بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين أما بعد :
فهذا مقال طيب عن الفراغ واثره في النفس والمجتمع وقد انتقيته من مجلة البيان العدد التاسع عشر
اليكم المقال :
اتجه العلم الحديث لأسباب تاريخية إلى فصل العلم عن الدين ، والابتعاد عن قبضة الكنيسة ورجال الدين ، ولسوء حظ بلاد العرب والمسلمين فقد استورد هذا
الاتجاه بما فيه من خطر عظيم لعدم وجود البديل وهو الفكر الإسلامي .
أنا لا أدعي وأنا أكتب هذا المقال أنني أعرف في الدين أكثر مما يعرفه الشخص العادي ، وهذا نقص أعترف به ، ولكنني هنا أحاول أن أعكس ما تعلمته
وأربط ما أعلمه من طب وعلم النفس مع عقيدتي الإسلامية . هذا ليس هو الطريق لأسلمة العلم ، الشيء الذي يقصد به أكثر من ذلك لعل الله أن يوفقنا لما يحبه
ويرضاه من القول والعمل .
قرأت مؤخراً آية من كتاب الله هي قوله تعالى في آخر سورة الشرح [ فَإذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وإلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ] . قرأت تفسير هذه الآية في أكثر من مرجع
فإذا هي مخاطبة للرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن يتوجه إلى الله بالعبادة بعد أن يفرغ من شغله مع الناس ، وأن ينصب في ذلك ويتوجه إلى الله بكل ما يفعله .
المعنى الذي استشعرته من الآية والذي ينطق على كل إنسان مهما كان هو معنى الفراغ بمعناه الشامل ، أي إذا انتهى الإنسان من أي عمل كان ، ووجد نفسه
فارغاً ، لا يجد شيئاً يفعله ، توجهه الآية الكريمة أن يبحث عن شيء يشتغل به ، ولكن الآية لا تترك التوجيه هكذا عائماً يفسره كل حسب هواه ، إنها توجهنا ، ألا
يكون ما نشتغل به لمجرد شغل الفراغ ولكن يجب أن يخضع لضابطين أساسيين هما : النصب ، والنية الصالحة .
وإذا انتقلنا إلى الكلام عن الفراغ وما يجر إليه من مفاسد وذلك في ظلال هذه الآية وهذا المفهوم ؛ نجد : أولاً : أن الفراغ سبب أساسي في الكثير من أمراض العصر النفسية والجسمية ، لا يختلف الأطباء أبداً في أثر الفراغ في الجسم البشري أو حتى الحيواني وأنه يؤدي إلى تصلب الشرايين وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب
والروماتيزم والجلطات القلبية والدماغية ، وهم أيضاً لا يختلفون كذلك أن الفراغ وراء الاكتئاب والقلق النفسي والهم .
ثانياً : الفراغ يجعل الإنسان يشعر بأنه لا فائدة له ، وأنه عضو مشلول في المجتمع لا ينتج ولا يفيد . فالإنسان الفارغ لا يترقب شيئاً تهفو إليه نفسه كنتيجة
لعمله ، فهو بلا هدف في الحياة وأي حياة هذه التي لا هدف لها .
ثالثا : الفراغ وسيلة من وسائل إبليس يوسوس فيها للإنسان فيثير فيه كوامن الغرائز ويلهبها فتحرقه وتفلت من لجامها لتحرق ما حوله . وهذه حقيقة لا مراء لها .
رابعًا : الفراغ سبب للمشاكل الأخلاقية والجريمة ، ويشهد بهذا علماء الاجتماع ، إذ وجد أن نسبة الجرائم والمشاكل الأخلاقية تتناسب طرداً مع نسبة البطالة في أي زمان ومكان .
خامساً : الفراغ سبب في كسب الذنوب مثل التفكير في المعاصي والحديث في الناس ، وما إلى ذلك .
سادساً : الفراغ تعيل للطاقة وقد قال صلى الله عليه وسلم ما معناه : أنه لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ... ومنها : وعن عمره فيم أبلاه .
فلا حول ولا قرة إلا بالله ولنعد مرة أخرى إلى الشرطين الذين وضعتهما الآية الكريمة لعلاج هذا الداء (الفراغ) ، ألا وهما :
1- النصب : (بفتح الباء) أي إن مشاهدة التلفزيون وقضاء الساعات أمامه وقراءة الجرائد الهزيلة وما إلى ذلك ليس مما يداوي هذا المرض ويمنع الخلل الذي يجره على الإنسان ومن خلفه المجتمع الذي هو عضو فيه . الشرط هنا هو التعب أي أن يجهد الإنسان نفسه فالتعب وحده هو الذي يصرفه عن ما ذكرناه من عواقب
الفراغ الوخيمة .
2- الرغبة إلى الله : أي التوجه إليه وقصده وحده بما تجهد فيه نفسك وهذا ليس فقط لربط الدنيا بالدين كما هو هدف القرآن في كل توجيه ولكنه أيضاً الوسيلةالوحيدة لسلسلة أخرى من المشاكل ، ألا وهي التسيب وانخفاض مستوى الكفاءة الإنتاجية في العمل ، وهذا من اكبر المعضلات في علم الإدارة . لا يمكن أن يردع الإنسان ترغيب ولا ترهيب أن لا يقصر في عمله أو يخون صاحب العمل سواء كان فرداً أو حكومة ، لكنه الخوف من الله سبحانه والعلم بأنه مطلع على كل ما
نعمله وحتى ما تخفيه الأنفس . هذا الخوف من الله هو المقصود بالآية ، فالعامل يخلص العمل ليس رغبة في تقدير صاحب العمل وحفنة من المال ، ولا خوفاً من
العقاب إن هو قصر ولكن رغبة في ما عند الله ، ومن ثم الجزاء نقداً (حاضراً) بالشعور بالراحة النفسية والسمعة الحسنة والكسب المادي ، ومؤجلاً بما عند الله
جزاء النية الصادقة والضمير اليقظ .
لا أجد داعياً لأعود فأتحدث عن ما يفعله التوجيه الإلهي في هذه الآية ، إذ ينقضّ على معول من معاول الهدم فيحطمه ويرى الإنسان المسلم كيف يبنى بنيانه
على أساس من الإيمان يرتبط فيه علم النفس بعلم الاجتماع بعلم الإدارة بالطب البشري .
أخوكم : المشفق