شرح دعاء : « اللهمَّ أصلح لي ديني . . . »
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إنَّ الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أنْ لا إلـٰه إلاَّ الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبده ورسوله ، صَلَّىٰ اللهُ وسَلَّم وباركَ عليه ، علىٰ آلهِ وأصْحابهِ أجْمعين .
أَمَّا بَعْدُ :
أيُّها الإخوة ؛ نحن اليوم مع حديثٍ فيه دعاءٌ جامعٌ أيضا ، كما تقدَّم في الحديث الَّذي قبله ،
« اللهمَّ ! إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدىٰ ، وَالتُّقىٰ ، وَالْعَفَافَ ، وَالْغِنَىٰ » (1) ،
فمن حصل علىٰ ذٰلك فإنَّه قد حصَّل علىٰ كل شيءٍ ممَّا يتعلَّق بأسباب السَّعادة ،
الَّتي يسعدُ بها المرء في دنياهُ ، وفي آخرته ، وهٰذا اليوم نحن مع حديث :
« اللّٰهُمَّ ! أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي ، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي ،
وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي ، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ ،
وَالْمَوْتُ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ » (2) .
هٰذا الدُّعاء المبارك الثَّابت عن النَّبِيِّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
أيضاً فيه من جوامع كَلِمِهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسة أمور :
• الأمرُ الأوَّل : الدُّعاء بِصَلاح الدِّين .
• والأمرُ الثَّاني : الدُّعاء بِصَلاح الآخرة .
• والأمرُ الثَّالث : الدُّعاء بِصَلاح الدُّنيا ، الَّذي يترتَّبُ عليه صلاح الآخرة .
• والأمرُ الرَّابع : الدُّعاء بأنْ تكون الحياة والعمر مزيدًا من الخير والتُّقىٰ ، وزيادةً في العمل الصَّالح .
• والأمرُ الْخامسُ : الدُّعاء بأن يكون الموتُ راحةً من الفتن والشُّرور الَّتي قدْ تُصِيبُ الأحياء .
ولنبدأ بالجملة الأولىٰ في هٰذا اليوم .
« اللّٰهمَّ ! أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي » .
صَلاح الدِّين ، والنَّفس ، والْمَال ، والْعِرض ، والْعقل ،
هٰذه الأُمُور الْخمسة إذا حفظ الله المرء فيها نالَ سعادة الدُّنيا والآخرة ،
بلْ تلك هي السَّعادة الْكُبرىٰ الَّتي لا تعدلها سعادة .
وأساس ذٰلك كلِّه صلاح الدِّين .
‴ والدِّينُ : ما يدينُ به الْعبد ويعتقده ، ويعمل به ، ويكافح مِنْ أجله ، ويعتنقه ،
ويلتزم أوامره ، ويجتنب نواهيه ، وهو دين الإسلام .
الدِّين الَّذي لا يقبل الله دينًا سِواه ؛ ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ﴾ ( آل عمران : 19 ) .
وقال تعالىٰ : ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾
( آل عمران : 85 ) .
فإذا صَلُحَ دينك ، صَلُحَتْ أُمُورُ دُنياك ، ولذٰلك بَدَأَ به فِي الدُّعاء عليه الصَّلاة والسَّلام فقالَ :
« اللّٰهمَّ ! أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي » .
« عِصْمَةُ أَمْرِك » : حَزْمُه ، سَلامته ، قَوَامُه ، أسَاسُه ، رُكْنُهُ الرَّكين ، وحِصْنُهُ المتين .
فصلاح الدِّين وحفظه ، يا عبد الله !
هو الأساسُ لصلاح الدُّنيا والآخرة ، وهو الأساسُ لسعادة العبد ،
وتحقيقه للأمر الَّذي أوجده الله له ، وخلقه مِن أجله .
* فإنَّنا قد خلقنا الله تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ :
˘ مِنْ أجل هٰذا الدِّين .
