الحمدُ لله الجواد الكريم، الغني الوهَّاب، الذي جعل الصيام جُنَّة من النَّار وعذابها، ومكفِّرًا للخطايا والآثام، ومضاعِفًا للأجر والثواب،
ودافِعًا إلى زيادة البرِّ والإحسان،
وشافعًا لأهله يوم الجزاء والحساب.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو العليُّ العظيم، البَرُّ الرحيم، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله، وخير من صلَّى لربِّه وقام،
وأتقى مَن حجَّ له وصام، فصلَّى الله وسلَّم وبارك عليه،
وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، ما تعاقب ليل مع نهار.
أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة ويا أيَّتُها الأخوات-سَاقَكم الله إلى ما يقرِّبكم منه ويرضيه-:
لا ريبَ أنَّ جميعكم يُقِرُّ ولا يتنكَّر، يتذكَّر ولا ينسَى، أن نِعم الله-جل وعلا-عليه لا تزال تتابع،
وإحسانه له يكثر حِينًا بعد حين، وكل يوم هو منها في مزيد، فما تأتي نعمةٌ إلا وتلحقها أخرى،
يرحم بها عباده الفقراء إليه، المحتاجين إلى عونه وغفرانه وإنعامه،
فله الحمد دومًا، ملء السماوات، وملء الأرض،
وملء ما شاء مِن شيء بعد، وفي الأولى والآخرة.
وإنَّ من أجلِّ هذه النِّعم، وأرفع هذه العطايا، وأجمل هذه المِنن، هي فرضه عليكم صوم شهر رمضان،
وما أدراك ما شهر رمضان، ثم ما أدراك ما شهر رمضان،
يقول النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-في بيان كبير شأنه، وجليل أمره: ((إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ))
رواه البخاري (3277)، ومسلم (1079).
فهنيئًا، ثم هنيئًا، في هذا الشهر الطيب المبارك لمن أمسكَ بزِمام نفسه،
وشمَّر عن ساعد الجِد،
فسلك بها سبيل الجنَّة، لينعم بالسُّكنى فيها، ويتنعَّم بخيراتها ومَطَايِبها،
وجنَّبها سُبل النَّار، والشَّقاء فيها،
ومسكينٌ بل وأشدُّ من مسكين، من سلكَ بنفسِه طريقَ المعصية والهوان،
وأوردها مواردَ الهلاك، وأحلَّها محالّ العطب،
وأوقعها مواقع الخسران، وأغضب ربَّه الرَّحيم الرَّحمن، وقد يُسِّرت له أسباب الرحمة والمغفرة،
وسُهِّل له طريق التوبة والإنابة،
ففُتِّحَت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وسُلسِلت الشياطين وصُفِّدت.
فلئن كنتم أيُّها المؤمنون بالله ربكم تريدون مغفرة الخطايا، وإذهاب السيئات؛ فاطلبوا ذلك في الصيام،
فقد قال النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-:((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))
رواه البخاري (3، ومسلم (760).
وقال-صلى الله عليه وسلم-: ((الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ))
رواه مسلم (233).
وإن كنتم تطلبون مضاعفة الحسنات، والرِّفعة في الدرجات، فعليكم بالصيام،
فقد قال رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-:
((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ،
قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ،
يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي))
رواه البخاري (7054و1894و7492)، ومسلم (1151) واللفظ له.
وإن كنتم تودُّون أن تكونوا من أهل الجنَّة المنعَّمِين السعداء فلا تغفلوا عن صوم شهر رمضان،
فقد ثبت عن النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-أنه خَطب النَّاس في حجَّة الوداع فقال لهم: ((اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ))
رواه أحمد (22161و22258و22260)، والترمذي (616) واللفظ له،
والحاكم (19و1436و1741)، وابن حبان (4563).
وإن كان بكم شوقٌ إلى دخول الجنَّة من باب الرَّيان فكونوا من أهل الصيام؛
فقد قال النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-:
((إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ))
رواه البخاري (1896) واللفظ له، ومسلم (1152).
وإن كنتم تبغُون وقاية النَّفس من حَرِّ النار ولهبِها فأقبلوا على الصيام،
فقد ثبت عن النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-أنه قال:
((الصِّيَامُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ))
رواه أحمد (16278و17902)، والنسائي (2230)، وابن ماجه (1639)، وابن خزيمة (1891).
وإن كنتم تَتمنُّون الشفاعة يوم الحشر والعَرْض وتتشوَّفُون لها فإنَّ من أسباب نَيلها الصيام؛
فقد ثبت عن النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-أنه قال:
((الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ))
رواه أحمد (6626)، وابن المبارك في كتاب «الزهد» (385)، والحاكم (2036 ) وغيرهم.
وإن كانت نفوسكم تهفُو وتتطلَّع لأن تكون من أهل المنازل العالية الرفعية،
فقد ثبت أن رجلاً جاء إلى النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-فقال له: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَصَلَّيْتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأَدَّيْتُ الزَّكَاةَ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ وَقُمْتُهُ، فَمِمَّن أنا؟
قال: أَنْتَ مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ))
رواه ابن معين في جزءٍ له (190)، ومن طريقه ابن حبان (343 وغيرهما.
قال العلامة الشوكاني-رحمه الله-في «تفسيره» (4/401) عند هذه الآية:
قوله: ﴿أَعَدَّ اللَّـهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ أي: مغفرةً لذنوبهم التي أذنبوها، وأجرًا عظيمًا على طاعاتهم التي فعلوها من الإسلام، والإيمان،
والقنوت، والصدق، والصبر، والخشوع، والتصدُّق،
والصوم، والعَفاف، والذِّكر،
ووصفَ الأجر بالعِظَم للدلالة على أنه بالغ غاية المبالغ،
ولا شيء أعظم من أجر هو الجنَّة، ونعيمها الدائم الذي لا ينقطع ولا ينفد، اللهم اغفِر ذنوبَنا، وأعظِم أجورنا.اهـ
أيُّها الإخوة والأخوات:
بادروا إلى ربكم-عزَّ وجل-في هذا الشهر الجليل المبارك العظيم بالتوبة النَّصوح من جميعِ الذنوب والآثام، من ذنوب الأقوال والأفعال، ومن ذنوب الشُّبهات والشَّهوات، ومن الشِّركيات الشَّنيعة الْمُهلكة، والبدع القبيحة الفظيعة، والمعاصي الكريهة المخزية.
توبوا إليه-سبحانه-من عبادةِ الأولياء والصالحين معه، بدعائِهم والاستغاثة بهم، أو الذبح والنذر لهم، أو الطواف بقبورهم.
توبوا إليه-سبحانه-من الحلف بالنبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-والأولياءِ والصالحين والشَّرف والجاه والآباء والأمهات والأمانة والذِّمة.
توبوا إليه-سبحانه-من بناء المساجد أو القباب أو المقصورات على قبور الصالحين، ومن التبرُّك والتمسُّح بها، والعكوف عليها.
توبوا إليه-سبحانه-من مشاهدة الصور والمناظر المحرمة في الفضائيات، والإنترنت، والهاتف الجوال، والصحف والمجلات، والوتساب وتويتر، وإرسالِها ونشرها بين الناس.
توبوا إليه-سبحانه-من التهاون في أوقات الصلوات، والتكاسل عن الجُمَع والجماعات.
فإنه مَن لم يتب في هذا الشهر الطيب الجليل فمتى يتوب؟
ومن لم يقلع عن ذنوبه وآثامه ومعاصيه في هذا الشهر العزيز فمتى يقلع؟
ومن لم يرحم نَفْسَه التي بين جنبَيه في هذا الشهر العظيم فمتى يرحمها؟!
فقد ثبت عن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-صَعِد المنبر، فقال:
((إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي، فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ،...))
الحديث، رواه ابن خزيمة (188، وأبو يعلَى (5922)، وابن حبان (907و409) واللفظ له، وغيرهم.
فيا حَسْرةَ! ويا بؤسَ! ويا خسارةَ! مَن دخل في دعوة جبريل-عليه السلام-، وتأمين النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-عليها؛ فأبعده الله وأخزاه وأهانه.
فَيَا ذَا الذي ما كفَاهُ الذَّنبُ في رَجَبِ
حتَّى عَصَى الله في شهرِ شعبانِ
لقد أظلَّك شهرُ الصومِ بعدَهُمَــا
فلا تُصَيِّرْه أيضًا شهرَ عصيـانِ
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي-رحمه الله-في كتابه «لطائف المعارف» (ص214):
مَن رُحِم في رمضان فهو المرحوم، ومن حُرِم خيرُه فهو المحروم، ومَن لم يتزود لمعاده فيه فهو مَلُوم،.. [و] مَن لم يربح في هذا الشهر ففي أيّ وقت يربح؟ ومَن لم يقرب فيه مِن مولاه فهو على بُعدٍ لا يبرح.اهـ
أيُّها الإخوة والأخوات:
إنَّ الصائمين من الناس في شهر رمضان عن الطعام والشراب والجماع كُثُر؛
ولكن الصائم الموفَّق الْمُسدَّد دون ذلك.
وفي وَصفِ هذا الصائم يقول الإمام ابن قيم الجوزية-رحمه الله-في كتابه
«الوابل الصيب من الكلم الطيب» (ص46):
والصائمُ هو الذي صامت جوارحُه عن الآثام،
ولسانُه عن الكذب والفحش وقول الزور،
وبطنُه عن الطعام والشراب،
وفرجُه عن الرَّفث،
فإن تكلَّم لم يتكلم بما يجرحُ صومَه،
وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومَه،
فيخرج كلامه كلُّه نافعًا صالحًا،
وكذلك أعماله فهي بمنزلة الرائحة التي يَشُمها من جَالس حامل المسك،
كذلك مَن جالس الصائم انتفع بمجالسته، وأَمِن فيها من الزُّور والكذب والفجور والظلم،
هذا هو الصومُ المشروع لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب، ...،
فالصومُ هو صومُ الجوارح عن الآثام،
وصومُ البطن عن الشراب والطعام، فكما أن الطعام والشراب يقطعه ويفسده، فهكذا الآثام تقطع ثوابه وتفسد ثمرته فَتُصَيِّرُه بمنزلةِ مَن لَم يصم.اهـ
ويؤكدُ كلامه هذا ويقويه هذه الأحاديثُ النبوية، والآثار المروية عن الصحابة والتابعين-رضي الله عنهم-.
فقد قال النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-:
((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)) رواه البخاري (1903).
وثبت عنه-صلَّى الله عليه وسلَّم-أنه قال:
((رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ))
رواه أحمد (8856)، وابن خزيمة (1997)، والحاكم (1571)، وابن حبان (3481 ).
وثبت عنه-صلَّى الله عليه وسلَّم-أنه قال:
((لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ،
فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ أَوْ جَهِلَ عَلَيْكَ فَلْتَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ))
رواه ابن خزيمة (1996) واللفظ له، والحاكم (1570)، وابن حبان (3479).
وصحَّ عن أبي المتوكل الناجي-رحمه الله-أنه قال:
((كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَصْحَابُهُ إِذَا صَامُوا جَلَسُوا فِي الْمَسْجِدِ قَالُوا: نُطَهِّرُ صِيَامَنَا))
رواه ابن أبي شيبة (8881)، وهنَّاد بن السَّري في «الزهد» (1207) واالفظ له،
وأبو نُعيم في «الحلية» (1/282) وغيره.
وقال جابر بن عبد الله-رضي الله عنه-:
((إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ،
وَدَعْ عَنْكَ أَذَى الْخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ سَكِينَةٌ وَوَقَارٌ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ صَوْمِكَ وَيَوْمَ فِطْرِكَ سَوَاءً))
رواه ابن أبي شيبة (8880)، وابن المبارك في «الزهد» (460و130، والبيهقي في «شعب الإيمان» (3374).
وثبت عن أبي صالح الحنفي عن أخيه طَلِيق بن قيس أنه قال: قال أبو ذر-رضي الله عنه-:
((«إِذَا صُمْتَ فَتَحَفَّظْ مَا اسْتَطَعْتَ»، وَكَانَ طَلِيقٌ إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِهِ دَخَلَ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَّا لِصَلَاةٍ))
رواه ابن أبي شيبة (887، ومن طريقه البيهقي في «فضائل الأوقات» ( 63).
وصحَّ عن عطاء بن السائب-رحمه الله-أنه قال: ((كان أصحابنا يقولون: أَهْوَنُ الصِّيَامِ تَرْكُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ))
رواه مُسدَّدٌ في «مسنده» (1018من المطالب العالية).
وثبت عن جعفر بن برقان-رحمه الله-أنه قال: ((سَمِعْتُ مَيْمُونًا، يَقُولُ: إِنَّ أَهْوَنَ الصَّوْمِ تَرْكُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ))
رواه ابن أبي شيبة (8883)، وأبو نُعيم في «الحلية» (4/90) وغيره.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي-رحمه الله-في كتابه «لطائف المعارف» (ص127) عند قول النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-:
((الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)):
فالصيامُ يشفع لمن منعه الطعام والشهوات المحرمة كلها، سواء كان تحريمها يختصُّ بالصيام كشهوة الطعام والشراب والنكاح ومقدماتها أو لا يختص كشهوة فضول الكلام المحرَّم والنظر المحرَّم والسَّماع المحرَّم والكسب المحرَّم،
فإذا منعه الصيام من هذه المحرَّمات كلها فإنه يشفع له عند الله يوم القيامة،
ويقول: ((يا رب منعته شهواته فشفِّعْنِي فيه)) فهذا لمن حفظ صيامه ومنعه من شهواته.
فأما من ضيَّع صيامه ولم يمنعه مما حرّمه الله عليه فإنه جدير أن يضرب به وجه صاحبه
ويقول له: ضيَّعك الله كما ضيَّعتَني كما وَرَدَ مثل ذلك في الصلاة.اهـ
فالله! الله! في شهر رمضان.
الله! الله! في هذا الركن العظيم.
الله! الله! في صيامكم.
لا تُكدِّرُوه بالسَّيئات والذنوب، ولا تُسوِّدُوه بالمعصية والوزر،
ولا تُنقصوه بسماع ومشاهدة ومقارفة الآثام والخطايا،
ولا تخدشوه بالوقوع في أعراض الناس بالكذب والغيبة والنميمة
والافتراء والبهتان،
ولا تُضعِفُوا أجره وثمرته بإرسال المقاطع والصور المحرمة
عبر قنوات الاتصال من فضائيات وإنترنيت
وهاتف جوال ووتساب وتويتر،
وعفُّوا أسماعَكم وأبصاركم وألسنتكم وباقي جوارحكم عن جميع المحرمات،
وفي كلِّ الأوقات، وبالليل والنهار.
أيُّها الإخوة والأخوات:
إنَّ من أعظم ساعات المسلم هي تلك الساعات التي يقضيها مع
كتاب ربه القرآن؛
فيتلوا ويتدبَّر ويتعلَّم الأحكام ويأخذ العِظَة والعِبرة.
فأكثِروا من الإقبال على القرآن في هذا الشَّهر الطيِّب الْمُطيَّب،
والزمن الفاضل الجليل،
وحُثُّوا أهليكم رجالاً ونساءً، صغارًا وكبارًا، على تلاوته والإكثار منه،
واجعلوا بيوتكم ومراكبكم عامرةً به،
فإنَّ أجر العمل يُضَعَّفُ بسبب شرف الزمان الذي عُمِل فيه.
ولقد كان نبيكم-صلَّى الله عليه وسلَّم-يُقبل على القرآن في هذا الشهر
إقبالاً خاصًّا،
فكان يتدارسه مع جبريل-عليه السلام-كلَّ ليلة؛
إذ قال عبدُ الله بن عباس-رضي الله عنهما-:
((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ،
وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ،
فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ))
رواه البخاري (6) واللفظ له، ومسلم (230.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي-رحمه الله-في كتابه «لطائف المعارف» (242-243):
دلَّ الحديثُ على استحباب دراسة القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك،
وعَرْض القرآن على مَن هو أحفظ منه،
وفيه دليلٌ على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان.اهـ
وقال الحافظ ابن كثير-رحمه الله-في كتابه «فضائل القرآن» (ص37):
ولهذا يستحبُّ إكثار تلاوة القرآن فى شهر رمضان؛ لأنه ابتديء بنزوله,
ولهذا كان جبريل يعارض به رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-في كلِّ سَنَة في شهر رمضان،
ولَمَّا كانت السَّنة التي توفي فيه عارضه به مرتين تأكيدًا وتثبيتًا.اهـ
ولقد كان لسلفكم الصالح-رحمهم الله-مع القرآن في هذا الشهر الجليل
شأنًا عظيمًا، وحالاً عَجَبًا؛
فقد كانوا يُقبلون عليه إقبالاً كبيرًا، ويهتمُّون به اهتمامًا متزايدًا،
ويتزوَّدُون من قراءته كثيرًا.
فقد صحَّ عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه:
((أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ فِي ثَلَاثٍ))
رواه القاسم بن سلام (234) والفريابي (132) في كتابيهما «فضائل القرآن»،
وسعيد بن منصور في «سننه» (150 قِسمُ التفسير).
وصحَّ عن إبراهيم النخعي-رحمه الله-أنه قال:
((كَانَ الْأَسْوَدُ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي كُلِّ لَيْلَتَيْنِ))
رواه أبو عبيد (235) والفريابي (141) في كتابيهما «فضائل القرآن»،
وسعيد بن منصور في «سننه» (151قِسمُ التفسير).
وأخرج عبد الرزاق في «مصنفه» (5955) عن الثوري عن مغيرة عن عمران عن إبراهيم النخعي:
((أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ، فَإِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ قَرَأَهُ فِي لَيْلَتَيْنِ، وَاغْتَسَلَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ)).
وكان الإمام الشافعي-رحمه الله-يختمه في كلِّ يومٍ وليلة من شهر رمضان مرتين.
وكان الإمام البخاري-رحمه الله-يقرأ في كلِّ يومٍ وليلة من رمضان ختمةً واحدة.
وكيف لا يكون هذا هو حال السَّلف الصالح-رحمهم الله-مع القرآن العزيز، ورمضانُ هو شهر نزوله،
وشهر مدارسة جبريل-عليه السلام-له مع سيِّد الناس-صلَّى الله عليه وسلَّم-،
وزمنه أفضل الأزمان، والحسنات فيه مضاعفة متزيدة.
وقد صحَّ عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-أنه قال:
((تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ،
وَيُكَفَّرُ بِهِ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ،
أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ: ﴿ الم ﴾ وَلَكِنْ أَقُولُ: أَلِفٌ عَشْرٌ، وَلَامٌ عَشْرٌ، وَمِيمٌ عَشْرٌ))
رواه ابن أبي شيبة (29932)، وأحمد في «الزهد» (1825)،
وأبو عبيد (21) والفريابي (57) في كتابيهما «فضائل القرآن».
وثبت عن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-أنه قال:
((مَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ إِذَا رَجَعَ مِنْ سُوقِهِ أَوْ مِنْ حَاجَتِهِ إِلَى أَهْلِهِ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فَيَكُونَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ))
رواه ابن المبارك في «الزهد» ( 807).
