التدريس وظيفة أم مسؤولية؟
حينما نَسمع كلمة "التدريس"، فلا يَتبادر مفهومه إلى الأذهان كما هو في الواقع، بل يأتي إلى ما يَأْسر القلوب، ويُعجب النفوس، وهو أنَّ التدريس - كمهنةٍ من المِهَن اليوميَّة، ووظيفة من الوظائف الشاغرة، وعملٍ من الأعمال العادية - لا يَحسبه المعلِّم فريضة؛ حتى يعاني في سبيله، بل ينظر إليه كما ينظر إلى يوميَّاته الأخرى، ومن هذا المسار يقع في الاستخفاف الذي يَجعل هذه المسؤولية الكبرى شيئًا هيِّنًا وغثًّا بين يديه، والاستهزاء الذي يجعلها شيئًا رديئًا ومهزولاً في عينيه، وينتهي ذاك الاستحقار إلى دمار العقول الفذَّة، وخراب النفوس الذكيَّة، وهلاك الأجيال النشيطة.
يجب على المعلم أن يهتمَّ بالأوقات والمواعيد، فلا يدخل الفصل آجلاً، ولا يخرج عاجلاً، بل يعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ويضع نُصب عينيه أنَّ مَن خان، فقد ضلَّ وغوى، فلا ينبغي له أن يستخفَّ بالتدريس، بل يجب أن يَجعله مهنةً وصناعة معًا؛ ليشعر بحاجة مُلِحَّةٍ للتدريب في بابه، والتعلُّم في مجاله، والإتقان في قوامه، ودقَّة الأداء والمعرفة في نظامه؛ فإنَّ التدريس في كِيانه يتفاعل مع عدَّة عوامل وعناصر؛ حيث لا يتكامل في ذاته كمسؤولية إذا اختلَّ أحدها، فالمعلم يتمثَّل قائد مَركبٍ يقوده حيثما يشاء؛ لذا فإنه يحتاج في الوهلة الأولى إلى الخِبرات المتطوِّرة من يومٍ لآخر، ويَفتقر إلى استخدام الوسائل الحديثة في نقْل ما لديه من المعرفة عن الموضوع الهادف؛ ليكون قدوةً حسنة، فيَنتفع به، وينفع الآخرين، والخبرة الوفيرة المُتمكِّنة لا تتأتَّى على عِلاَّتها؛ بل إنها تحتاج إلى ممارسة طويلة، ومتابعة مستمرة.
فالعلم له مقوِّمات في كلِّ زمان ومكان نحو المعلم والطالب، والمنهج والوسائل المعنويَّة والآليَّة وغيرها، ومن أهم هذه الآليَّات "الأستاذ" أو "المعلم"، وهو ينقل الموهبة إلى الطالب، ويَنصحه نصيحة جيِّدة، ويُذكيه تذكيةً شافيةً، ويُعلمه الكتاب والحِكمة معًا.
وإذا كان المعلم بهذه المثابة الكريمة، فالمتعلِّم يَلزم أن يكونَ نسخة منه، فيَبرع براعة لائقةً، ويَنبغ نبوغًا باهرًا، ويَنجح نجاحًا متكاملاً، ويتفوَّق فائقًا على أبناء جنسه، وهذا هو الهدف والغاية من وراء العلم أن يكون الطالب صورةً من أستاذه، والأستاذ صورة ممن وصَفه الله تعالى في قوله: ? لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ? [الأحزاب: 21].
لأن التعليم رسالة وليس وظيفة، مَن يُحصِّله كرسالة طيِّبة، فيَفتخر بإنفاق الحياة كلها في سبيله، ومن الحِكَمِ: العلم يؤخَذ من صدور الرجال، وليس من بطون الكتب.
