الوفاء كلمة رقيقة تحمل معاني عظيمة، فهي تعني الإخلاص والتضحية والبذل والعطاء والبعد عن الغدر والخيانة ونقض العهود والوعود والمواثيق.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوفى الناس وأخلصهم، وفاء مع ربه، ووفاء في عبوديته، ووفاء مع الناس من حوله، صغارهم وكبارهم، مسلمهم وكافرهم، ووفاء مع عمه وأبيه وأمه ومع أصحابه وزوجاته.
ميثاق الذر
أما عن وفائه مع ربه تعالى فلقد وفى أعظم الوفاء، ولم لا وربه تعالى يقول: “وبعهد الله أوفوا”. ويقول: “ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم”. وكذلك فقد أخذ الله على آدم وذريته ميثاقا عرف بميثاق الذر فقال سبحانه وتعالى: “وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون”.
لقد وفى صلى الله عليه وسلم مع ربه تعالى في عبوديته، فكان يلجأ الى ربه في دعائه ورجائه وكان يقول: “أفلا أكون عبدا شكورا”. ويقول يوم أحُد: “حسبنا الله ونعم الوكيل”. ويتعبد ربه تعالى بعبادة التفكر في آلائه الجسيمة وآياته العظيمة. ويقول لعائشة رضي الله عنها: “ذريني أتعبد لربي عز وجل..”.
وفي غار ثور بلسان يحذوه الأمل، وبقلب يملؤه اليقين، يقول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: “يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا”. إنه وفاء المتعبد الزاهد المطمئن بوعد الله جل في علاه.
ذكرى خديجة
وأما عن وفائه مع الناس فقد تعددت صوره وأشكاله وفاق وفاؤه لزوجاته كل تصور، فها هو يعيش مع خديجة رضي الله عنها حياة ملؤها الحب والوفاء، فلما ماتت كان أعظم وفاء لها صلى الله عليه وسلم.
أخرج البخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت: “ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق - أي صديقات - خديجة، فيُهدي في خلائلها منها ما يسعهن، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: “إنها كانت وكانت، وكان لي منها الولد”، إنه الوفاء النادر الذي لم تعرف البشرية له مثيلا.
كيف لا يفي لها، وهي التي واسته بمالها، وكانت أول من صدّقه، وهي التي ثبّت الله عز وجل بها فؤاده، وقوّى عزيمته، فكانت البلسم الشافي لآلامه وأحزانه.
وتقول عائشة رضي الله عنها: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكن يسأم من ثنائه عليها واستغفاره لها، فذكرها يوماً، تقول: فحملتني الغيرة، فقلت: لقد عوّضك الله من كبيرة السن. قالت: فرأيته غضب غضباً، أسقطت في خلدي، وقلت في نفسي: اللهم إن أذهبت غضب رسولك عني لم أعد أذكرها بسوء. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقيت، قال: كيف قلت؟ والله لقد آمنت بي إذ كذبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، ورُزقت منها الولد، وحُرمتموه مني، قالت عائشة: فغدا وراح عليّ بها شهرا”.
شهر كامل يروح ويغدو على عائشة في شأن خديجة، مع أنها قد ماتت وفارقته لكنه لا يرضى أبداً أن يكلمه أحد في تذكره لها، وحفظه ورعايته لعهدها، وعشرتها التي كانت بينهما في سالف الأزمان، فكان لا ينساها، ولا ينسى بر أهلها.
ومرة استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة عليه صلى الله عليه وسلم، فتذكر خديجة لشبه الصوت بينهما، قالت عائشة: فارتاع لذلك - أي فزع - وفي رواية: “فارتاح لذلك، فقال: “اللهم هالة” أي اللهم اجعلها هالة، وعائشة تنظر لهذا التغير في النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: فغرت، وقلتُ: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش، حمراء الشدقين، قد سقطت أسنانها، وقد أبدلك الله خيرا منها، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، فعرفت عائشة وقالت: والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير”. وقالت عائشة رضي الله عنها: “جاءت عجوز الى النبي صلى الله عليه وسلم فأحُسن استقبالها، فقال لها: “كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟) قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلما خرجت قلت: يا رسول الله تُقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: “يا عائشة إنها من صويحبات خديجة، وإنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حُسن العهد من الإيمان”.
الوفاء للعهود
وأما عن وفائه مع خصومه وأعدائه، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحافظ على عهوده ووعوده ومواثيقه مع الناس، وإن كانوا من غير المسلمين.
وفي صحيح مسلم قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: (ما منعني أن أشهد بدراً أنا وأبي إلا أننا قد خرجنا فأخذنا المشركون فقالوا لنا: أتريدون محمداً؟ قلنا: لا بل نريد المدينة، فأخذ المشركون علينا عهد الله وميثاقه أن ننصرف الى المدينة. وألا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانطلقت أنا وأبي الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه، فقال: “انصرفنا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم”)._
منقول...