وحتى لا يُشكل على البعض ختم كثير من السلف الصالح-رحمهم الله-للقرآن في أقلِّ من ثلاث.
فقد قال الحافظ ابن رجب الحنبلي-رحمه الله-في كتابه «لطائف المعارف»(ص246) في دَفعِه وتوجيهه بعد أن سَاق جملةً من الآثار الواردة عنهم في ختم القرآن مرات كثيرة في شهر رمضان:
وإنما وَرَدَ النهي عن قراءة القرآن في أقلِّ من ثلاث على المداومة على ذلك؛
فأمَّا في الأوقات المفضلة كشهر رمضان، خصوصًا الليالي التي يُطلب فيها ليلة القدر
أو في الأماكن المفضلة كمكَّة لمن دخلها من غير أهلها، فيستحبُّ الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتنامًا للزمان والمكان،
وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدلُّ عمل غيرهم كما سبق ذكره.اهـ
أيُّها الإخوة والأخوات:
لقد كان لصيام هذا الشهر المبارك أثرٌ كبيرٌ على نَفسِ سيِّد وَلدِ آدم أجمعين في الإكثار من الأعمال الصالحة،
لا سيما الجُود والبذل والإحسان والإنفاق في وجوه البرِّ،
وسُبُل الإحسان، ومصارف الخير،
ودَفْع ضِيق الفقراء والمحتاجين والْمُعْوِزِين،
فقد قال عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-:
((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ،
وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ،
فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ))
رواه البخاري (6) واللفظ له، ومسلم (230.
وقال الإمام الشافعي-رحمه الله-كما في «مختصر المزنِي» (9/68مع كتاب الأم):
وأُحبُّ للرَّجُل الزيادةَ بالجُود في شهرِ رمضان اقتداءً به-صلى الله عليه وسلم-، ولِحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغُل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم.اهـ
فاقتدوا-بارك الله لكم في أموالكم-بأجود الناس-صلَّى الله عليه وسلَّم-، وأكثرهم كرمًا،
فجُودُوا على إخوانكم وأخواتكم من المسلمين في هذا الشهر الطيب، والزمن الفاضل الشريف،
وازدادُوا جُودًا، وكونوا من الكرماء، وأَذهِبوا عن أنفسكم لَهَف الدرهم والدينار، وتعلقها بالريال والدولار، وتخوُّفها من الفقر والحاجة؛ فإن الشحيح لا يضرُّ إلا نَفْسَه، ولا يكدر إلا ماله،
وقد قال الله-عز وجل-مُعاتبًا وموبِّخًا لمن هذه حاله:
﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾.
وقال العلامة السعدي-رحمه الله-في «تفسيره» (ص894) عند هذه الآية:
وليعلم أن مثقال ذرَّة من الخير في هذه الدار، يقابله أضعاف أضعاف الدنيا، وما عليها في دار النعيم المقيم،
من اللذات والشهوات، وأن الخير والبر في هذه الدنيا، مادة الخير والبر في دار القرار، وبذره وأصله وأساسه،
فَوَا أسفاه على أوقاتٍ مضت في الغفلات، وواحسرتاه على أزمان تقضت بغير الأعمال الصالحات،
وواغوثاه من قلوب لم يؤثر فيها وعظ بارئها، ولم ينجع فيها تشويق من هو أرحم بها منها.اهـ
ومن الجود بالخير في شهر رمضان تفطيرُ الصائمين من القرابة والجيران والأصحاب والفقراء والخدم والعمَّال،
فقد ثبت عن النبي-صلَّى الله عليه وسلم-أنه قال مُرغِّبًا في فِعله، وحاثًّا عليه،
ومبيِّنًا لعظيم أجره، وكبير فضله، وحُسن عائِده على فاعله:
((مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ))
رواه أحمد (17033و21676) واللفظ له، والترمذي (807)، وابن ماجه (1746)، وابن حبان (3429).
أيها الإخوة والأخوات من المتزوجين الجدد:
اتَّقوا الله ربَّكم حقَّ تقواه، وأَجِلُّوه حقَّ إجلاله، وعظِّمُوا أوامره، وأَكبِرُوا زواجره،
ولا تُهينُوا أنفسكم بعصيانه، وتذلُّوا رقابكم بالوقوع في ما حرَّم؛ فتنقادوا للشيطان، وتخضعوا للشهو؛
فتجامعون زوجاتكم في نهار شهر رمضان؛
فإنَّ الإفطار قبل حلول وقته من غير عذرٍ ذنبٌ خطير، وجُرمٌ شنيع،
وفِعلٌ قبيح، وصنيعٌ معِيب،
وتجاوزٌ لحدود الله فظيع، وجنايةٌ ظاهرة، ومهلَكةٌ للواقع فيه،
وقد ثبت عن النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-أنه قال في بيان عقوبة من يفطرون قبل تحلَّة صومهم وإتمامه:
((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلَانِ، فَأَخَذَا بِضَبْعَيَّ، فَأَتَيَا بِي جَبَلًا وَعْرًا، فَقَالَا: اصْعَدْ، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أُطِيقُهُ،
فَقَالَا: إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ، فَصَعِدْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذَا بِأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ،
قُلْتُ: مَا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ؟ قَالُوا: هَذَا عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ،
ثُمَّ انْطُلِقَ بِي، فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةٍ أَشْدَاقُهُمْ، تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا
قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ ...))
الحديث، رواه ابن خزيمة (1986)، والحاكم (1568و2837) وابن حبان (7491).
وقد وسَّع الله-تعالى-لكم في الوقت، فجعل لكم الليل جميعه مسرحًا، فعليكم بالسَّعَة،
واتركوا وقت الحرج والمنع، وتجنَّبوا أسباب الوقوع في هذه المعصية، وسدُّوا طرق الوقوع فيها.
هذا، وأسألُ الله الكريم لِي ولكم أن يبلِّغَنا رمضان، وأن يعينَنا على صيامه وقيامه،
وأن يقيَنا شرور أنفسنا والشيطان، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأجدادنا وسائر أهلينا ذكورًا وإناثًا، صغارًا وكبارًا،
وأن يوفِّقنا إلى ما يرضيه عنَّا، وأن يجعلنا عاملِين بشريعته، ومُعظِّمين لها، ومدافعين وناصرين،
وأن يجنِّبنا الشِّرك والبدع والمعاصي.
وسبحانك اللَّهم وبحمدك، أشهدُ أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وهذه الكلمة أصلها خطبة ثم توسعت إلى محاضرة لأخيكم:
عبد القَادر بِن محمَّد بن عبد الرَّحمن الجنيد.