˘ مِنْ أجل أنْ نُقيم شرع الله .
˘ مِنْ أجل أنْ نُحقِّق عبادة الله .
˘ مِنْ أجل أنْ نُحقِّق توحيد الله تبارك وتعالىٰ .
˘ مِنْ أجل أنْ نَعْبُدَهُ وحدَهُ لا شريك له ، ونَنْبُذَ عبادة مَنْ سِواه .
﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ ( البينة : 5 ) .
لذٰلك هو الدِّين الْمُسْتقيم ، ﴿ دِينًا قِيَمًا ﴾ ( الأنعام : 161 ) ،
مُسْتقيما .
فما يدين به العبد ربَّهُ مِنْ تحقيق العبوديَّة له سُبْحانه ، وامْتثال سائر أوامرهِ واجْتناب جميع نواهيه ،
هٰذه هي الغاية والمقصود مِنْ خلق الإنسان .
كما قال الله تبارك وتعالىٰ : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ *
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ ( الذاريات : 56 ، 58 ) .
إذا عَرَفَ الإنسان هٰذا الغرض الَّذي خُلِقَ له ، وَوُجِدَ مِنْ أجْله اِسْتقام علىٰ دين الله عَزَّ وَجَلَّ ،
وشَرْعه ، وطَبَّقَ أوامرهُ ، واجْتَنَبَ نواهيه .
ومِنْ ثَمَّ تَرَتَّبَ علىٰ ذٰلك صلاحُ جميع الأُمُور الأُخْرىٰ .
لأنَّهُ إذا حقَّقَ الْعَبْدُ الْغَرضُ الَّذي خلقه الله له ، وطَبَّقَهُ تمامًا ، وتَفَانىٰ مِنْ أجله ،
واجْتَهَدَ فِي طاعة ربِّه ، وطاعة رسوله صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
فإنَّ تلك سعادةٌ لا تعدلها سعادة .
ولو يعلم الشَّقِيُّ ، ولو كان أغْنَىٰ النَّاس بما يشْعرُ به ، مَنْ التزم بدينه مِنْ سعادةٍ تَغْمُرُ قلبه بالخير ،
والتُّقىٰ ، ومُحبَّة الخير ، والاجتهاد في طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ ،
لو يعلم ما في ذٰلك مِنَ الخير ، لجالد عليه بالسَّيْف .
كما جاء ما يدلُّ علىٰ هٰذا المعنىٰ فِي كلام كثيرٍ مِنَ السَّلف .
ولذٰلك فإنَّ الدِّين هو حصن الحصين ، والرُّكن الرَّكين الَّذي يحفظ الله به المرء ،
ويَعْصِمه به مِنْ آفات الدُّنيا والآخرة .
فإذا عرفنا إنَّ الدِّين المقصود هنا هو الإسلام ، وهو ما يدين العبد ربَّه به ،
مِنَ الاسْتقامة علىٰ طاعته ، وعمل بما يُرضيه ، والْبُعد عن مساخطه ، وامْتثال أمره ،
واجْتناب نهيه ، فإنَّ هٰذا هو سبب العِصْمة ، والسَّلامة ، والْخير ، فِي الدُّنيا وفِي الآخرة .
وقوله : « الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي » ، يدلُّ علىٰ معانٍ عديدة :
• فيه العِصْمَةُ مِنَ الزَّلل ، والذُّنوب ، والآثام ، والبِدع ، والخُرافات .
• فيه عِصْمَةُ النَّفسِ ، والْمَالِ ، والْعِرضِ ، والْعقل .
• فيه عِصْمَةُ الْبَدن وسَلامته ، مِنَ الآفاتِ والشُّرور .
• فيه السَّعادةُ ، كُلُّ السَّعادة ، فِي الدُّنيا ، وفِي الآخرة .
