وهو جرير بن الخطفي ، أبو حزرة الشاعر البصري،
قدم دمشق مرارا، وامتدح يزيد بن معاوية والخلفاء من بعده
ووفد على عمر بن عبد العزيز،
وكان في عصره من الشعراء الذين يقارنونه الفرزدق الاخطل،
وكان جرير أشعرهم وأخيرهم،
: دخل رجل من بني عذرة على عبد الملك بن مروان يمتدحه بقصيدة وعنده الشعراء الثلاثة،
هل تعرف اهجى بيت قالته العرب في الاسلام ؟
فغض الطرف إنك من نمير * فلا كعبا بلغت ولا كلابا
فهل تعرف أمدح بيت قيل في الاسلام ؟
ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح
فهل تعرف أرق بيت قيل في الاسلام ؟
إن العيون التي في طرفها مرض * قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به * وهن أضعف خلق الله أركانا
لا والله، وإني إلى رؤيته لمشتاق،
قال: فهذا جرير وهذا الفرزدق وهذا الاخطل،
- فحيا إلاله أبا حرزة * وأرغم أنفك يا أخطل
وجد الفرزدق أتعس به * ورق خياشيمه الجندل
يا أرغم الله أنفا أنت حامله * يا ذا الخنا ومقال الزور
والخطل ما أنت بالحكم الترضى حكومته * ولا الاصيل ولا ذي الرأي والجدل
- يا شر من حملت ساق على قدم * ما مثل قولك في الاقوام يحتمل
إن الحكومة ليست في أبيك ولا * في معشر أنت منهم انهم سفل
- أتشتمان سفاها خيركم حسبا (كان الاعرابي من بني عذرة، وهم أخوال عبد الملك)
* ففيكما - وإلهي - الزور والخطل
شتمتاه على رفعي ووضعكما * لا زلتما في سفال أيها السفل
ثم وثب جرير فقبل رأس الاعرابي وقال:
يا أمير المؤمنين جائزتي له، وكانت خمسة آلاف
وله مثلها من مالي، فقبض الاعرابي ذلك كله وخرج.
-وحكى يعقوب بن السكيت أن جريرا دخل على عبد الملك مع وفد أهل العراق من جهة الحجاج فأنشده مديحه الذي يقول فيه:
ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح
فأطلق له مائة ناقة وثمانية من الرعاء
أربعة من النوبة وأربعة من السبي الذين قدم بهم من الصغد
وبين يدي عبد الملك جامان من فضة قد أهديت له، وهو لا يعبأ بها شيئا، فهو يقرعها بقضيب في يده،
يا أمير المؤمنين المحلب، فألقى إلي واحدا من تلك الجامات، ولما رجع إلى الحجاج أعجبه إكرام أمير المؤمنين له فأطلق الحجاج له
خمسين ناقة تحمل طعاما لاهله.
-وحكى أن جريرا دخل يوما على بشر بن مروان وعنده الاخطل،
قال: لا، ومن هذا أيها الامير ؟
أنا الذي قذفت عرضك، وأسهرت ليلك، وآذيت قومك،
أما قولك شتمت عرضك فما ضر البحر أن يشتمه من غرق فيه،
فلو تركتني أنام لكان خيرا لك،
فكيف تؤذي قوما أنت تؤدي الجزية إليهم ؟
-وكان الاخطل من نصارى العرب المتنصرة، قبحه الله وأبعد مثواه، وهو الذي أنشد بشر بن مروان قصيدته التي يقول فيها:
قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق
وهذا البيت تستدل به الجهمية على أن الاستواء على العرش بمعني الاستيلاء،
وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه،
وليس في بيت هذا النصراني حجة ولا دليل على ذلك،
ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاءه عليه،
تعالى الله عن قول الجهمية علوا كبيرا.
إنما يقال استوى على الشئ إذ كان ذلك الشئ عاصيا عليه قبل استيلائه عليه، كاستيلاء بشر على العراق،
واستيلاء الملك على المدينة بعد عصيانها عليه،
وعرش الرب لم يكن ممتنعا عليه نفسا واحدا، حتى يقال استوى عليه،
أو معنى الاستواء الاستيلاء،
ولا تجد أضعف من حجج الجهمية،
حتى أداهم الافلاس من الحجج إلى بيت هذا النصراني المقبوح وليس فيه حجة
لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد إليه الشعراء فمكثوا ببابه أياما لا يؤذن لهم ولا يلتفت إليهم،
فساءهم ذلك وهموا بالرجوع إلى بلادهم،
- يا أيها الرجل المرخي عمامته * هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا
فدخل ولم يذكر لعمر بن أمرهم شيئا، فمر بهم
يا أيها الراكب المرخي مطيته * هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه * أني لدى الباب كالمصفود في قرن
لا تنس حاجتنا لا قيت مغفرة * قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني
فدخل عدي على عمر بن عبد العزيز فقال:
الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة،
ويحك يا عدي، مالي وللشعراء،
يا أمير المؤمنين إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد كان يسمع الشعر ويجزي عليه، وقد أنشده العباس بن مرداس مدحه فأعطاه حلة،
رأيتك يا خير البرية كلها * نشرت كتابا جاء بالحق معلما
شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا * عن الحق لما أصبح الحق مظلما
ونورت بالبرهان أمرا مدلسا * وأطفأت بالقرآن نارا تضرما
فمن مبلغ عني النبي محمدا * وكل امرئ يجزي بما كان قدما
أقمت سبيل الحق بعد أعوجاجه * وكان قديما ركنه قد تهدما
تعالى علوا فوق عرش إلهنا * وكان مكان الله أعلا وأعظما
ثم نبهتها فهبت كعابا * طفلة ما تبين رجع الكلام ساعة
ثم إنها بعد قالت * ويلنا قد عجلت يا بن الكرام أعلى
غير موعد جئت تسري * تتخطى إلى رؤوس النيام
ما تجشمت ما تريد من الامر * ولا حيت طارقا لخصام
فلو كان عدو الله إذ فجر كتم وستر على نفسه، لا يدخل والله أبدا، فمن بالباب سواه ؟
أو ليس هو الذي يقول في شعره:
هما دلياني من ثمانين قامة * كما انقض باز أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي بالارض قالتا * أحي يرجي أم قتيل نحاذره
لا يطأ والله بساطي وهو كاذب، فمن سواه بالباب ؟
ولست بصائم رمضان طوعا * ولست بآكل لحم الاضاحي
ولست بزاجر عيسا بكور * إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست بزائر بيتا بعيدا * بمكة أبتغي فيه صلاحي
ولست بقائم كالعير أدعو * قبيل الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولا * وأسجد عند منبلج الصباح
والله لا يدخل علي وهو كافر أبدا،
الله بيني وبين سيدها * يفر مني بها وأتبعه
فما هو دون من ذكرت، فمن ههنا غيره ؟
- ألا ليتنا نحيا جميعا وإن نمت * يوافق في الموتى خريجي خريجها
فما أنا في طول الحياة براغب * إذا قيل قد سوى عليها صفيحها
فلو كان عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا ليعمل بذلك صالحا ويتوب،
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا * حين الزيارة فارجعي بسلام
فإن كان لا بد فأذن لجرير،
فأذن له فدخل على عمر وهو يقول
: إن الذي بعث النبي محمدا * جعل الخلافة للامام العادل
وسع الخلائق عدله ووفاؤه * حتى ارعوى وأقام ميل المائل
إني لارجو منك خيرا عاجلا * والنفس مولعة بحب العاجل
ويحك يا جرير، اتق الله فيما تقول،
ثم إن جريرا استأذن عمر في الانشاد فلم يأذن له ولم ينهه، فأنشده قصيدة طويلة يمحده بها،
ويحك يا جرير لا أرى لك فيما ههنا حقا،
إنا ولينا هذا الامر ونحن لا نملك إلا ثلاثمائة درهم، أخذت أم عبد الله مائة وابنها مائة وقد بقيت مائة، فأمر له بها، فخرج على الشعراء
ما يسؤوكم، خرجت من عند أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء ويمنع الشعراء وإني عنه لراض، ثم أنشأ يقول:
رأيت رقى الشيطان لا تستفزه * وقد كان شيطاني من الجن راقيا
قالت جارية للحجاج بن يوسف:
أما إنك لو أخليتني وإياه سترى ما يصنع،
فأمر باخلائها مع جرير في مكان يراهما الحجاج ولا يريانه، ولا يشعر جرير بشئ من ذلك،
أنشدني من قولك كذا وكذا - لشعر فيه رقة –
لست أحفظه ولكن أحفظ كذا وكذا - ويعرض عن ذاك وينشدها شعرا في مدح الحجاج –
لست أريد هذا، إنما أريد كذا وكذا - فيعرض عن ذاك وينشدها في الحجاج - حتى انقضى المجلس
: لله درك، أبيت إلا كرما وتكرما.
-وقال عكرمة أنشدت أعرابيا بيتا لجرير الخطفي:
أبدل الليل لا تجري كواكبه * أو طال حتى حسبت النجم حيرانا
إن هذا حسن في معناه وأعوذ بالله من مثله، ولكني أنشدك في ضده من قولي:
وليل لم يقصره رقاد * وقصره لنا وصل الحبيب
نعيم الحب أورق فيه * حتى تناولنا جناه من قريب
بمجلس لذة لم نقف فيه * على شكوى ولا عيب الذنوب
فخشينا أن نقطعه بلفظ * فترجمت العيون عن القلوب
أما من هذا فحسبك ولكن أنشدك غيره فأنشدني:
وكنت إذا عقدت حبال قوم * صحبتهم وشيمتي الوفاء
فأحسن حين يحسن محسنوهم * وأجتنب الاساءة إن أساؤوا
أشاء سوى مشيئتهم فآتي * مشيئتهم وأترك ما أشاء
كان جرير أشعر من الفرزدق عند الجمهور، وأفخر بيت قاله جرير:
إذا غضبت عليك بنو تميم * حسبت الناس كلهم غضابا
فأخذ بيده وأدخله على ابنه، وإذا هو يرتضع من ثدي عنز، فاستدعاه فنهض واللبن يسيل على لحيته،
وإنما يشرب من ضرع العنز لئلا يحلبها فيسمع جيرانه حس الحلب فيطلبوا منه لبنا،
فأشعر الناس من فاخر بهذا ثمانين شاعرا فغلبهم،
وقد كان بين جرير والفرزدق مقاولات ومهاجاة كثيرة جدا يطول ذكرها،
واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين