بسم الله الرحمن الرحيم
حين يكون السوق ملاذا للمرأة !!!
كان أبو العبَّاس السفَّاح يومًا مشرفًا على صحن داره، ينظرها ومعه امرأته، فعبثت بخاتمها فسقط من يدها، فألقى السفَّاح خاتمه، فقالت:يا أمير المؤمنين ما أردت بهذا؟ قال: خشيت أن يستوحش خاتمك فآنسته بخاتمي، غيرة عليه لانفراده!!
قد تكون هذه القصَّة القصيرة مثار استغراب لنا، من الجمع الروح الدعابيَّة والمبالغة العجيبة في غيرة هذا الخليفة على زوجته.
وفي المقابل تحدِّثني إحدى القريبات الداعيات عن نساء (خرَّاجات ولاَّجات) تعرفهنَّ يقوم أزواجهنَّ بـ(رميهنَّ) -عفوا- (إنزالهنَّ) إلى الأسواق وقت ذهابهم للعمل في الفترة المسائيَّة ويجلسن الساعات الطوال؛ ليتجوَّلن تلك الزوجات في السوق، ومن ثمَّ يمرُّ عليهن أزواجهنَّ بعد أن لففن النساء ودرن وهلكن تمشيًا في السوق الحبيب إلى القلب!
إنَّها مفارقة بين قصَّتين، نجد فيها مستوى الرجال وغيرتهم على زوجاتهم، وقصتنا الأخيرة لم تقع مرَّة واحدة بل إنَّها تتكرَّر في بعض المجتمعات -وخصوصًا الخليجيَّة-، وتقع حوادثها يوماً بعد يوم، بشكل لافت للنظر؛ حتَّى إنَّ بعض النساء صرن يجعلن هذه الأسواق مكان اجتماع لهنَّ للحديث والضحك، وإني لأتساءل:
- ما الذي يستفيده الرجل في إنزال المرأة إلى السوق كلَّ هذه الفترة؟!
- ألا يخاف الرجل على زوجته من أن يزيِّن الشيطان لها السوء فتخونه بالوقوع في الحرام؟!
- إن كانت المرأة تظنُّ أنَّها عصيَّة على الوقوع في حبائل الفساد؛ ألا تعلم أنَّ النفس أمَّارة بالسوء، وأنَّها قد تنحدر وهي لا تعلم إلى براثن الرذيلة؟!
- ألا يعلم الرجل أنَّ هناك ذئابًا يترصَّدون النساء لإيقاعهنَّ في المخططات المرسومة لهنَّ؟!
- ما معنى كلمة الغيرة عند الرجال؟ وكيف يفهم الرجل هذه المعاني في هذا الزمن؟!
- ما الفائدة التي ستجنيها المرأة وقت نزولها للسوق وتجوالها تلك الساعات الطوال وهي بمفردها في كل يوم؟!
إنَّها أسئلة تعبِّر عن مدى المأساة التي تعيشها بعض بيوتات المسلمين.
لقد تعجَّبت حين سمعت ذلك الخبر من تلك المرأة الداعية، وقلت في نفسي: كيف وصلت الأمور لهذه الدرجة حين تقود النسوان الرجال، وليس للرجال إلاَّ الموافقة على أقوالهنَّ والالتزام بأوامرهنَّ.
أضف على ذلك عندما تتحقَّق المأساة وقت خروج المرأة من بيتها متجمِّلة ومتعطِّرة ومتزينة، تلك الساعات الطوال؛ لتذهب إلى ذلك السوق، وتحادث البائع الفلاني، وتسأله، وليس قصدها إلاَّ الدردشة والحديث والفُرْجة؛ لأنَّها بالطبع لم تذهب لتشتري، وإنَّما ذهبت لتتمشَّى وتتجوَّل.
لا أدري كيف لم تفهم المرأة، إن لم يكن يفهم الرجل قوله -تعالى-: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى** [الأحزاب: 33]؟! فالمعنى من هذه الآية واضح، وهو أنَّ المرأة مأمورة بالقرار في بيتها، فإن خرجت وكان خروجها لضرورة، أو لحاجة فلتخرج، ولكن لا تتبرَّج وتتجمَّل في خروجها كما يفعل أهل الجاهليَّة، أو تخرج لغير قصد أو حاجة!
وكم من الآيات والأحاديث التي أتت وحثَّت المرأة على البعد عن مخالطة الرجال الأجانب! بل أتت الآيات بأن يكون الحديث من وراء حجاب وستار، حتَّى لا يطمع الذي في قلبه مرض الشهوة؛ فيقع أو تقع المرأة في الحرام... ولات ساعة مندم! فالله -تعالى- يقول: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ** [الأحزاب: 53].
ثمَّ كيف يكون للمرأة مجال بأن يكون لها القوامة على الرجل؛ فهي التي تأمره أن يخرجها من بيتها التي أُمِرَت بالقرار فيه، بل كانت نسبة البيت للمرأة ألصق بها من نسبة البيت لصاحبه وهو الرجل، وقال العلماء في ذلك كلامًا جميلًا منه: أنَّ إلصاق وصف البيت للمرأة ونسبته لها أكثر من نسبته للرجل؛ وذلك لأنَّ المرأة مأمورة بالقرار في بيتها، وأنَّ مكثها في البيت أكثر من مكث الرجل في بيته، فللرجل الخروج لكسب العيش، وللمرأة المكث في البيت لتربية الأولاد، وإصلاح شؤون البيت، وتهيئة المقام للزوج قبل مجيئه من العمل.
أمَّا الزوج الذي أتت الشريعة بأن تكون له القوامة على المرأة، وأنَّ المرأة ينبغي أن تكون مطيعة لأمره إن لم يخالف شرع الله -نجده في هذا الزمان قد تغيَّر حاله -وللأسف-! عن وصف الشريعة له بأنَّه قوَّام على المرأة وقائم بحقوقها! فقد قال -تعالى-: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ** [النساء: 34] وصار الزوج -وللأسف- هو المأمور من قِبَلِ المرأة!
بأي دين أتى ذلك؟ بل بأي حجَّة يجوز ذلك؟! ولأي مصلحة تخرج متجمِّلة ومتعطِّرة؟! ولمن تتجمَّل هذه المرأة حين تخرج للسوق؟! ألا يسأل الزوج -الذي يغار على زوجته- نفسه تلك الأسئلة؟! ويجيب عنها بصدق وموضوعيَّة!
لقد أوضحت الأحاديث أنَّ السوق مكان ينصب الشيطان فيه رايته، وأنَّ السوق أبغض البقاع إلى الله؛ فقد جاء في الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها» [أخرجه مسلم].
وعن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- موقوفًا، قال: «لا تكونَّن إن استطعت أول من يدخل السوق، ولا آخر من يخرج منها، فإنَّها معركة الشيطان ، وبها ينصب رايته» [أخرجه مسلم في الصحيح برقم 2451].
وعن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تكن أول من يدخل السوق، ولا آخر من يخرج منها، فيها باض الشيطان وفرخ» [أخرجه أبو بكر البرقاني، المحدث: الهيثمي، في الراوية القاسم بن يزيد فإن كان هو الجرمي فهو ثقة وبقية رجاله رجال الصحيح].
وقال ميثم، رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: بلغني أنَّ المَلَك يغدو برايته مع أول من يغدو إلى المسجد فلا يزال بها معه حتى يرجع فيدخل بها منـزله، وإن الشيطان ليغدو برايته مع أول من يغدو إلى السوق. قال ابن عبد البر: وهذا موقوف صحيح السند.
وحين استعرض الإمام القرطبي شيئًا من هذه الأحاديث المذكورة، قال في تفسيره عند آية: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ .....** [الفرقان: 7]، قال: "ففي هذه الأحاديث ما يدل على كراهة دخول الأسواق، لا سيما في هذه الأزمان التي يخالط فيها الرجال النسوان." فماذا نقول نحن في زمننا هذا؟!
وقال -يرحمه الله- عن النساء الذاهبات الرائحات إلى تلك الأسواق مستنكرًا عليهنَّ فعلهنَّ: "فإنَّ -الأسواق- مشحونة منهن، وقلة الحياء قد غلبت عليهن، حتى ترى المرأة في القيساريات وغيرهن قاعدة متبرجة بزينتها، وهذا من المنكر الفاشي في زماننا هذا. نعوذ بالله من سخطه".
ومن خلال ما سبق ذكره نعلم يقينًا أنَّ السوق لم يكن لدى أهل العلم والصلاح والديانة مكانًا للرواح والذهاب والإياب، بل كان مكانًا يشتري منه المرء حاجته، ثمَّ يغادر منه؛ لأنَّهم يعلمون أنَّ السوق: "مكثرة للمال مذهبة للدين" كما كان يقول مالك بن دينار -رحمه الله-، بل كان عمرو بن قيس إذا نظر إلى أهل السوق بكى وقال: "ما أغفل هؤلاء عمَّا أعدَّ لهم!".
فأين هؤلاء العظماء من زمنٍ صار فيه الشعار يرفرف في فضائياتنا ووسائل إعلامنا أن: هيَّا إلى (متعة التسوق)! فأي متعة في مكان ينصب الشيطان فيه رايته، ويبيض ويفرِّخ فيه؟ وأي متعة في مكان هو عند الله -تعالى- أبغض الأماكن إليه؟ ولهذا حينما علَّق الإمام النووي على قوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «أبغض البلاد إلى الله أسواقها» [رواه مسلم]، قال: "لأنَّها محل الغش والخداع والربا والأيمان الكاذبة وإخلاف الوعد، والإعراض عن ذكر الله ...، وغير ذلك ممَّا في معناه".
فعجبًا ممَّن فضَّل أبغض البلاد إلى الله على أحبِّها إليه وهي المساجد! وعلى من فضَّل أسوأ الكلام إليه -تعالى- من (أغاني الحب والغزل الفاحش مع الطرب والرقص والموسيقى) على أحب الكلام إلى الله وهو كتاب الله (القرآن الكريم)!
ولو تأمَّلنا هذه القضيَّة سنجد أنَّ من كان محبًا للأسواق وذاهبًا لها بلا حاجة، بل للدردشة أو التطلع للغادي والرائح وغير ذلك من توافه الأمور، نجده متلازمًا مع من يحب الاستماع إلى الموسيقى والكلام الفاحش، والعكس بالعكس؛ فنجد أهلَ القرآن، وهم أهل الله وخاصَّته، هم أهل المساجد والطاعة والعبادة، وشتان شتان!
وقد تدَّعي المرأة أنَّ جلوسها في بيتها يسبِّب لها (الطفش) والسآمة، ولا أدري ما سبب ذلك، إلاَّ لكثرة حديث النساء عن الذهاب للسوق ولما تراه المرأة من الدعايات المروجة لأماكن التسوق، فتظن المرأة أنَّ بهذا السوق متعة وسعادة، وحقيقته الدخول لأماكن الفسق والفساد وخصوصًا في هذا الزمان، والله المستعان.
وأمَّا من ادَّعت بأنَّها تشعر بالملل و(الطفش)، ولا أظن ذلك يحدث وإن حدث فإنَّما هو من توهيمات الشيطان ليزيِّن للمرأة طرقه ومكان بضاعته، ويجرها لأبغض البقاع إلى الله؛ فالمرأة المسلمة العفيفة تعلم أنَّ هناك بدائل طيبة ومخارج حسنة حين تود أن تبعد عن نفسها روح الملل والسآمة... فيُقَال لمن قالت: إنِّي أشعر بالملل و(الطفش) اذهبي لدور تحفيظ القرآن، أو اجتمعي مع النساء الصالحات لتتذاكرن في مسألة، أو تتكلَّمن فيما يفيدكنَّ من أمور دينكن ودنياكنَّ بالكلام المباح الذي لا يفضي إلى الحرام. وطرق استغلال الوقت عديدة جدًا، والموفق من وفقه الله.
ولقد كان من فقه وفطنة أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه مر بسوق المدينة فوقف عليها، فقال: يا أهل السوق، ما أعجزكم! قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُقْسَم وأنتم هاهنا! ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين هو ؟ قال في المسجد، فخرجوا سراعًا ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: ما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نرَ فيه شيئا يقسم! فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحدًا؟ قالوا: بلى! رأينا قومًا يصلون، وقومًا يقرؤون القرآن، وقوما يتذاكرون الحلال والحرام... فقال لهم أبو هريرة: ويحكم! فذاك ميراث محمد -صلى الله عليه وسلم-. [أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب برقم2093، وسنده حسن].
وخلاصة القول:
ينبغي أن يفهم وجه ما أقوله، أنَّ ذهاب المرأة بتلك الحالة التي وصفتها آنفًا أمر محرَّم، ويُخشى عليها من ذئاب البشر، ولا تستفيد إلاَّ ضياع الوقت، وذهاب العمر بما لا فائدة منه. وينبغي أن يعلم الرجل أنَّ القوامة له وليست لزوجته سواء في بيته أو خارج بيته، وأنَّه راعٍ ومسؤول عن رعيَّته، وأنَّ خروج المرأة لأماكن الاختلاط التي يعمُّ فيها الفساد أمر محرَّم شرعًا، وخصوصًا في هذا الزمن الذي كثر فيه الفساد وانتشر فيه ذئاب البشر، يسقط لعابهم حين يرون امرأة غافلة ينصبون لها الشباك لتقع في الفخ.
وأمَّا إذا كان الزوج لا يقدر على زوجته، وكانت هي التي تقوده لتلك الأماكن وتطلب منه، وما عليه سوى التنفيذ، فإنَّه لا يُقَال في زمن تنمَّرت فيه المرأة على زوجها إلاَّ: على هذا الزمن السلام والعفاء، الذي صلَّت المرأة فيه على زوجها صلاة الجنازة لموت الغيرة والشهامة والمروءة من قلبه!
موقع الألوكة