العين
فضيلة الشيخ " زيد بن مسفر البحري "
أما بعد ، فيا عباد الله :
تحثنا في الجمعة الماضية بإمرارة سريعة عن أمور وعن قضايا تتعلق بـ"العين " وإليكم تتمة لما توقفنا عنده في الجمعة الماضية .
العين كما أسلفنا حق ، وقد ثبت في الصحيحين قوله عليه الصلاة والسلام : " إن العين حق "
وجاء عند مسلم : " العين حق ، ولو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين "
ثم لو قال قائل : من ظاهر هذا الحديث أن هناك أشياء ربما ترد قضاء الله وقدره .
ونقول : إن هذا المفهوم ليس على واقعه ، وإنما هذا الحديث يُفهم من ظاهره – كما قال القرطبي رحمه الله : أنه لو كان هناك شيء له قوة يكمن أن يرد قضاء الله جل وعلا وقدره لكان العين ، فلما لم تكن فغيرها من باب أولى .
ولْتعلم أن العين نوعان :
عين إنسية وعين جنية
كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه " زاد المعاد " فكما أن الإنس يعينون فكذلك الجن ربما يصيبون الإنس بالعين .
ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جارية وفي وجهها سعفة ( يعني لون يخالف لون وجهها ) فقال عليه الصلاة والسلام : " استرقوا لها ( أي ارقوها ) استرقوا لها فإن بها النظرة " ( أي أصابتها عين جنية ) .
والعين – عباد َ الله – لها مخاطرها العظيمة ، وآثارها الكبيرة ؛ ولذا جاء عند " البزَّار " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين "
وجاء في المسند قوله عليه الصلاة والسلام المُبَيِّن لأثر عظيم كبير من آثار العين ، قال عليه الصلاة والسلام : " إن العين لَتُولَع بالرجل بإذن الله حتى يصعد حالقا ثم يتَرَدَّى منه "
معنى هذا الحديث :
أن العين ربما تصيب الإنسان ، وتؤثر فيه فيصعد الجبل من قوة تأثيرها ثم يتردى منه لشدة تأثير العين عليه .
وجاء عند أبي نعيم في " الحلية " وحسنه الألباني رحمه الله قال عليه الصلاة والسلام : " إن العين لتدخل الرجل القبر ، وتدخل الجمل القدر "
وهذا يدل على : أن العين ربما تقضي على حياة الإنسان .
والعين – عباد الله – ليست وليدة هذا العصر ، أو ليست موجودة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فحسب ، بل هي قديمة ؛ ولذا قال عز وجل : {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ **
فقوله عز وجل : {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ{
يدل على أن لها سابقة ، بل هي أقدم فأقدم ، فهي في عصر " إبراهيم " عليه الصلاة والسلام .
ويدل لذلك ما جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعود ابني ابنته الحسن والحسين ، فيقول : (( أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامَّة ، ثم قال : " كان يعوذ إبراهيم عليه الصلاة والسلام ابنيه إسماعيل وإسحاق بهذه التعويذات )) .
فقوله عليه الصلاة والسلام : " من كل شيطان وهامة "
الهامة : هي ذوات السموم
" ومن كل عين لامة " هي ما لمّ وقرب من العين لشدتها ،
ومما يؤكد هذا ويقرره من أنها قديمة ، بل ورثها - أي ورث هذا العلم – ورثها يعقوب عليه الصلاة والسلام عن آبائه وأجداده إسحاق وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام .
قال عز وجل في سورة يوسف مخبرا عن قصة يعقوب لما قال لبنيه: ((لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ))
وذلك كما قال ابن كثير في التفسير : لما جهّز يعقوب أبناءه مع أخيهم " بنيامين " للذهاب إلى مصر منعهم أن يدخلوا من باب واحد ، وأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة "
قال ابن عباس رضي الله عنهما : " خاف عليهم من العين ؛ وذلك أنهم كانوا في منظر حسن ، وبهاء جميل "
ثم لما كانت العين لا ترد قضاء الله جل وعلا قال يعقوب عليه الصلاة والسلام : ((وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ)) ـــــ لم ؟
لأن أمر الله، قضاء الله، قدر الله لا حائل ولا مانع دونه لا راد لقضاء الله جل وعلا
ولذلك قال : ((وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ))
والحاجة التي في نفس " يعقوب " هي دفع الإصابة بالعين ، كما ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله .
وهذه العين يقال إنها كانت في بني أسد في الجاهلية حتى إن الرجل كان لا يأكل يومين أو ثلاثة أيام ، فربما تمر عليه الإبل ، وتمر عليه النوق ثم يعينها فتسقط هالكة .
ولذا كان هذا الرجل الذي كان يجوِّع نفسه أياما طلبت منه قريش لشدة عداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم أن يعينه .
ولذا لما مرّ عليه الصلاة والسلام قال هذا الرجل :
قد كان قومك يحسبونك سيدا
وأخال أنك سيد معيونُ
بل ذكر القرطبي رحمه الله أن الرجل إذا مرّت به البقرة السمينة ، أو الناقة السمينة فينظر من الخباء ثم يقول لجاريته : خذي الدرهم والمكتل فأتنا بلحم هذه الناقة ، فما تمر حتى تبرح هالكة .
بل ذكر القرطبي رحمه الله في تفسيره عن الأصمعي أنه قال :
" رأيت رجلا عيونا فسمع بقرة تُحلب ، فقال : ما هذه البقرة ؟ فخافوا عليها من عينه ، فقالوا : بقرة أخرى ، حتى لا يصيبها بعينه ، فقال الأصمعي : فهلكت المُوَرَّى بها والمُورَّى عنها .
إذاً العين لها أثرها الكبير .
ولذا نبينا نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام أوصانا بأن نستعيذ بالله جل وعلا من شر العين
ثبت عند ابن ماجة أنه قال عليه الصلاة والسلام :
(( استعيذوا بالله من العين ، فإن العين حق ))
ثم إن أفضل ما يتحصن به المسلم مع هذا الدعاء .
أفضل ما يتحصن به المسلم من العين " التعويذات "
وأفضل التعويذات " المعوذتان "
جاء في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من الجن وعين الإنسان ، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما ، وترك ما سواهما .
وأيضا من التعويذات :
" أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق "
ومنها :
" أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة "
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه " زاد المعاد " معلقا على هذه الأذكار ، وعلى هذه التعويذات ، قال : " من جرَّبها عرف قدرها وشدة الحاجة إليها ، فهذه العُوذ تمنع وصول أثر العائن إلى الإنسان ، وتمنع أو تدفع وترفع إذا وقع في الإنسان شيء من آثارها "
ثم قال : " وذلك بحسب قوة قائلها وثبات قلبه ، ورسوخه ، واستعداده ، وقوة توكله على الله جل وعلا ، فهذه الأذكار والعُوَذ سلاح ، والسلاح بضاربه "
مراده رحمه الله :
" أن الإنسان ربما كان يقول هذه التعويذات وهذه الأذكار ولا تفيده شيئا فالعيب ليس فيها ، إنما العيب في قائلها ، لأن هذه الأذكار وهذه الدعوات بمثابة السلاح ، والسلاح بضاربه .
قد تعطي رجلا سلاحا ، أو سيفا مسلولا فيضرب به فيحسن الضرب ، ثم تعطي هذا السيف نفسه لشخص آخر ضعيف فلا يحسن الضرب ، فالعيب ممن ؟ العيب من الضارب .
إذاً فالعيب في الإنسان ، والعيب في قلبه ، وليس العيب في هذه الأذكار .
ثم قال ابن القيم رحمه الله في شأن من عُرف بإصابة الناس بالعين، قال: " يلزم ولي الأمر أن يحبسه ، وأن يدر عليه رزقه حتى الممات ليدفع شره عن الخليقة "
وقال ابن حجر رحمه الله في الفتح : " يُمنع العائن ، ويلزم بيته ، فإن كان فقيرا أُعطي من الزق ما يكفيه ، فإن ضرره أشد ضررا من ضرر المجذوم الذي منع عمرُ رضي الله عنه أن يخالط الناس ، وإن ضرره أشد من ضرر آكل الثوم والبصل الذي مُنع من حضور صلاة الجماعة "
ثم إن هناك قضية تتعلق بالعين ، وهي :
" أن من عُرف بإصابة الناس بالعين ثم أتلف شيئا فإنه يضمن – كما قال ذلك القرطبي رحمه الله – بل إن من قتل أحدا بعينه ، قال رحمه الله : " إن تكرر ذلك منه فإنه يُقتص منه أو يُطالب بالدية "
بل قال ابن القيم رحمه الله : " إن من أصاب بعينه من غير رغبة منه فإن عليه الدية ، وإن أصابه وهو قادر على أن يدفع عينه فإنه يُقتص منه "
ومن مسائل العين :
أن على المسلم إذا رأى ما يعجبه من أخيه : " من مال ، أو نفس ، أو ولد ، أو نحو ذلك فيجب عليه أن يبرِّك ويقول : بارك الله له ، تبارك الله أحسن الخالقين .
وهذا واجب ، واجب عليه أن يقول هذا القول لما جاء في موطأ الإمام مالك أن عامر بن ربيعة لما رأى سهل بن حنيف يغتسل ، فقال عامر : ما رأيت مثل اليوم ولا جلد مخبَّأة ( يعني جارية ) مخبأة لا تخرج ، تلبَّط سهل في مكانه ، فأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، هل لك في سهل ؟ والله ما يرفع رأسه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال :من تتهمون ؟ قالوا : نتهم عامر بن ربيعة ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عامرا ثم أغلظ عليه القول ، وقال : " علام يقتل أحدكم أخاه ؟ ألا برَّكت ؟ ( أي ألا قلت : تبارك الله أحسن الخالقين ) ثم أمره عليه الصلاة والسلام أن يغسل وجهه ، ويديه ، ومرفقيه ، وركبتيه وأطراف قدميه ، ومغابنه ، وداخلة إزاره .
" والمغابن " كما في اللغة : هي الآباط ، وبواطن الأفخاذ ، ومعاقد الجسم
وأما داخلة إزاره :
فقيل : إنها الفرْج
وقيل : ما يلي الإزار من داخل الجسم
هذان قولان ذكرهما ابن القيم رحمه الله .
فإذاً يجب عليه إذا رأى ما يعجبه من أخيه أن يقول : تبارك الله أحسن الخالقين .
أو يقول : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، وإن كان الحديث الوارد فيه ضعيفا لكن يؤيده قوله عز وجل : ((وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ))
وكان بعض كبار التابعين إذا رأى شيئا يعجبه قال : ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله .
أما حديث : " اللهم بارك فيه ، ولا تضره " فإنه حديث ضعفه شيخ الإسلام رحمه الله ، والألباني .
أما علاج العين :
فإن من أنفع علاجها : " الرقية "
ولذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي ذُكر في صدر هذه الخطبة ، قال عليه الصلاة والسلام في الصحيحين : (( استرقوا لها ؛ فإن بها النظرة ))
وجاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسترقي من العين "
وقالت أسماء بنت عُميس كما في المسند قالت : يا رسول الله ، إن بني جعفر تصيبهم العين ، أفلا أرقي لهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : ((نعم ، إن العين حق ، ولو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين ))
ومن صور الرقية :
ما جاء عند مسلم : " أن جبريل رقى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : بسم الله أرقيك من كل شئ يؤذيك ، من شر كل نفس أو عين ( وهذا موضع الشاهد ) أو عين حاسد الله يشفيك ، بسم الله أرقيك "
ثم على المسلم إذا خالط إنسانا يعرف أنه يصيب بعينه عليه أن لا يذكر محاسنه وجماله حتى لا يصيبه أثر من آثار هذا العائن .
وتتمة علاج الرقية بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله تعالى .
أقول – عبد الله – ما تسمع وأستغفر الله لي ولك ، فاستغفره وتب إليه إن ربي كان توابا رحيما .
الخطبة الثانية
أما بعد فيا عبادَ الله :
من علاج الرقية :
ما قاله عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم : (( وإذا اُستغسلتم فاغسلوا )) أي ( إذا طُلب منكم أن تغتسلوا لأخيكم فلتغتسلوا )
وهذا الاغتسال واجب على العائن أن يغتسل إذا طُلب منه ؛ لأن هذا واجب عليه .
كيف يرى أخاه المسلم يتضرر، ويشرف على الهلاك ، ثم لا يساعده ؟
ولاسيما إذا كان هو المتسبب والجاني عليه .
بل قال القرطبي وابن حجر رحمهما الله ، قالا : "يُجبر على الغسل إن أبى ."
وهذا الاغتسال يكون في المغابن ، والمغابن مرت معنا هي : الآباط ، وبواطن الأفخاذ ، والعقد من الجسم ، والأطراف .
وداخلة إزاره وهي : إما الفرج ، أو ما يلي الإزار من الداخل .
قال ابن القيم رحمه الله : " وهذا مما لا يناله الأطباء ، ولا ينتفع به من أنكره ، أو سخر منه ، أو شك فيه ، أو جربه غير معتقد لنفعه "
ثم قال رحمه الله : " قد ينكره البعض "ثم علَّق فقال : " إذا كان في الطبيعة خواص ، لا يُعرف لها حكمة ،كما الذي ينكره الزنادقة من الخواص الشرعية .
ثم قال : " وكأنه جواب عن سؤال : لماذا هذا الغسل ؟ "
قال رحمه الله : " إن العقول لتشهد بنفعه ، وبثبوته وصحته "
قال : " فترياق سم الحية في لحمها وفي جسمها ، فإذا غضبت ، وتكيفت بالروح الخبيثة فإن علاج من تكيف ، وتخبّث أن توضع اليد عليه حتى يسكن غضبه ، وينطفأ ناره "
ثم قال رحمه الله : " ولما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في هذه المواضع الرقيقة أُمر بغسلها ــــــــ لم ؟
لأن هذه النار التي تخرج من روح العائن تطلب نفوذا وخروجا ، وخروجها مع هذه المواضع الرقيقة لاسيما إذا قلنا إن داخلة إزاره هي : " الفرج "
قال رحمه الله : " فإذا غُسلت هذه المواضع بطل بإذن الله تأثيرها – ثم قال : " لاسيما أن للشيطان بهذه المواضع خاصية "
ثم قال رحمه الله : " إن غسل هذه المواضع لرقتها يصل الماء إلى القلب ، " والقلب " هو موطن هذه النار الخبيثة ، ونظير ذلك إذا وصل هذا الماء إلى القلب انطفأت هذه النار التي في القلب ، نظيرها الحية بعد لسعها إذا قُتلت فإن الملسوع يجد راحة ويفرح ــــــــ لماذا ؟
لأنه تشفَّى من عدوه ، فتقوى طبيعته البشرية على الألم ثم تدفعه "
وكأنه جواب عن سؤال استوحيته من كلامه رحمه الله :
قال : " كأنه جواب عن سؤال : ما مناسبة صب هذا الماء على العائن ؟
لأنه في قصة عامر بن ربيعة لما اغتسل وغسل هذه المواطن صبّ النبي صلى الله عليه وسلم عليه .
قال الراوي : " فقام كان لم يكن به شيء "
قال رحمه الله : " مناسبة صب الماء على المعين هي مناسبة في غاية المناسبة ؛ وذلك أن هذا الماء أُطفئ به نار العائن ، ونار العائن وصلت إلى المعين ، فيتناسب أن تُطفأ هذه النار التي في المعين بهذا الماء التي أُطفئت به النار التي في العائن "
ثم قال رحمه الله : " ولأن الماء الذي يُطفأ به الحديد ( الحديد إذا أُطفئ بماء ، هذا الماء الذي أطفئ به الحديد يقول : " ذكر الأطباء أن يُصنَّع منه علاج لأمراض شتى – قال رحمه الله : " فهذا الماء لا يُستنكر أن يدخل في دواء مناسب لهذا المرض "