ها هنا سؤال يسيرٌ يتوجَّه إلينا: كيف ينجح المعلم في هدفه؟ وكيف يَستهدف غايته؟
فنعرف أنَّ طُرق التدريس كثيرة ومُتضافرة، وإلقاء المحاضرة من إحداها، فالعمليَّة التعليميَّة والتربويَّة لا تَحصل بدون الخِبرات الواجب توافرُها عند المعلم؛ بل إنها تتحقَّق من خلال المسارات التالية؛ نحو: اختيار المنهج، أو المقرَّرات الدراسيَّة، وهي تُعتبر من أهم العناصر التي يَختارها المعلم للطلاب، فلا بدَّ أن تكون هذه المفردات مُهذَّبةً ومُنقَّحةً من كلِّ ضَعفٍ وفتورٍ، ومرتَّبةً على حساب الوقت واعتبار مستويات الطلاب، وتقدير خلفيَّاتهم الماديَّة والمعنوية، والثقافية والاجتماعية، والاقتصادية والجغرافيَّة؛ لأن البيئات والمدن والبوادي التي عاشوا فيها، لها تأثيرٌ في نمو الفكر والارتقاء لدَيهم، والمواسمَ الأربعة - من الحَرِّ والبرد، والريف والخريف - لأنها أيضًا تترك أثرًا في المتعلم، حسب زيادة الرغبة ونقْصها لديه، والمعاهدَ والمؤسَّسات، والمصانعَ والإدارات، التي قابَلوها منذ المراحل الابتدائيَّة، وما يَليها من المدرسة الثانوية والمتوسطة، هذه العوامل تؤثِّرُ في شخصيَّة الطالب، وتُميِّزها عن غيره، وهنا عامل السن أيضًا؛ لأنَّ طرقَ تعليم الطفل مختلفةٌ تمامًا من تعليم الشباب، وتعليمهم أمرٌ غيرُ تعليم الكبار، وكذلك عنصر الجنس؛ أي: الذكر والأنثى، فله تدخُّل قوي في اختيار منهج التدريس بمتانته ورَزانته؛ لأن لكليهما طبيعةً وميزة، ونوعيَّة دون الآخر؛ ولذلك نرى اليوم أنَّ الجامعات الراقية والمعاهد المتطوِّرة، تختار فصولاً مستقلةً للذكور والإناث دون الخلْط بينهما، فتهتمُّ بهذا النمط المميز، وتستقلُّ بهذه الصفة المفضَّلة، أمَّا المتخلفة والمُنتكِسة منها، فإنها لا تزال تَكْبُو وتَتذلل بما يُوسوس لها الشيطان، فتنحني لمآربه ودَسائسه، دون أي خوفٍ وحيطةٍ وحذَرٍ، وعندما يراعي المعلم هذه الأمور الدقيقةَ، قلَّما يجد صعوبةً في الوصول إلى الغاية؛ فلعلَّه يجد ما يَنويه رُويدًا رويدًا.
ثم هنا تأتي مرحلة الشروط والوسائل التي يجب أن تكون المعاهدُ والمدارسُ والجامعاتُ ملأى بها، وهي أن يكون الفصل صالحًا للدراسة؛ حيث يتَّسع المكان للمجموعة، وتوجد فيه كراسي مطلوبة، ويكون مريحًا في مواسم العام الأربعة؛ لئلا تتقبَّض الطبائع، ويكون نظيفًا ليرتاح الطلاب، ويَشعروا بالاطمئنان، فيُعيدوا الدراسة بكلِّ لُطفٍ وهدوءٍ، ويَستمعوا إلى المعلم بكلِّ جِدَةٍ وعنايةٍ ويقظةٍ، ولا تُخالجهم الشواغل النفسيَّة.
هذه الأنشطة التي تبثُّ اليقظة في القلوب، قد تُكوِّن اللاصفيَّة، وهي تعني الوسائل الخارجيَّة عن الفصول الدراسيَّة؛ نحو: المكتبة، والرحلات الترفيهيَّة والتعليميَّة، وغيرها، والدوريَّات والحوليَّات، فإنَّ هذه الإجراءات التعليميَّة تَهدف إلى الغاية بأسلوب جميلٍ.
