رمضان جود وإحسان
الخطبة الأولى
فلقد أتاكم شهرُ الغفران المرتجَى، والعطاءِ والرّضا، والرأفةِ والزُّلفى، أتاكم شهرُ الصّفح الجميلِ، والعفوِ الجليل، شهرُ النّفَحات، وإقالةِ العثرات وتكفيرِ السيّئات، صعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبرَ فقال: «آمين، آمين، آمين»، فقيل: يا رسولَ الله، إنك صعدتَ المنبرَ فقلت: «آمين، آمين، آمين»! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ جبريلَ عليه السلام أتاني فقال: من أدركَ شهرَ رمضان فلم يُغفر له فدخلَ النار فأبعَدَه الله، قل: آمين، قلتُ: آمين» أخرجه ابن خزيمة وابن حبان
إنه شهر الطاعات بأنواعها؛ صيام وقيام، جود وقرآن، صلوات وإحسان، تهجد وتراويح، أذكار وتسابيح، له في نفوس الصالحين بهجة، وفي قلوب المتعبدين فرحة، في الصيام، يتجلى في نفوس أهل الإيمان الانقياد لأوامر الله وهجر الرغائب والمشتهيات، يدَعون شهوات حاضرة لموعد غيب لم يروه «إلا الصوم فإنه لي وأنا اجزي به».
الصيام زاد الأرواح ومتاع القلوب، تسمو به همم المؤمنين إلى ساحات المقربين، يرتفع به العبد عن الإخلاد إلى الأرض؛ ليكون أهلاً لجنةٍ عرضها السماوات والأرض. فيا غيوم الغفلة تقشعي، ويا قلوب المشفقين اخشعي، ويا جوارح المتهجدين اسجدي لربك واركعي، وبغير جنان الخلد لا تقنعي. طوبى لمن عمل فأصاب، وويل لمن طرد عن الباب.
في هذا الشهر ذنوب مغفورة، وعيوب مستورة، ومضاعفة للأجور، وعتق من النار، الألسنة صائمة عن الرفث والجهل والصخب ، والآذان معرضة عن السماع المحرّم، والأعين محفوظة عن النظر المحظور، والقلوب لا تعزم على إثم أو خطيئة، في النهار عمل وإتقان ، وفي الليل تهجد وقرآن، الصيام صحة للأجسام، وتهذيب للنفوس.
عباد الله، جديرٌ بشهرٍ هذه بعض فضائله، وتلك بعض خصاله، أن يفرح به المتعبّدون، ويتنافس في خيراته المتنافسون. فَأَينَ المُتَزَوِّدُونَ مِنَ التقوى فَلْيَستَعِدُّوا؟ أَينَ المُشَمِّرُونَ للآخِرَةِ فَلْيَتَأَهَّبُوا؟ أَينَ الرَّاغِبُونَ فِيمَا عِندَ اللهِ فَلْيُقبِلُوا؟ فَإِنما هِيَ أَيَّامٌ مَعدُودَاتٌ وَلَيالٍ قَلائِلُ، تَمُرُّ سَرِيعًا كَمَرِّ السَّحَابِ، ثم تَنقَضِي وَقَد تَزَوَّدَ مُشَمِّرٌ وَنَدِمَ مُسَوِّفٌ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ عِندَ الفِطرِ لَدَعوَةً مَا تُرَدُّ، وَفي ثُلُثِ اللَّيلِ الآخِرِ أُخرَى، وَثَالِثَةٌ بَينَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ، وَأَقرَبُ مَا يَكُونُ العَبدُ مِن رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَالحَاجَاتُ كَثِيرَةٌ وَالمَسَائِلُ مُتَعَدِّدَةٌ، وَالعَبدُ فَقِيرٌ إِلى رَبِّهِ ولا غِنى لَهُ عَن رَحمَتِهِ طَرفَةَ عَينٍ.
ألا فاتقوا الله وَاسجُدُوا، وَادعُوهُ وَأَلِحُّوا وَأَخلِصُوا، وَإِيَّاكُم وَالكَسَلَ وَلا تَعجَزُوا، أَطعِمُوا الطَّعَامَ وَاحفَظُوا الصِّيَامَ وَأَلِينُوا الكَلامَ، وَاقرَؤُوا القُرآنَ وَأَحسِنُوا إِلى عِبَادِ اللهِ، قال عليه الصلاةُ والسلامُ: «الصِّيَامُ وَالقُرآنُ يَشفَعَانِ لِلعَبدِ يَومَ القِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهوَةَ فَشَفِّعْني فِيهِ، وَيَقُولُ القُرآنُ: مَنَعتُهُ النَّومَ بِاللَّيلِ فَشَفِّعْني فِيهِ»، قَال: «فَيُشَفَّعَانِ».
فيا أهل الصيام والقيام، اتقوا الله تعالى وأكرموا هذا الوافد العظيم، جاهدوا النفوس بالطاعات، ابذلوا الفضل من أموالكم في البر والصلات، استقبلوه بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله، جددوا العهد مع ربكم، وشدّوا العزم على الاستقامة، فكم من مؤمل شهوده، حال الموت دون بلوغه.
الخطبة الثانية
الحمد لله
إِنَّهُ لا بُدَّ مِن مُجَاهَدَةِ النَّفسِ عَلى فِعلِ الطَّاعَاتِ وَبَذلِ الخَيرَاتِ، لا بُدَّ مِنَ الصَّبرِ وَالمُصَابَرَةِ، وَمَن صَدَقَ اللهَ صَدَقَهُ، وَمَن عَوَّدَ نَفسَهُ الخَيرَ اِعتَادَتهُ ،قال عليه الصلاة والسلام: «إِنما العِلمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنما الحِلمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَن يَتَحَرَّ الخَيرَ يُعطَهُ، وَمَن يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ»
عباد الله : كَمَا يَستَعِدُّ أَهلُ الخَيرِ وَدُعَاةُ الحَقِّ لِهَذَا الشَّهرِ وَيَسعَونَ لاغتنامه فِيمَا يُرضِي اللهَ وَيُقَرِّبُ منه فِإِنَّ هُنَاكَ قُطَّاعَ طَرِيقٍ وَسُرَّاقَ أَوقَاتٍ وَمَانِعِي خَيرَاتٍ، هُنَاكَ أَقوَامٌ مِن شَيَاطِينِ الإِنسِ وَمَرَدَةِ بَني آدَمَ، تُجلِبُ على المُسلِمِينَ بِخَيلِها وَرَجِلِهَا، مُضَيِّعَةً عَلَيهِم لحظات شَهرِهِم، نَازِعَةً بَرَكَاتِ أَوقَاتِهِم، مُدَنِّسَةً أَسمَاعَهُم وَأَبصَارَهُم وَقُلُوبَهُم ، قنوات مسعورة، خلف الكسب الرخيص لاهثة، ولنشر الفاحشة مسارعة، أعدت عدتها، وسخرت إمكانياتها، لهدم الفضيلة، ونشر الرذيلة، أفلام هابطة، ومسلسلات ماجنة، تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فإياكم وإياهم، احفظوا أنفسكم ، وربوا على الفضيلة أولادكم.
عباد الله تختلف أحوال الناس مع رمضان ، فمنهم من جعله ميدانا للتنافس على معالي الأمور والفوز بعظيم الأجور، ومن الناس يستغله في التسول، وهو ليس من أهل الزكاة، ولم يشرع له السؤال. ونسي أو تناسى أو جهل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر». من الناس من لا يعرف من رمضان إلا الموائد وصنوف المطاعم والمشارب، ومنهم من يقضي نهاره نائمًا، ويقطع ليله هائمًا، وفيهم من رمضانُه قنوات وشاشات ، وجوالات وشاتات، وأرقام ومعاكسات، وأسواق ونزهات، ما عرف للشهر قيمته،وما أنزله منزلته.
أيّها المسلمون: المؤمِن ليس معصومًا من الخطيئة، وليسَ في منأى عنِ الهَفوة، ليس في معزِل عن الوقوعِ في الذنب فعن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ بني آدَمَ خطّاء، وخيرُ الخطّائين التوّابون» أخرجه أحمد ، كم من مذنبٍ طال أرقُه، واشتدَّ قلقُه، وعظُم كمَده، واكتوى كبِدُه، يَلفُّه قَتارُ المعصية، وتعتصِره كآبَة الخطيئة، يتلمَّس نسيمَ رجاءٍ، ويبحَث عن إشراقةِ أمَل، ويتطلَّع إلى صُبحٍ قريب، يشرِق بنورِ التوبةِ، والاستقامةِ والهدايةِ والإنابة؛ ليذهب معها اليأسُ والقنوط، وتنجلِي بها سحائبُ التّعاسة، والخوفِ والهلَع، والتشرُّد والضياع. أبشر فلقد بلغك الله رمضان وفتح لك أبواب التوبة فادخل ولا تتردد، وبادر ولا تسوف. فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أخطَأتم حتى تبلُغ خطاياكم السّماء ثم تُبتُم لتابَ الله عليكم» أخرجه ابن ماجه