الحمدُ لله الجواد الكريم، الغني الوهَّاب، الذي جعل الصيام جُنَّة من النَّار وعذابها، ومكفِّرًا للخطايا والآثام، ومضاعِفًا للأجر والثواب،
ودافِعًا إلى زيادة البرِّ والإحسان،
وشافعًا لأهله يوم الجزاء والحساب.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو العليُّ العظيم، البَرُّ الرحيم، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله، وخير من صلَّى لربِّه وقام،
وأتقى مَن حجَّ له وصام، فصلَّى الله وسلَّم وبارك عليه،
وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، ما تعاقب ليل مع نهار.
أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة ويا أيَّتُها الأخوات-سَاقَكم الله إلى ما يقرِّبكم منه ويرضيه-:
لا ريبَ أنَّ جميعكم يُقِرُّ ولا يتنكَّر، يتذكَّر ولا ينسَى، أن نِعم الله-جل وعلا-عليه لا تزال تتابع،
وإحسانه له يكثر حِينًا بعد حين، وكل يوم هو منها في مزيد، فما تأتي نعمةٌ إلا وتلحقها أخرى،
يرحم بها عباده الفقراء إليه، المحتاجين إلى عونه وغفرانه وإنعامه،
فله الحمد دومًا، ملء السماوات، وملء الأرض،
وملء ما شاء مِن شيء بعد، وفي الأولى والآخرة.
وإنَّ من أجلِّ هذه النِّعم، وأرفع هذه العطايا، وأجمل هذه المِنن، هي فرضه عليكم صوم شهر رمضان،
وما أدراك ما شهر رمضان، ثم ما أدراك ما شهر رمضان،
يقول النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-في بيان كبير شأنه، وجليل أمره: ((إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ))
رواه البخاري (3277)، ومسلم (1079).
فهنيئًا، ثم هنيئًا، في هذا الشهر الطيب المبارك لمن أمسكَ بزِمام نفسه،
وشمَّر عن ساعد الجِد،
فسلك بها سبيل الجنَّة، لينعم بالسُّكنى فيها، ويتنعَّم بخيراتها ومَطَايِبها،
وجنَّبها سُبل النَّار، والشَّقاء فيها،
ومسكينٌ بل وأشدُّ من مسكين، من سلكَ بنفسِه طريقَ المعصية والهوان،
وأوردها مواردَ الهلاك، وأحلَّها محالّ العطب،
وأوقعها مواقع الخسران، وأغضب ربَّه الرَّحيم الرَّحمن، وقد يُسِّرت له أسباب الرحمة والمغفرة،
وسُهِّل له طريق التوبة والإنابة،
ففُتِّحَت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وسُلسِلت الشياطين وصُفِّدت.
فلئن كنتم أيُّها المؤمنون بالله ربكم تريدون مغفرة الخطايا، وإذهاب السيئات؛ فاطلبوا ذلك في الصيام،
فقد قال النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-:((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))
رواه البخاري (3، ومسلم (760).
وقال-صلى الله عليه وسلم-: ((الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ))
رواه مسلم (233).
وإن كنتم تطلبون مضاعفة الحسنات، والرِّفعة في الدرجات، فعليكم بالصيام،
فقد قال رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-:
((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ،
قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ،
يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي))
رواه البخاري (7054و1894و7492)، ومسلم (1151) واللفظ له.
وإن كنتم تودُّون أن تكونوا من أهل الجنَّة المنعَّمِين السعداء فلا تغفلوا عن صوم شهر رمضان،
فقد ثبت عن النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-أنه خَطب النَّاس في حجَّة الوداع فقال لهم: ((اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ))
رواه أحمد (22161و22258و22260)، والترمذي (616) واللفظ له،
والحاكم (19و1436و1741)، وابن حبان (4563).
وإن كان بكم شوقٌ إلى دخول الجنَّة من باب الرَّيان فكونوا من أهل الصيام؛
فقد قال النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-:
((إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ))
رواه البخاري (1896) واللفظ له، ومسلم (1152).
وإن كنتم تبغُون وقاية النَّفس من حَرِّ النار ولهبِها فأقبلوا على الصيام،
فقد ثبت عن النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-أنه قال:
((الصِّيَامُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ))
رواه أحمد (16278و17902)، والنسائي (2230)، وابن ماجه (1639)، وابن خزيمة (1891).
وإن كنتم تَتمنُّون الشفاعة يوم الحشر والعَرْض وتتشوَّفُون لها فإنَّ من أسباب نَيلها الصيام؛
فقد ثبت عن النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-أنه قال:
((الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ))
رواه أحمد (6626)، وابن المبارك في كتاب «الزهد» (385)، والحاكم (2036 ) وغيرهم.
وإن كانت نفوسكم تهفُو وتتطلَّع لأن تكون من أهل المنازل العالية الرفعية،
فقد ثبت أن رجلاً جاء إلى النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-فقال له: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَصَلَّيْتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأَدَّيْتُ الزَّكَاةَ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ وَقُمْتُهُ، فَمِمَّن أنا؟
قال: أَنْتَ مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ))
رواه ابن معين في جزءٍ له (190)، ومن طريقه ابن حبان (343 وغيرهما.
قال العلامة الشوكاني-رحمه الله-في «تفسيره» (4/401) عند هذه الآية:
قوله: ﴿أَعَدَّ اللَّـهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ أي: مغفرةً لذنوبهم التي أذنبوها، وأجرًا عظيمًا على طاعاتهم التي فعلوها من الإسلام، والإيمان،
والقنوت، والصدق، والصبر، والخشوع، والتصدُّق،
والصوم، والعَفاف، والذِّكر،
ووصفَ الأجر بالعِظَم للدلالة على أنه بالغ غاية المبالغ،
ولا شيء أعظم من أجر هو الجنَّة، ونعيمها الدائم الذي لا ينقطع ولا ينفد، اللهم اغفِر ذنوبَنا، وأعظِم أجورنا.اهـ
أيُّها الإخوة والأخوات:
بادروا إلى ربكم-عزَّ وجل-في هذا الشهر الجليل المبارك العظيم بالتوبة النَّصوح من جميعِ الذنوب والآثام، من ذنوب الأقوال والأفعال، ومن ذنوب الشُّبهات والشَّهوات، ومن الشِّركيات الشَّنيعة الْمُهلكة، والبدع القبيحة الفظيعة، والمعاصي الكريهة المخزية.
توبوا إليه-سبحانه-من عبادةِ الأولياء والصالحين معه، بدعائِهم والاستغاثة بهم، أو الذبح والنذر لهم، أو الطواف بقبورهم.
توبوا إليه-سبحانه-من الحلف بالنبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-والأولياءِ والصالحين والشَّرف والجاه والآباء والأمهات والأمانة والذِّمة.
توبوا إليه-سبحانه-من بناء المساجد أو القباب أو المقصورات على قبور الصالحين، ومن التبرُّك والتمسُّح بها، والعكوف عليها.
توبوا إليه-سبحانه-من مشاهدة الصور والمناظر المحرمة في الفضائيات، والإنترنت، والهاتف الجوال، والصحف والمجلات، والوتساب وتويتر، وإرسالِها ونشرها بين الناس.
توبوا إليه-سبحانه-من التهاون في أوقات الصلوات، والتكاسل عن الجُمَع والجماعات.
فإنه مَن لم يتب في هذا الشهر الطيب الجليل فمتى يتوب؟
ومن لم يقلع عن ذنوبه وآثامه ومعاصيه في هذا الشهر العزيز فمتى يقلع؟
ومن لم يرحم نَفْسَه التي بين جنبَيه في هذا الشهر العظيم فمتى يرحمها؟!
فقد ثبت عن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-صَعِد المنبر، فقال:
((إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي، فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ،...))
الحديث، رواه ابن خزيمة (188، وأبو يعلَى (5922)، وابن حبان (907و409) واللفظ له، وغيرهم.
فيا حَسْرةَ! ويا بؤسَ! ويا خسارةَ! مَن دخل في دعوة جبريل-عليه السلام-، وتأمين النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-عليها؛ فأبعده الله وأخزاه وأهانه.
فَيَا ذَا الذي ما كفَاهُ الذَّنبُ في رَجَبِ
حتَّى عَصَى الله في شهرِ شعبانِ
لقد أظلَّك شهرُ الصومِ بعدَهُمَــا
فلا تُصَيِّرْه أيضًا شهرَ عصيـانِ
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي-رحمه الله-في كتابه «لطائف المعارف» (ص214):
مَن رُحِم في رمضان فهو المرحوم، ومن حُرِم خيرُه فهو المحروم، ومَن لم يتزود لمعاده فيه فهو مَلُوم،.. [و] مَن لم يربح في هذا الشهر ففي أيّ وقت يربح؟ ومَن لم يقرب فيه مِن مولاه فهو على بُعدٍ لا يبرح.اهـ
أيُّها الإخوة والأخوات:
إنَّ الصائمين من الناس في شهر رمضان عن الطعام والشراب والجماع كُثُر؛
ولكن الصائم الموفَّق الْمُسدَّد دون ذلك.
وفي وَصفِ هذا الصائم يقول الإمام ابن قيم الجوزية-رحمه الله-في كتابه
«الوابل الصيب من الكلم الطيب» (ص46):
والصائمُ هو الذي صامت جوارحُه عن الآثام،
ولسانُه عن الكذب والفحش وقول الزور،
وبطنُه عن الطعام والشراب،
وفرجُه عن الرَّفث،
فإن تكلَّم لم يتكلم بما يجرحُ صومَه،
وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومَه،
فيخرج كلامه كلُّه نافعًا صالحًا،
وكذلك أعماله فهي بمنزلة الرائحة التي يَشُمها من جَالس حامل المسك،
كذلك مَن جالس الصائم انتفع بمجالسته، وأَمِن فيها من الزُّور والكذب والفجور والظلم،
هذا هو الصومُ المشروع لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب، ...،
فالصومُ هو صومُ الجوارح عن الآثام،
وصومُ البطن عن الشراب والطعام، فكما أن الطعام والشراب يقطعه ويفسده، فهكذا الآثام تقطع ثوابه وتفسد ثمرته فَتُصَيِّرُه بمنزلةِ مَن لَم يصم.اهـ
ويؤكدُ كلامه هذا ويقويه هذه الأحاديثُ النبوية، والآثار المروية عن الصحابة والتابعين-رضي الله عنهم-.
فقد قال النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-:
((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)) رواه البخاري (1903).
وثبت عنه-صلَّى الله عليه وسلَّم-أنه قال:
((رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ))
رواه أحمد (8856)، وابن خزيمة (1997)، والحاكم (1571)، وابن حبان (3481 ).
وثبت عنه-صلَّى الله عليه وسلَّم-أنه قال:
((لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ،
فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ أَوْ جَهِلَ عَلَيْكَ فَلْتَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ))
رواه ابن خزيمة (1996) واللفظ له، والحاكم (1570)، وابن حبان (3479).
وصحَّ عن أبي المتوكل الناجي-رحمه الله-أنه قال:
((كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَصْحَابُهُ إِذَا صَامُوا جَلَسُوا فِي الْمَسْجِدِ قَالُوا: نُطَهِّرُ صِيَامَنَا))
رواه ابن أبي شيبة (8881)، وهنَّاد بن السَّري في «الزهد» (1207) واالفظ له،
وأبو نُعيم في «الحلية» (1/282) وغيره.
وقال جابر بن عبد الله-رضي الله عنه-:
((إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ،
وَدَعْ عَنْكَ أَذَى الْخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ سَكِينَةٌ وَوَقَارٌ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ صَوْمِكَ وَيَوْمَ فِطْرِكَ سَوَاءً))
رواه ابن أبي شيبة (8880)، وابن المبارك في «الزهد» (460و130، والبيهقي في «شعب الإيمان» (3374).
وثبت عن أبي صالح الحنفي عن أخيه طَلِيق بن قيس أنه قال: قال أبو ذر-رضي الله عنه-:
((«إِذَا صُمْتَ فَتَحَفَّظْ مَا اسْتَطَعْتَ»، وَكَانَ طَلِيقٌ إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِهِ دَخَلَ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَّا لِصَلَاةٍ))
رواه ابن أبي شيبة (887، ومن طريقه البيهقي في «فضائل الأوقات» ( 63).
وصحَّ عن عطاء بن السائب-رحمه الله-أنه قال: ((كان أصحابنا يقولون: أَهْوَنُ الصِّيَامِ تَرْكُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ))
رواه مُسدَّدٌ في «مسنده» (1018من المطالب العالية).