ثم تأتي مرحلة الامتحان عند منتهى النشاطات الداخليَّة والخارجيَّة، وهذا الامتحان قد يكون شفهيًّا، وقد يكون تحريريًّا، الامتحان الشفهي يَكشف عن الطالب: كم جاءت عنده مهارة في الأداء والتعبير، والتخزين والاسترجاع؟ وكم يتحدَّث الطالب بطلاقة؟ هل يتلعثمُ عندما يُسْألُ؟ أو ما زال يتعثَّرُ لسانُه؟ فيُدرِّبه المعلم في ملاحظاته الدقيقة؛ ليتغلَّب على تلك الحالة النفسيَّة، ويبث فيه الجُرأة، وها هنا للمعلم أن يبدأَ الحوار من أضعف الدارسين في الفصل، ويَبتدئ به النقاش، ثم يصل إلى المتفوِّقين شيئًا فشيئًا.
الامتحان التحريري يوضِّح مهارة الكتابة وصياغة الأسلوب لدى المتعلِّم، ويَكشف الأستار عن مهارته الكتابيَّة، ويُجيب على السؤال: هل يصلح المتعلِّم أن يصوغَ الكلام ويَحوكه؟
وها هنا وسائل أخرى التي تترتَّب على المكونات المتقدِّمة، وهي قضيَّة الامتحانات لتنشيط الطلاب؛ ليَبعث المعلم يقظةً بعد أُخرى في الطلاب؛ خشية أن يتهاوَنوا في الدرس اعتمادًا على أنه يسيرٌ، ويتعوَّدوا على الجهد المُقل، وإهمال الواجبات، ويَغيبوا عن المحاضرات، فالمعلم يُحاول أن يُثير في الطلاب إعجابَ الجهد صوب الرُّقي والتقدُّم، ومواظبة الأداء؛ للحصول على المتميِّز، ويجب على المعلم أيضًا أن يُحقِّق "الوحدة أو المادة" قبل أن يُدَرِّسها، ويُدقِّقَ الدرسَ قبل أن يُلقيَه، ويتذاكرَ المطلوبَ مرَّة بعد مرَّة؛ ليكون واعيًا عند التدريس، ونرى اليوم أنَّ جملة الأمراض تتلخَّص في كلمة "الاستهانة"، فالطبيب مستهين بالمريض، والمعلِّم بالمتعلم، والمتعلِّم بما يتعلَّمه، والله تعالى يحب إذا عَمِل أحدٌ عملاً أن يُتقنه.
وبناءً على ما مضى، يجب على المعلم في الدرجة الأولى أن يُردِّد المحاضرة؛ ليَضبط محتواها ضبطًا دقيقًا، ويُراجعها ويُذاكرها؛ حتى يَستظهرها عند الحاجة، ولا يَتلجلج بين يدي التلاميذ، ولا يَتلعثم أمامهم، وها هنا من الضروري أن يُحاسب المحاضر نفسه بعد إنهاء المحاضرة: هل زادَ أو قصَّر ونقَص؟ فليُراجع في محاضرته التالية، ويستغفر الله كثيرًا؛ لأنَّ إلقاء المحاضرة أمانة، فيجب أن يَحتفظ بها قبل وبعد، وهذا الاحتفاظ سوف يتمُّ بالإعداد المهني والأكاديمي، واتِّساع المعرفة، وتوافُر المعلومات عن الطلاب؛ نحو: أسمائهم، ومعرفة قدراتهم وخلفيَّاتهم، وميولهم واتِّجاهاتهم وقِيَمهم.
وكذلك يجب على المتعلِّم أن يُجيد "المنهج" أو "الدرس" إجادة طيِّبة، ويَعتبر المعلمَ وسيلةً قويمة بينه وبين الله تعالى، فيَنتفع به؛ علمًا، ومنهجًا، وسلوكًا.