وكيف يكون عِصْمَةً لهُ ؟
يكون عِصْمَةً لهُ فِي أمر دُنْياهُ وآخِرته ، إنْ هُو طَبَّقَهُ واسْتَقامَ عَلَيْه ، بأن يحفظه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ ،
ويَكْلَأَ ، ويرعاه ، ويوفّقه لعمل الخير ، ويبعدهُ عن كلِّ ما يُخالف ذٰلك .
* العِصْمَةُ أيضاً من معانيها : السَّلامة ، والْكَلَاءَتُه ، والرِّعاية .
« الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي » ، يَعْصِم الله به أمْرَنَا بأنْ يَحفظنا به إلىٰ أنْ نلقاهُ سُبْحانَهُ وَتَعَالَىٰ ،
ونحن علىٰ ذٰلك ، نسأل الله أنْ يُحقِّقَ لنا ذٰلك .
يقول رسُول الله صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّىٰ يَشْهَدُوا : أَنْ لَا إِلـٰهَ إِلَّا الله ،
وأَنِّي رَسُولُ الله ، فإِذَا فَعَلُوا ذٰلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ ، وَأَمْوَالَهُمْ ، وَحَسَابَهُمْ عَلَىٰ اللهِ جَلَّ وَعَلَا » (3) .
فانْظر يا عبد الله !
إلىٰ الدِّين ، والْمُسْتَقِيمينَ عليه ، ومُطَبِّقين لأوامر اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ ، والممتثلين لنواهيه ،
كم يحفظهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ مِنْ أُمُورٍ عظيمة ؟.
قالَ النَّبِيِّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَبْر الأُمَّة وتُرجمان القُرآن عَبْدِ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا :
« يَا غُلَامْ ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ : اِحْفَظِ اللهَ ؛ يَحفَظُكَ ، اِحْفَظِ اللهَ ؛ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ،
تَعَرَّفْ إِلَىٰ اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفُكَ فِي الشِّدَّةِ ، إِذَا سَأَلْتَ ؛ فَاسْأَلِ اللهَ ، وَإِذَا اِسْتَعَنْتَ ؛
فَاسْتَعِنْ بِاللهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اِجْتَمَعُوا عَلَىٰ أَنْ يَنْفَعُوكَ لَنْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بأَمْرٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ ،
وَلَوِ اِجْتَمَعُوا عَلَىٰ أَنْ يَضُرُّوكَ لَنْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بأَمْرٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ ، جَفَّتِ الأَقْلَامُ وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ » (4)
فِي الدِّين عِصْمَةٌ لك مِنَ الشِّرك ؛ والوقوع فيه ، لأنَّ المسلم إذا عرف التَّوحيد وحقَّقه ،
سَلِمَ ممَّا يُضادُّهُ ، وهو الإشراك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ .
* فِي الاِسْتقامة علىٰ الدِّين وتحقيق التَّوحيد الأمنُ فِي الدُّنيا والآخرة .
قالَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ : ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ
لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴾ ( الأنعام : 82 ) .
فَالظُّلم هنا : الشِّرك ؛ لأنَّ مَنْ عرف الدِّين وطبَّقه سَلِمَ مِنَ الشِّرك .
الظُّلم الأكبر هو : الشِّرك .
كما قالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ : ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ ( لقمان : 13 ) .
ولذٰلك لَمَّا قالَ أبو بكر ، ومَنْ معه مِنَ الصَّحابة عندما نزلت هٰذه الآية ، قالوا :
وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمَ نَفْسَهُ يَا رَسُولُ الله ! فقالَ النَّبِيُّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
« لَيْسَ هُوَ ذَاكَ - لَيْسَ هُوَ الظُّلْمَ الَّذِي تَعْنُونَ - الظُّلم المقصود به هُنَا هُوَ : الشِّرْك » .
ألا ترىٰ إلىٰ قول العبد الصَّالح : ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ ( لقمان : 13 ) (5) .
وقد فسَّر النَّبِيُّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذٰلكَ بِبيان أنواع الظُّلم الثَّلاثة ، فأخبر أنَّ الدَّواوينُ الثَّلاثة (6) .