حقيقة الرؤيا:
ذكره ابن حجر حيث قال وقال الحكيم أيضاً( وكل الله بالرؤيا ملكاً اطَّلع على أحوال ابن آدم من اللوح المحفوظ، فينسخ منها ويضرب لكل من قصته مثلاً، فإذا نام مثل تلك الأشياء على طريق الحكمة لتكون له بشرى أو نذارة أو معاتبة، والأولى قد تسلط عليه الشيطان لشدة العداوة بينهما، فهو يكيده بكل وجه، ويريد إفساد أموره بكل طريق، فيلبس عليه رؤياه، إما بتغليطه فيها، وإما بغفلته عنه) فتح الباري (12/354).
قال ابن القيم رحمه الله في بيان حقيقة الرؤيا: إنها أمثال مضروبة يضربها الملك الذي قد وكله الله بالرؤيا ليستدل الرائي بما ضرب له من المثل على نظيره ويُعبر منه على شبهه) إعلام الموقعين (1/252).
أهمية الرؤيا:
قد يسأل سائل فيقول هل هناك حاجة للرؤيا وما وجه أهميتها ما دامت الأمور بقضاء الله وقدره؟
نقول لقد جاءت آيات من كتاب رب العالمين وكذا جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بذكر الرؤيا والدعوة إلى الاستعاذة منها.
وهذا يدل على عظمها وشرفها فكم من رؤيا صالحة كانت سبباً في هداية عاص وكم من رؤيا حسنة كانت حرزاً من الوقوع في المهلكات وإذا أردنا أن نعدد الجوانب الحسنة التي تدل على فضل الرؤيا وأهميتها لوجدنا الكثير فانظر معي إلى بعض ما جاء في القرآن:
في قوله تعالى: ( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى ) سورة الصافات، الآية: (102).فقد كانت رؤياه عليه السلام بمثابة التشريع لهذه الأمة ولذا شرع الله لنا الأضحية.
وانظر إلى يوسف عليه السلام ورؤياه تجد فيها من العجب قال تعالى في بيان فضل تعلم تأويلها.
( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) سورة يوسف، الآية: (6).
فالعلم بتأويل الرؤيا علم ممدوح شرعاً ولما كان العلم بها ممدوحاً كانت هي كذلك ممدوحة.
وانظر إلى سورة الأنفال حينما تتحدث عن غزوة بدر حيث قال تعالى لنبيه: ( إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) سورة الأنفال، الآية: (43).
فقد أرى الله تعالى نبيه أن الكفار قلة مع أن الواقع يدل على خلاف ذلك حيث كان عددهم أكثر من تسعمائة وعدد المسلمين ثلاثمائة مقاتل ومع ذلك أرى نبيه قلتهم ليكون تشجيعاً للمؤمنين وتحريضاً لهم على قتالهم ولذا قال تعالى بعد ذلك ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ) سورة الأنفال، الآية: (65).
وانظر إلى رؤياه صلى الله عليه وسلم في فتح مكة حين رآها قبل أن يفتح مكة قال تعالى: ( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ) سورة الفتح، الآية: (27).
فكانت الرؤيا بمثابة التطمين له صلوات الله وسلامه عليه ولأصحابه بأنه ستفتح لهم مكة وقد كانت كما رأى صلى الله عليه وسلم.
ولو أردنا أن نتحدث عن الرؤيا مع أنبياء الله ورسله لوجدنا فيها الكثير ولكن نريد أن ننبه على أمر مهم وهو أن رؤيا الأنبياء ليست كرؤيا سائر البشر لأن رؤيا الأنبياء وحي من الله تعالى.
أما عن أهمية الرؤيا في حق آحاد الناس فهي بمنزلة البشرى والنذارة فالبشرى لصاحبها بما ينفعه في دنياه وآخرته فإن كان على طاعة مثلا ثبت على هذه الطاعة وجاهد في المحافظة عليها وإن كان على معصية كانت الرؤيا بمثابة التخويف له من عذاب الله وسخطه وإنذاره وتحذيره من البقاء عليها فإن لم يكن فيها إلا ذلك فكفاها فضلاً وتعظيماً، فكم كنا نسمع عن أناس عصاة لا يصلون أو يتعاملون بالربا أو يؤجرون استراحتهم لأصحاب المعاصي والمنكرات وغيرهم. وكم كانت الرؤيا سبباً رادعاً في تحولهم إلى الاستقامة على طاعة الله وانصرافهم عما كانوا عليه.
وخلاصة القول في ذلك أن الرؤيا فيها من المنافع ما الله به عليم وهي من جملة نعم الله على عباده من بشارات المؤمنين وتنبيه الغافلين وتذكرة المعرضين وإقامة الحجة على العائدين قال صاحب التمهيد:
(وعلم تأويل الرؤيا من علوم الأنبياء وأهل الإيمان وحسبك بما أخبر الله من ذلك عن يوسف عليه السلام وما جاء في الآثار الصحاح فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم وأجمع أئمة الهدى من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين أهل السنة والجماعة على الإيمان بها وعلى أنها حكمة بالغة ونعمة يمن الله بها على من يشاء وهي المبشرات الباقية بعد النبي صلى الله عليه وسلم) التمهيد لابن عبد البر (24/29).
الرؤيا الصالحة وما يشرع فيها:
1- أن يعلم أنها من الله ، كما قال صلى الله عليه وسلم (إذا رأى أحدُكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره) فتح الباري (12/373).
وقال أيضاً (الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم فليتعوذ منه وليبصق عن شماله فإنها لا تضره) فتح الباري (12/373).
وإضافتها إليه إضافة تشريف وإلا فالكل من الله يعني الحلم.
2- أن يحمد الله عليها:
ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري السابق وفيه (.. فليحمد الله عليها..).
3- أن يحدث بها: وهذا ورد أيضاً في حديث أبي سعيد السابق ولكن التحدث بها ليس لكل أحد بل لا يحدث بها إلا من يحب ففي بعض الروايات (فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يخبر إلا من يحب) فتح الباري (12/368).
4- أن لا يقصها إلا على ذي رأي ولب وحكمة وعلم ونصح.
فعن أبي رزين العقيلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءاً من النبوة وهي على رجل طائر ما لم يحدث بها، فإذا تحدث بها سقطت) قال وأحسبه قال: (ولا تحدث بها إلا لبيباً أو حبيباً) صحيح سنن الترمذي - الألباني (2/260) رقم 1858.
وفي رواية أخرى (ولا يقصها إلا على وادّ أو ذي رأي) رواه أحمد (4/10) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/947).
(وادّ) بتشديد الدال اسم فاعل من الود أو ذي رأي وفي رواية أخرى (ولا يقص الرؤيا إلا على عالم أو ناصح) السلسلة الصحيحة (1/186) رقم 120 وانظره في فتح الباري (12/369).
فهذه جملة من الأدلة على أنه ينبغي على من رأى رؤيا أن لا يقصها إلا على من هو معروف بالعلم والنصح والحكمة في تعبير رؤياه ولذا قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله في بيان الحكمة في عرض الرؤيا على أهل العلم والنصح قال:
أما العالم فإنه يؤولها له على الخير مهما أمكنه وأما الناصح فإنه يرشده إلى ما ينفعه ويعينه عليه وأما اللبيب وهو العارف بتأويلها فإنه يعلمه بما يعول عليه في ذلك أو يسكت وأما الحبيب فإن عرف خيراً قاله وإن جهل أو شك سكت فتح الباري (12/369).
فنصيحتي لمن رأى رؤيا صالحة حسنة إن أراد تعبيرها فعليه أن يتحرى ويبحث عمن فيه هذه الصفات التي جاءت بها نصوص السنة فإن خالف في ذلك فقد ترك السنة وهذا تنبيه أردت أن أنبه عليه وبخاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه الرؤى والأحلام.
أما الحلم:
فله ما يخصه من أمور جاءت بها نصوص السنة المباركة تطييباً للنفوس وإذهاباً للأحزان التي قد يصاب بها المرء عند رؤيا حلم يفزعه أو يقلقه.
فمن الأمور التي ينبغي مراعاتها وفعلها لمن رأى حلماً:
أولاً: الاستعاذة من شرها.
والدليل حديث أبي سعيد الخدري السابق وفيه: (وإذا رآى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها...) سبق تخريجه
ثانياً : الاستعاذة من الشيطان.
دليل ذلك حديث أبي قتادة وفيه (.. والحلم من الشيطان فإذا حلم أحدكم فليتعوذ منه..) سبق تخريجه.
ثالثاً : أن يبصق عن شماله.
ودليله حديث أبي قتادة (.. وليبصق عن شماله).
رابعاً : الإيقان بأنها لا تضره.
وهذا في غاية الأهمية لارتباطه بجانب مهم وهو جانب الاعتقاد فلا بد أن يعتقد أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم صدق وأنها حقاً لا تضره.
دليل ذلك نفس حديث أبي قتادة وفيه قال صلى الله عليه وسلم (وليبصق عن شماله فإنها لا تضره).
خامساً : التحول عن جنبه.
ففي صحيح مسلم عن جابر مرفوعاً (إذا رآى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق على يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثاً وليتحول عن جنبه الذي كان عليه) صحيح مسلم شرح النووي 15
/19).
سادساً: أن يقوم فيصلي.
دليل ذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وفيه قال صلى الله عليه وسلم (... فإن رآى أحدكم ما يكره فليقم فليصل...) صحيح مسلم شرح النووي (15/21).
سابعاً: قراءة آية الكرسي.
دليل ذلك حديث أبي هريرة المشهور والذي فيه تعليم إبليس أبي هريرة لآية إذا قرأها لم يقربه شيطان ثم ذكر هذه الآية فقال صلى الله عليه وسلم (صدقك وهو كذوب).
قال ابن حجر رحمه الله:
ورأيت في بعض الشروح ذكر سابقة وهي قراءة آية الكرسي ولم يذكر لذلك مستنداً فإن كان أخذه من عموم قوله في حديث أبي هريرة (ولا يقربنك شيطان) فيتجه وينبغي أن يقرأها في صلاته المذكورة فتح الباري (12/371).
قلت والصواب والله أعلم أن يقرأها عند إرادته أخذ مضجعه لورود ذلك في النص وإن قرأها في صلاته فلا بأس لكنه خلاف الأولى.
ثامناً : أن لا يحدث بها أحداً:
كما جاء ذلك في حديث أبي سعيد الخدري السابق وفيه (ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره) سبق تخريجه.
.
أما الحكمة في ذكر هذه الأشياء فقد ذكرها بعض أهل العلم نوردها بإيجاز.
1- أما الاستعاذة من شرها: لأنها مشروعة عند كل أمر يكره.
2- أما الاستعاذة من الشيطان: لأن هذه الرؤيا منه وأنه يخيل بها بغرض تحزين الآدمي والتهويل عليه كما ذكرنا ذلك سابقاً.
3- أما البصق أو التفل يساراً: وذلك لطرد الشيطان وإظهار احتقاره واستفزازه وقيل بأن التفل أو البصق للتبرك بتلك الرطوبة والهواء المقارن للذكر الحسن وأما كونها من اليسار أو كون البصق عن اليسار لأنها محل الأقذار ونحوها. وأما كون البصق ثلاثاً قيل للتأكيد وكونها ثلاثاً لتكون وتراً.
4- أما كونه يعتقد أنها لا تضره: معناه أن الله جعل ما ذكر سبباً للسلامة من المكروه.
5- أما الصلاة: لأن فيها لجوءاً إلى الرب سبحانه وتعالى ولأن في التحريم بها عصمة من السوء وبها تكمل الرغبة وتصح الطلبة لقرب المصلى من ربه عند سجوده.
6- أما التحول: فهو للتفاءل فإنه به يتفاءل العبد بتحول تلك الحال التي كان عليها
أقسام الناس في الرؤيا:
ذكرنا فيما سبق أقسام الرؤيا هذا باعتبار الرؤيا أما باعتبار الرائي فهي أيضاً أقسام وذلك بحسب صدق الرائي وبهذا الاعتبار أي اعتبار الرائي قسم أهل العلم أحوال الناس في رؤياهم إلى ثلاثة أقسام:
أقسام الناس باعتبار الرؤيا:
1- أنبياء. 2- صالحون. 3- مستورون.
4- فسقة. 5- كفار.
أولاً : رؤيا الأنبياء:
وهم أصدق الناس رؤيا بلا شك لأنهم أصدق الناس قولاً وعملاً ولذا كانت رؤيا نبينا صلى الله عليه وسلم كفلق الصبح لأنها وحي من الله تعالى إليه. وذكرنا جانباً من جوانب رؤيا الأنبياء فيما سبق.
ثانياً : رؤيا الصالحين:
وهم في المرتبة الثانية بعد أنبياء الله ورسله والغالب على رؤياهم الصدق لكن منها ما يحتاج إلى تعبير ومنها ما لا يحتاج إلى تعبير بل تدل على الأمر دلالة واضحة.
قال صلى الله عليه وسلم (...وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً) سبق تخريجه
وقال أيضاً (الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) رواه البخاري ، فتح الباري (12/378) ومسلم شرح النووي (15/22).
ثالثاً: رؤيا المستورين:
أي من حالهم مستور لهم صلاة وزكاة وحج وغيره من الطاعات لكنهم مقصرون في البعض ولهم بعض الذنوب التي هي دون الشرك فهم أيضاً لهم رؤيا ولكن هؤلاء أحياناً تأتيهم الرؤيا التي هي من الله وتأتيهم الرؤيا التي هي من الشيطان فيرون هذه تارة وهذه تارة.
رابعاً : رؤيا الفساق:
ورؤياهم يقل فيها الصدق ويكثر فيها الأضغاث الذي هو من تلاعب الشيطان.
خامساً: رؤيا الكفار:
وهي التي يندر فيها الصدق وذلك لخبثهم وكفرهم بالله ورسله وغالبها من الشيطان لكن قد يرون رؤيا صادقة لكن هل هي من الوحي أو نقول بأنها جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة: أجاب الإمام القرطبي عن ذلك فقال: وإن قيل: (إذا كانت الرؤيا الصادقة جزءاً من النبوة فكيف يكون الكافر والكاذب والمخلط أهلالها.
فالجواب أن الكافر والفاجر والفاسق والكاذب وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات لا تكون من الوحي ولا من النبوة إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبره ذلك نبوة وقد تقدم في (الأنعام) أن الكاهن وغيره قد يخبر بكلمة الحق فيصدق، لكن ذلك على الندور والقلة وكذلك رؤيا هؤلاء
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (9/124).
ضوابط تعبير الرؤيا
فضيلة الشيخ أ. د. عبدالله بن محمد الطيار</b></i>