فللمعلم أن يكون دقيقًا في الفصل؛ حيث يتحرَّى مستويات الطلاب، ويتفقَّد أحوالهم التعليميَّة، ويبحث عن التغيُّرات التي تطرَأ عليهم من حين إلى حين، ويَستفيد من الخبرات المتوالية، ويُشاهد الواقع في ضوئها، ثم يَحكم ما يريده أن يفعل، وينظر إلى الخواطر والأفكار التي تردُ على أذهان الطلاب، ويُدرك المشاعر والأحاسيس؛ ليُثبت إيجابيَّاتها، وينفي سلبيَّاتها؛ لأن هذه الأمور تَجعل صِلة عميقة بين الأستاذ والطالب، وتَضرب نشوء الرغبة والمحاولة والابتكار.
وما أكثرَ ما نجد أنَّ الأستاذ قد يكون لَيِّنًا، فيَضحك الطلاب بين يديه، ولا يشعرون بخجلٍ مـا؛ بل يتوسَّعون في الكلام من غير احتياطٍ واحترازٍ! وقد يكون المعلم شديدًا، فيخاف الطلاب، ولا يستطيعون أن يسألوا أو يَستفسروا عن شيء ما، فكلا الأمرين موتٌ للعلم والمودة والتقديس بين الأستاذ والطالب، فيترتَّب عليه قلَّة المبالاة، وعدم الاهتمام به والاكتراث له، وهذا مما يؤدِّي إلى إثارة الغربة والفرار من العلم والمعلِّم، ويتطرَّق الدارس إلى الاستهانة، ما تجري في عروقه كالدَّاءِ العُضَال، فعلى الأستاذ أن يعتدلَ بين الحالين، ويَتفاعل مع الطلاب بما هو خيرٌ له ولهم؛ بناءً على أنَّ خير الأمور أوسطها، وخاصة إذا كان الطلاب من غير الناطقين باللغة الأمِّ، فيأتي بالطُّرَف والمُلَح، والأحاديث الجديدة المُستحسنة، والتي فيها ملاحة وطَرافة وظرافة؛ ليُقلل بها جفافَ المادة والمحاضرة.
والذي يهمُّ المعلمَ هنا: هو اختيار طريقة للتدريس تُلائم المجموعة بكلِّ تقديراتها السابقة؛ لأن طرق التدريس متنوِّعة؛ نحو: الطريقة المباشرة، وطريقة القواعد، وطريقة الترجمة في مجال اللغة وغيرها، أمَّا الطريقة المباشرة، فهي تحتاج إلى بيئة لغويَّة؛ حيث يمثِّل الفصل تلك البيئة، بأن تكون هناك أصوات ومرئيَّات؛ ليتعلَّم التلميذ اللغة في أقرب وقتٍ، وفي الطريقة المباشرة يستمع الطالب، ويُقلِّد تلك الأصوات التي تَطرق أُذنيه، أمَّا طريقة القواعد، فهي الآن بَابٌ قد أُغلق؛ لأنها لا تُفيد كثيرًا، بل تُنتج أحيانًا بعض النفور والقلق، والصعوبة عند الطالب في أخْذ المادة، وخاصة في مجال اللغة، وهذا مما دفَع بعض القائلين بالطعن في "النحو العربي"، وأنجَز الجمود الفاشل في ميادين الإبداع والابتكار، وأدَّى إلى غلْق المكتبات الضخمة منذ مُدَدٍ.
ولا يعني أن نتركَ ما خلا الطريقة المباشرة، بل دعَت التجربة الواسعة إلى أنَّ استخدام هذه الطرق من وقتٍ لآخر، مفيدٌ ونافع للطلاب؛ لأن التدريس والتعليم ليس له غنى عنها، ولكن يجب أن يكون التركيز على الطريقة المباشرة في تعليم اللغة وأخواتها، خصوصًا في المبتدئين.
ومما يُستحسن أن يغضَّ المعلمُ البصرَ عن التعصُّب، ويحاول تنمية السلوكيَّات الحسنة عندهم، وإزالة السقطات السيِّئة عنهم، ويكتب هذه السلوكيَّات للمتعلِّم؛ ليحثَّه على اكتساب الخير فالخير.