتبين بالنظر في سياق الآية ، قال الله عز وجل : {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ**، ومعنى سبحانك : أنزهك يا الله عن ذلك: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ** أي : ما ليس لي بحق أن أقوله : لا أقوله ، ومن الأمور التي ليست حقاً الافتراء على الله وادعاء أنَّ مع الله إلهاً آخر . {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ**لم يقل : لم أقل ذلك . وإنما أتى بهذه العبارة التي تدل على كمال الأدب ورفيعه ، فقال : {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي** أي : لو أنَّ شيئاً عندي أخفيته في نفسي فعلمك محيط به . {وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ** أي : الشيء الذي لم تُعلِمْني إياه واستأثرت بعلمه فلا علم لي به ؛ لأنَّه لا علم لي إلا ما علمتني إياه ، فعلم الله محيط بكلِّ شيء ، وأما علم العبد مهما بلغ فهو كما قال تعالى : {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً**2