يا لها من قصيدة دامية تحكي حال أحد الناجين من ركاب عبَّارة الموت ...
أصارعُ في الأمواج خوفي ورَهْبتي **** وأسأل رَبِّي أنْ يفرِّج كربتي
أرى الموتَ من كلِّ الجهات يحيط بي **** فأغمض من هول المصيبة مقلتي
سأروي لكم بعض الذي كان، إنها **** لأعجبُ مأساةٍ، وأغربُ قِصَّةِ
وقفنا على عبَّارة الموتِ بُرْهةً **** لنا اللهُ من أقسى وأطولِ بُرْهةِ
نظرتُ إلى أهلي، فَدَيْتُ عيونهم **** تبادلني بالحزنِ أعمقَ نظْرةِ
فكان حديثاً بالعيون محمَّلاً **** بحزنٍ وآلامٍ وإحساسِ فُرْقَةِ
وقفنا سوياً وقفةً لو وصفتُها **** لأعجزني وصفٌ لأقصرِ وقْقةِ
وما هي إلا لحظة طار بعدَها **** صوابي وإحساسي وعزمي وهمَّتي
تهاوى مئاتُ الناس من كل جانبٍ **** إلى البحر تمضي فِرقةً بعد فِرقةِ
قَفَزْتُ مع الأحباب قَفْزةَ هاربٍ **** يُواجه ما يَلْقى بذهنٍ مُشتَّتِ
إلى أين؟ لا أدري إلى أين، إننا **** نَفرُّ إلى موجٍ وحوتٍ ولُجةِ
تلقَّفنا الموجُ الرهيب، فلا أبي **** رأيتُ ولا أُمِّي الرَّؤُوم، وإخوتي
صرختُ وكرَّرتُ النداءَ فلم أجد سوى **** صرخاتِ الموج تلطم صرختي
وأصبحتُ وحدي في الخِضمِّ يَهُولُني **** من البحر ما يقضي على كلِّ فَرْحةِ
فمن سابحٍ مثلي بطوق نجاته **** ومن شاخص العينين حولي وميِّتِ
ومن رافعٍ إحدى يديه ملوِّحاً **** تخطَّفه موجٌ فألْهبَ حسرتي
سبحنا سويّاً ساعةً من جراحنا **** فكان أنيسي في غياهبِ ظُلْمتي
فلما تراخى عزمُه غاص واختفى **** فللهِ ما عانيتُ من جَوْر وحشتي
أمامي طواه الموج والموت وانتهى **** أمامي غريقاً مُشْعلاً نار زفرتي
تَلَفتُّ، ما أقسى تلفُّتَ خائفِ **** تراقبه المأساةُ في كلِّ لَفْتةِ
تلاقى أمامي الليل والبحر والأسى **** وموجٌ يُريني هَجْمةً إثْر هَجْمةِ
فلا تسألوا عن خنجر اليأس طاعناً **** صمودي وصبْرَ القلب أسْوأ طَعْنةِ
أقوِّي فؤادي بالرجاء هُنيْهةً **** فلما يثور البحر تنهار قوَّتي
أحدِّث نفسي بالنَّجاة فأنتشي **** وفي لمْحةٍ تُنهي المعاناة نَشْوتي
نسيتُ - وربِّ الموج - معنى سعادتي **** ومعنى رضا قلبي وأُنْسي وبسمتي
تلاشتْ معاني الوقت والعمر وانتهتْ **** حكاية أحلامي وآفاقُ رغبتي
وأصبحت الدنيا كحُلمٍ بلا مَدَى ****وهان أمام الموت علمي وثروتي
ألا بئسما هذي الحياة ولهوها **** وبئس بلهوي في الحياةِ وغفلتي
ألا ما أشدَّ الموت صوتاً وصورةً **** تراءتْ لعيني منه أعجبُ صُورةِ
هنا صار ذكرُ الله أعظم ثروةٍ **** وقيمةُ تقْوى الله أعظم قيمةِ
أقول، وقد شاهدتُ ما لم أكنْ به **** محيطاً، وقد واجهتُ أعظمَ صَدْمةِ
ألا ليت أهلَ البغْي في الأرضِ لامسوا **** من البحر والأمواج سرَّ المنيةِ
فيا ربَّما عادوا إلى الحقِّ عَوْدةً **** وتابوا إلى الرحمن أجملَ تَوْبةِ
نعم ، إنَّها عبَّارة الموتِ لم تزْل **** تحرِّك في قلبي شجوني ولوعتي
أحاط بها الإهمال من كلِّ جانبٍ **** فصارت كسَيْفٍ للحقيقة مُصْلتِ
مَنِ القاتلُ الجاني؟ سؤالٌ معلَّقٌ **** على بابِ إنصافٍ وعدْلٍ وحكمةِ
رُكامٌ من الإهمالِ ما زال جاثماً **** بما فيه من سوءٍ على صَدْرِ أُمتي
نعم، إنَّها عبَّارةُ الموتِ حوَّلتْ **** حياتي إلى حزنٍ وشوقٍ ودَمْعةِ
أراها بعين الحزن في كل نظْرةٍ **** توجِّهها عيني، وفي كلِّ غَمْضةِ
وتسمعها أذني صَريراً وضَجَّة **** وطقْطَقَةً تُوحي بأعظم نَكْبةِ
ولولا يقيني بالإلهِ، وأنَّها **** مقاديرُ تجري في زمانٍ مُؤقتِ
لطال بقلبي في الأنين مقامُه **** وطالتْ على درْب الجراحات غُرْبتي
عزائي لكم يا مَنْ فقدتم أحبَّةً **** كفقدي أمامَ العينِ أغلى أحبتي
عزاءَ مُحِبٍ، صُورةُ الهولِ لم تَزَلْ **** تلاحقه في كل نومٍ وصَحْوةِ
أقول لكم، والبحر ساقَ دليلَه **** على الموت في أجلى وأوْضحِ عِبْرةِ
رِضانا بما يقضي الإله دليلُنا **** إلى راحةٍ كُبرى وعَفْوٍ وَرَحْمَةِ
شعر : عبد الرحمن صالح العشماوي