وثبت عن جعفر بن برقان-رحمه الله-أنه قال: ((سَمِعْتُ مَيْمُونًا، يَقُولُ: إِنَّ أَهْوَنَ الصَّوْمِ تَرْكُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ))
رواه ابن أبي شيبة (8883)، وأبو نُعيم في «الحلية» (4/90) وغيره.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي-رحمه الله-في كتابه «لطائف المعارف» (ص127) عند قول النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-:
((الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)):
فالصيامُ يشفع لمن منعه الطعام والشهوات المحرمة كلها، سواء كان تحريمها يختصُّ بالصيام كشهوة الطعام والشراب والنكاح ومقدماتها أو لا يختص كشهوة فضول الكلام المحرَّم والنظر المحرَّم والسَّماع المحرَّم والكسب المحرَّم،
فإذا منعه الصيام من هذه المحرَّمات كلها فإنه يشفع له عند الله يوم القيامة،
ويقول: ((يا رب منعته شهواته فشفِّعْنِي فيه)) فهذا لمن حفظ صيامه ومنعه من شهواته.
فأما من ضيَّع صيامه ولم يمنعه مما حرّمه الله عليه فإنه جدير أن يضرب به وجه صاحبه
ويقول له: ضيَّعك الله كما ضيَّعتَني كما وَرَدَ مثل ذلك في الصلاة.اهـ
فالله! الله! في شهر رمضان.
الله! الله! في هذا الركن العظيم.
الله! الله! في صيامكم.
لا تُكدِّرُوه بالسَّيئات والذنوب، ولا تُسوِّدُوه بالمعصية والوزر،
ولا تُنقصوه بسماع ومشاهدة ومقارفة الآثام والخطايا،
ولا تخدشوه بالوقوع في أعراض الناس بالكذب والغيبة والنميمة
والافتراء والبهتان،
ولا تُضعِفُوا أجره وثمرته بإرسال المقاطع والصور المحرمة
عبر قنوات الاتصال من فضائيات وإنترنيت
وهاتف جوال ووتساب وتويتر،
وعفُّوا أسماعَكم وأبصاركم وألسنتكم وباقي جوارحكم عن جميع المحرمات،
وفي كلِّ الأوقات، وبالليل والنهار.
أيُّها الإخوة والأخوات:
إنَّ من أعظم ساعات المسلم هي تلك الساعات التي يقضيها مع
كتاب ربه القرآن؛
فيتلوا ويتدبَّر ويتعلَّم الأحكام ويأخذ العِظَة والعِبرة.
فأكثِروا من الإقبال على القرآن في هذا الشَّهر الطيِّب الْمُطيَّب،
والزمن الفاضل الجليل،
وحُثُّوا أهليكم رجالاً ونساءً، صغارًا وكبارًا، على تلاوته والإكثار منه،
واجعلوا بيوتكم ومراكبكم عامرةً به،
فإنَّ أجر العمل يُضَعَّفُ بسبب شرف الزمان الذي عُمِل فيه.
ولقد كان نبيكم-صلَّى الله عليه وسلَّم-يُقبل على القرآن في هذا الشهر
إقبالاً خاصًّا،
فكان يتدارسه مع جبريل-عليه السلام-كلَّ ليلة؛
إذ قال عبدُ الله بن عباس-رضي الله عنهما-:
((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ،
وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ،
فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ))
رواه البخاري (6) واللفظ له، ومسلم (230.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي-رحمه الله-في كتابه «لطائف المعارف» (242-243):
دلَّ الحديثُ على استحباب دراسة القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك،
وعَرْض القرآن على مَن هو أحفظ منه،
وفيه دليلٌ على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان.اهـ
وقال الحافظ ابن كثير-رحمه الله-في كتابه «فضائل القرآن» (ص37):
ولهذا يستحبُّ إكثار تلاوة القرآن فى شهر رمضان؛ لأنه ابتديء بنزوله,
ولهذا كان جبريل يعارض به رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-في كلِّ سَنَة في شهر رمضان،
ولَمَّا كانت السَّنة التي توفي فيه عارضه به مرتين تأكيدًا وتثبيتًا.اهـ
ولقد كان لسلفكم الصالح-رحمهم الله-مع القرآن في هذا الشهر الجليل
شأنًا عظيمًا، وحالاً عَجَبًا؛
فقد كانوا يُقبلون عليه إقبالاً كبيرًا، ويهتمُّون به اهتمامًا متزايدًا،
ويتزوَّدُون من قراءته كثيرًا.
فقد صحَّ عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه:
((أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ فِي ثَلَاثٍ))
رواه القاسم بن سلام (234) والفريابي (132) في كتابيهما «فضائل القرآن»،
وسعيد بن منصور في «سننه» (150 قِسمُ التفسير).
وصحَّ عن إبراهيم النخعي-رحمه الله-أنه قال:
((كَانَ الْأَسْوَدُ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي كُلِّ لَيْلَتَيْنِ))
رواه أبو عبيد (235) والفريابي (141) في كتابيهما «فضائل القرآن»،
وسعيد بن منصور في «سننه» (151قِسمُ التفسير).
وأخرج عبد الرزاق في «مصنفه» (5955) عن الثوري عن مغيرة عن عمران عن إبراهيم النخعي:
((أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ، فَإِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ قَرَأَهُ فِي لَيْلَتَيْنِ، وَاغْتَسَلَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ)).
وكان الإمام الشافعي-رحمه الله-يختمه في كلِّ يومٍ وليلة من شهر رمضان مرتين.
وكان الإمام البخاري-رحمه الله-يقرأ في كلِّ يومٍ وليلة من رمضان ختمةً واحدة.
وكيف لا يكون هذا هو حال السَّلف الصالح-رحمهم الله-مع القرآن العزيز، ورمضانُ هو شهر نزوله،
وشهر مدارسة جبريل-عليه السلام-له مع سيِّد الناس-صلَّى الله عليه وسلَّم-،
وزمنه أفضل الأزمان، والحسنات فيه مضاعفة متزيدة.
وقد صحَّ عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-أنه قال:
((تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ،
وَيُكَفَّرُ بِهِ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ،
أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ: ﴿ الم ﴾ وَلَكِنْ أَقُولُ: أَلِفٌ عَشْرٌ، وَلَامٌ عَشْرٌ، وَمِيمٌ عَشْرٌ))
رواه ابن أبي شيبة (29932)، وأحمد في «الزهد» (1825)،
وأبو عبيد (21) والفريابي (57) في كتابيهما «فضائل القرآن».
وثبت عن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-أنه قال:
((مَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ إِذَا رَجَعَ مِنْ سُوقِهِ أَوْ مِنْ حَاجَتِهِ إِلَى أَهْلِهِ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فَيَكُونَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ))
رواه ابن المبارك في «الزهد» ( 807).
وحتى لا يُشكل على البعض ختم كثير من السلف الصالح-رحمهم الله-للقرآن في أقلِّ من ثلاث.
فقد قال الحافظ ابن رجب الحنبلي-رحمه الله-في كتابه «لطائف المعارف»(ص246) في دَفعِه وتوجيهه بعد أن سَاق جملةً من الآثار الواردة عنهم في ختم القرآن مرات كثيرة في شهر رمضان:
وإنما وَرَدَ النهي عن قراءة القرآن في أقلِّ من ثلاث على المداومة على ذلك؛
فأمَّا في الأوقات المفضلة كشهر رمضان، خصوصًا الليالي التي يُطلب فيها ليلة القدر
أو في الأماكن المفضلة كمكَّة لمن دخلها من غير أهلها، فيستحبُّ الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتنامًا للزمان والمكان،
وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدلُّ عمل غيرهم كما سبق ذكره.اهـ
أيُّها الإخوة والأخوات:
لقد كان لصيام هذا الشهر المبارك أثرٌ كبيرٌ على نَفسِ سيِّد وَلدِ آدم أجمعين في الإكثار من الأعمال الصالحة،
لا سيما الجُود والبذل والإحسان والإنفاق في وجوه البرِّ،
وسُبُل الإحسان، ومصارف الخير،
ودَفْع ضِيق الفقراء والمحتاجين والْمُعْوِزِين،
فقد قال عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-:
((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ،
وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ،
فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ))
رواه البخاري (6) واللفظ له، ومسلم (230.
وقال الإمام الشافعي-رحمه الله-كما في «مختصر المزنِي» (9/68مع كتاب الأم):
وأُحبُّ للرَّجُل الزيادةَ بالجُود في شهرِ رمضان اقتداءً به-صلى الله عليه وسلم-، ولِحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغُل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم.اهـ
فاقتدوا-بارك الله لكم في أموالكم-بأجود الناس-صلَّى الله عليه وسلَّم-، وأكثرهم كرمًا،
فجُودُوا على إخوانكم وأخواتكم من المسلمين في هذا الشهر الطيب، والزمن الفاضل الشريف،
وازدادُوا جُودًا، وكونوا من الكرماء، وأَذهِبوا عن أنفسكم لَهَف الدرهم والدينار، وتعلقها بالريال والدولار، وتخوُّفها من الفقر والحاجة؛ فإن الشحيح لا يضرُّ إلا نَفْسَه، ولا يكدر إلا ماله،
وقد قال الله-عز وجل-مُعاتبًا وموبِّخًا لمن هذه حاله:
﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾.
وقال العلامة السعدي-رحمه الله-في «تفسيره» (ص894) عند هذه الآية:
وليعلم أن مثقال ذرَّة من الخير في هذه الدار، يقابله أضعاف أضعاف الدنيا، وما عليها في دار النعيم المقيم،
من اللذات والشهوات، وأن الخير والبر في هذه الدنيا، مادة الخير والبر في دار القرار، وبذره وأصله وأساسه،
فَوَا أسفاه على أوقاتٍ مضت في الغفلات، وواحسرتاه على أزمان تقضت بغير الأعمال الصالحات،
وواغوثاه من قلوب لم يؤثر فيها وعظ بارئها، ولم ينجع فيها تشويق من هو أرحم بها منها.اهـ
ومن الجود بالخير في شهر رمضان تفطيرُ الصائمين من القرابة والجيران والأصحاب والفقراء والخدم والعمَّال،
فقد ثبت عن النبي-صلَّى الله عليه وسلم-أنه قال مُرغِّبًا في فِعله، وحاثًّا عليه،
ومبيِّنًا لعظيم أجره، وكبير فضله، وحُسن عائِده على فاعله:
((مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ))
رواه أحمد (17033و21676) واللفظ له، والترمذي (807)، وابن ماجه (1746)، وابن حبان (3429).
أيها الإخوة والأخوات من المتزوجين الجدد:
اتَّقوا الله ربَّكم حقَّ تقواه، وأَجِلُّوه حقَّ إجلاله، وعظِّمُوا أوامره، وأَكبِرُوا زواجره،
ولا تُهينُوا أنفسكم بعصيانه، وتذلُّوا رقابكم بالوقوع في ما حرَّم؛ فتنقادوا للشيطان، وتخضعوا للشهو؛
فتجامعون زوجاتكم في نهار شهر رمضان؛
فإنَّ الإفطار قبل حلول وقته من غير عذرٍ ذنبٌ خطير، وجُرمٌ شنيع،
وفِعلٌ قبيح، وصنيعٌ معِيب،
وتجاوزٌ لحدود الله فظيع، وجنايةٌ ظاهرة، ومهلَكةٌ للواقع فيه،
وقد ثبت عن النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-أنه قال في بيان عقوبة من يفطرون قبل تحلَّة صومهم وإتمامه:
((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلَانِ، فَأَخَذَا بِضَبْعَيَّ، فَأَتَيَا بِي جَبَلًا وَعْرًا، فَقَالَا: اصْعَدْ، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أُطِيقُهُ،
فَقَالَا: إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ، فَصَعِدْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذَا بِأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ،
قُلْتُ: مَا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ؟ قَالُوا: هَذَا عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ،
ثُمَّ انْطُلِقَ بِي، فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةٍ أَشْدَاقُهُمْ، تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا
قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ ...))
الحديث، رواه ابن خزيمة (1986)، والحاكم (1568و2837) وابن حبان (7491).
وقد وسَّع الله-تعالى-لكم في الوقت، فجعل لكم الليل جميعه مسرحًا، فعليكم بالسَّعَة،
واتركوا وقت الحرج والمنع، وتجنَّبوا أسباب الوقوع في هذه المعصية، وسدُّوا طرق الوقوع فيها.
هذا، وأسألُ الله الكريم لِي ولكم أن يبلِّغَنا رمضان، وأن يعينَنا على صيامه وقيامه،
وأن يقيَنا شرور أنفسنا والشيطان، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأجدادنا وسائر أهلينا ذكورًا وإناثًا، صغارًا وكبارًا،
وأن يوفِّقنا إلى ما يرضيه عنَّا، وأن يجعلنا عاملِين بشريعته، ومُعظِّمين لها، ومدافعين وناصرين،
وأن يجنِّبنا الشِّرك والبدع والمعاصي.
وسبحانك اللَّهم وبحمدك، أشهدُ أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وهذه الكلمة أصلها خطبة ثم توسعت إلى محاضرة لأخيكم:
عبد القَادر بِن محمَّد بن عبد الرَّحمن الجنيد.