القول المبين في الرد على من قال إن طلب الرقية الشرعية يقدح في التوكل ومن ثم لا يدخلون في السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب:
عن عمران بن حصين ، رضي الله عنهما قال : (لا رقية إلا من عين أو حمة ، فذكرته لسعيد بن جبير ، فقال : حدثنا ابن عباس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عرضت علي الأمم ، فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط ، والنبي ليس معه أحد ، حتى رفع لي سواد عظيم ، قلت : ما هذا ؟ أمتي هذه ؟ قيل : بل هذا موسى وقومه ، قيل : انظر إلى الأفق ، فإذا سواد يملأ الأفق ، ثم قيل لي : انظر ها هنا وها هنا في آفاق السماء ، فإذا سواد قد ملأ الأفق ، قيل : هذه أمتك ، ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفا بغير حساب " ثم دخل ولم يبين لهم ، فأفاض القوم ، وقالوا : نحن الذين آمنا بالله واتبعنا رسوله ، فنحن هم ، أو أولادنا الذين ولدوا في الإسلام ، فإنا ولدنا في الجاهلية ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فخرج ، فقال : " هم الذين لا يسترقون ، ولا يتطيرون ، ولا يكتوون ، وعلى ربهم يتوكلون " فقال عكاشة بن محصن : أمنهم أنا يا رسول الله ؟ قال : " نعم " فقام آخر فقال : أمنهم أنا ؟ قال : " سبقك بها عكاشة ")صحيح البخاري(4).
أولا: أن النبي قرن عدم طلب الرقية بأمور منهي عنها وهي الطيرة والكي ومن ثم تحمل على الرقى المنهي عنها وهي الرقى الشركية والبدعية :
في الحديث قال النبي في الذين يدخلون بغير حساب: " هم الذين لا يسترقون ، ولا يتطيرون ، ولا يكتوون ، وعلى ربهم يتوكلون " أي الذين لا يتطيرون أي يتشأمون والطيرة كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم شرك ، ولا يكتوون أي يعالجون أنفسهم بالكي والنبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الكي ، فذكر في الحديث أفعال منهي عنها وهي التطير والكي ومن ثم يكون الفعل الثالث وهو طلب الرقية منهي عنه لاقترانه بأفعال منهي عنها فهل طلب الرقية منهي عنه أم مستحب؟
ومن ثم تحمل هذه الرقية على الرقى الشركية والبدعية وهذه هي المنهي عنها.
ثانيا :قد يقول قائل: أن قوله عليه السلام في الحديث السابق "لايسترقون"لفظ عام يشمل الرقى الشرعية والشركية فلماذا تخصص بالرقى الشركية:
ويمكن الرد على ذلكبأن الرقى الشركية كانت منتشرة ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها ، ومع ذلك فقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث التالي بلفظ عام وليس خاص بالرقى الشركية يدل على النهي عن الرقى، ولكنه يفهم من الحديث ويدلل على ذلك أن النبي أمر صحابته أن يعرضوا رقاهم بعد النهي فقال: "لا بأس" ، وفي حديث آخر قال :"فاعرضها علي" أي الرقية ثم قال: "ما أرى بأسا" فهذا يدل على أن النهي الأول كان خاصا بالرقى الشركية وليس الرقية الشرعية ، فَنْ جَابِرٍ قَالَ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرُّقَى فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَارُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِوَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى قَالَ فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ فَقَالَمَا أَرَى بَأْسًا مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ)صحيح مسلم(1).
وفي رواية آخرى في السنن الكبرى للبيهقي:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " فاعرضها علي " . فعرضها عليه فقال : " ما أرى بأسا , من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه ") البيهقي(2).
وقال صلى الله عليه وسلم( إن الرقى والتمائم والتولة شرك)أبو داود وصححه الألباني(3).
ولفظ الرقى في الحديث السابق لفظ عام ولكنه يحمل على الرقى الشركية فلا يقول عاقل إن الرقى الشرعية شرك.
فمن الأحاديث سالفة الذكر: دلالة على أن النبي كان قد نهى عن الرقى الشركية فقط ومع ذلك فكان لفظ النهي عاما.
ثالثا: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب الرقية لنفسه وهذا ينسف الرأي القائل بأن طلب الرقية يقدح في التوكل ويتنافى مع كماله وتمامه فهل هناك أحد من البشر أكمل توكلا من النبي صلى الله عليه وسلم؟
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة في مرض موته بأن ترقيه بالمعوذات .
فعن عائشة رضي الله عنها قالت( أن رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أوى إلى فراشِهِ ، نَفَثَ في كَفَّيْهِ ب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ** ووبالمُعَوِّذَتَينِ جَميعًا ، ثم يَمسَحُ بهِما وجْهَهُ ، وما بَلَغَتْ يَداهُ من جَسَدِهِ ، قالت عائشَةُ : فلمَّا اشتَكَى كان يأمُرُني أنْ أفعَلَ ذلكَ بِهِ) صحيح البخاري(4).
رابعا: هل صحيح أن طلب الرقية يقدح في تمام التوكل؟
أن طلب الرقية من الأسباب فهل طلب الأسباب يقدح في تمامه ، ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأسباب كلها في حياته وفي تداويه وفي حربه وفي كل شيء وكذلك صاحبته فهل توكلهم على الله كان ناقصا؟
فالذي يقدح حقا في تمام التوكل هو الإعتقاد بأن الرقية نافعه بذاتها أما مجرد طلب الرقية وهو من جملة الأسباب لا يقدح فيه ، ولو قلنا أن طلب الرقية يتنافى مع كمال التوكل فيجب علينا ألا نطلب الدواء ولا الطعام ولا الشراب ولا الرزق ولا آية أسباب فهل يقول بذلك عاقل؟
فلا يقدح الأخذ بالأسباب في التوكل على الله لأنه يعلم أن الله هو الذي خلق الأسباب وهيأها له ، وكما ورد في الحديث عندما أراد الرجل أن يدخل المسجد وكان معه ناقته ( قال رجل يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل قال اعقلها وتوكل)الترمذي وحسنه الألباني(1).
والمعنى أن يأخذ بالسبب الذي خلقه الله وهو أن يعقل الناقة و يتوكل على الله والأسباب كالآلة بيد الصانع فعندما يصنع الصانع بآلته شيئا معينا فلا نقول صنعت الآلة ولكن نقول صنع الصانع فلا نقول ضرب السيف العنق ولكن نقول ضرب السياف العنق ولله المثل الأعلى فلا نقول إن فلان رزقني ولكنه كان سببا في رزقي الذي قدره الله لي وهذا السبب بدوره خلقه الله وقدره.
والأخذ بالأسباب من السنة وهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم فكان يأخذ في الأسباب في كل شيء في معاركه وفي تدبيره لشئونه وشئون المسلمين.
4 ) صحيح البخاري - كتاب الطب- باب من اكتوى أو كوى غيره .
1 ) صحيح مسلم - كتاب السلام- باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة.
2 )السنن الكبرى للبيهقي - كتاب الضحايا- جماع أبواب كسب الحجام - باب إباحة الرقية بكتاب الله عز وجل وبما يعرف من ذكر.
3 ) سنن أبي داود - كتاب الطب- باب في تعليق التمائم – وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود.
4 ) صحيح البخاري - كتاب الطب- باب النفث في الرقية.
1 ) سنن الترمذي الجامع الصحيح - الذبائح- أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه ، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي.