بلاغة النداء في قوله تعالى:﴿يأيها الذيـن آمنوا﴾
هي جملة إنشائية طلبية، نداء يفيد تنبيه المنادَى إلى أمر عظيم يجدر به أن يكون على وعي به، وأخذ بما فيه من معاني الهدى، وقد كثر النداء في القرآن الكريم، وهو نداء من الخالق إلى خلقه، وهذا وحده فيه فيض من التكريم، والتنبيه إلى أنهم في علمه قائمون، وفي رحمته غارقون، وتحت قهره نازلون، ومن أقام هذه المعاني في قلبه لا يكاد يغفُل عن ذكر ربه تعالى.
والسنة البيانة للقرآن الكريم في نداء " أمة الإجابة" أنه ينادى عليهم بقوله" يأيها الذين آمنوا" تذكيرًا لهم بالعهد الذي عاهدوا الله عز وجل عليه، وهو الإيمان بما أمرهم بالإيمان به. به.
وكأنه يحثهم بهذا الوصف على أن يقبلوا على ما يأمرهم به فيأخذوه وعلى ما ينهاهم عنه فيجتنبوه.
وقد قال ابن مسعود -رضي الله عنه- إذا ما سمعت الله عز وجل يقول : "يأيها الذين آمنوا" فأرِعْه سمعك فإنَّ ما بعده خيرًا يأمر به، أوْ شـــرًا ينهى عنه"
وفي اختيار "يا" للنداء، وهي عند بعض أهل العلم لنداء البعيد للدلالة على أن المنادى فيه شيء من البعد بالمعصية والذنوب عن المنادِي جلّ جلاله، فعليه أن يصغي لما ينادي عليه به ليزداد بهذه الطاعة قربا.
وجاء تعريف المنادَى باسم الموصول دلالة على أنه المعروف بالصلة التي هي الإيمان وكأنَّ هذا الإيمان هو أجل ما يعرف به ذلك المنادَى، فهو شرفه الذي عليه أن يستمسك به، وأن يفخر بنعته به وأن يسعى إلى زيادته وتثبيته بالإكثار من الطاعات، والفرار من السيئات، فعليه العناية بفقه ما هو آت من بعد ذلك النداء من أمر بمعروف ونهي عن منكر.
ولم يأت في القرآن الكريم نداء "المؤمنين" إلا في آية واحدة في سورة "النور" حيث يقول الله تعالى : ﴿ وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون ﴾
فأنت تلاحظ هنا أمورًا مهمة:
1- تلاحظ أنه أخَّر النداء عن الأمر، فقال أولا: " توبوا" ثم قال: " أيّه المؤمنون" لأن النداء في أصله لتنبيه الغافل أو البعيد، وهؤلاء ليسوا بالغافلين ولا بالمحل البعيد، ذلك أنهم مؤمنون، أيْ صارَ الإيمان نعتا لهم، فهم معروفون بالصفة لا بالصلة أي أن الإيمان في قلوبهم صار ملازما لهم ملازمة النعت لمنعوته، فهو فيهم كالطول في الطويل، والقصر في القصير لا يكاد يتخلى عنه، وقد جاء البيان بكلمة "المؤمنون" في سياقات التشريف والتكريم والثناء منها:
﴿ إِنَّما المؤمِنُون الَّذينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...﴾[الأنفال:2]
﴿ والْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنات بَعْضهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ﴾[التوبة:71]
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون َ﴾ [المؤمنون:1]
﴿ وكانَ حَقًا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ﴾ [الروم:47]
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةً﴾ [الحجرات:10 ]
﴿ وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾[المنافقون: 8]
أمّا "الذين آمنوا" فإن الإيمان ما يزال فعلا من أفعالهم، فيحتمل أن يزول وأن يحول، فكانوا بحاجة إلى الإكثار من أمرهم ومن نهيهم.
[«شذرات الذهب دراسة في البلاغة القرآنية» محمود توفيق (36)]