معنى السياسة
السياسة لغةً : " هي القيام على الشيء بما يُصلحه ".
قلت: ومنه قول أسماء بنت أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنهما: " تزوَّجَني الزبير ومالَه في الأرض مالٌ ... فكنتُ أعلف فرسه، وأكفيه مؤنته، وأسوسه، وأدقُّ النوى لِناضحه ... حتى أَرسل إليَّ أبو بكر بعد ذلك خادما فكفَتْني سياسةَ الفرس، فكأنما أعتقني "، ولذلك كتب ابن الجزار القيرواني في إصلاح شئون الصبيان والمحافظة على طبيعة أجسامهم وطِبِّها مؤلَّفا أسماه
(( سياسة الصبيان وتدبيرهم )) ؛ لأن لفظة ( السياسة ) مشتقة من " السُوس بالضم: الطبيعة والأصل والخلق والسجية ".
ومن هذا المعنى العام أُخذ المعنى الخاص الآتي وهو: " من السوس، وهي الرياسة، وفي الحديث:»" كان بنو إسرائيل يَسوسهم أنبياؤهم « أي يتولى أمرهم كما يفعل الأمراء والولاة بالرعية ".
وأما المعنى الشرعي: " فالسياسة الشرعية هي تدبير الشئون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار مما لا يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية، وإن لم يتفق وأقوال الأئمة المجتهدين ".
قلت: فهي تُعْنَى بأحكام الإمارة والقضاء وأحوال الوزارات وتدوين الدواوين وإنفاذ الجيوش وغيرها مما تراه مفصلا في مثل (( غياث الأمم )) للجويني، و(( الأحكام السلطانية )) للماوردي وكذا لأبي يعلى الفراء،
و(( التراتيب الإدارية )) لعبد الحي الكتاني وغيرهم .. ولا شك في وجوبها شرعا وعقلا، لأن أمور الناس لا تنضبط إلا بإمام عادلا كان أو جائرا، قال ابن حبان البستي ـ رحمه الله ـ: " وأنشدني ابن زنجي البغدادي للأفوه الأودي:
لا يُصلح الناسَ فوضى لا سَراة لهم ولا سَـراة إذا جـهّـالهـم ســادوا
والبــيـت لا يـُبتـنـى إلا بـأعـمــدة ولا عـمـاد إذا لم تُــرسَ أوتـــادُ
فإن تـَجـمَّع أوتادٌ وأعمدةٌ وساكنٌ أدركــوا الأمـــر الـذي كــادوا
تُهدَى الأمور بأهل الرأي ما صلــ ـحت فإن تَوَلَّت فبالأشرار تنقادُ
وذكر قبلها الحكمة المشهورة: سلطان غشوم خير من فتنة تدوم ". قال ابن تيمية: " يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين والدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس ... إلى أن قال: لأنَّ الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بالقوة والإمارة، ولهذا روي: (( أن السلطان ظل الله في الأرض )) ويقال:
( ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان ) والتجربة تبيِّن ذلك، ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان ... فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله؛ فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرئاسة أو المال بها ".
ولا تستوحش من قول خلاّف السابق: " .. وإن لم يتفق وأقوالَ الأئمة المجتهدين "؛ فإن المقصود به أن السياسة الشرعية ليست حكراً على الأئمة المتقدمين، بل لا بأس من أن يجتهد العالم المتبحّر من أولي الأمر فيما يَجدّ للأمة من نوازل بالقيود السابقة، ولذلك قال: " فالسياسة الشرعية على هذا هي العمل بالمصالح المرسلة؛ لأن المصلحة المرسلة هي التي لم يقم من الشارع دليل على اعتبارها أو إلغائها ".
وهو الأمر الذي نقله ابن القيم عن ابن عقيل نقل المقرّ وهو قوله: " فإن أردتَ بقولك: ( لا سياسة إلا ما وافق الشرع ) أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردتَ ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة؛ فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل ما لا يجحده عالم بالسير، ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة ... ).
ولذلك قال ابن نجيم: " وظاهر كلامهم أن السياسة فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرِد بهذا الفعل دليل جزئي ".
لكن مع تقادم الزمن نزل بالناس حوادث لم يَعرفوها من قبل، فاستفتى الولاةُ فقهاءَ التقليد، فأغلقوا عليهم باب الاجتهاد، وحرَّموا على أنفسهم النظر فيما لم تذكره المذاهب، فاضطر الولاة إلى الاجتهاد فيما يَعِنُّ لهم من جديد بحق وبباطل، وزهِدوا في علماء الشريعة؛ ظنًّا منهم قصور الشريعة عن فتح مغاليق فتن العصر، ثم تمادى بهم الأمر حتى أعرضوا عما أنزل الله من آيات بيِّنات، وتحاكموا إلى الرأي إما جهلاً وإما ظلماً، وتجرَّأ أراذل الناس على الشرع حتى حُرِّف كثيرٌ منه.
وأدهى وأمَرّ منه أن قوماً من جهال المتديِّنين في هذا الزمان أرادوا أن يُعالجوا هذا الانحراف فضاق عليهم منهج النبيين وسبيل المؤمنين حتى اعتمدوا النظم الغربية الكافرة للوصول إلى الحكم بما أنزل الله زعموا! كالولوع باللعبة الديمقراطية ودخول البرلمانات، والاتِّكاء على الغثاء للضغط على الحكومات؛ فتارة يدَّعون أن الأمر في ذلك مصلحة مرسلة والشريعة مرِنة! وتارة يَدَّعون أنهم مضطرون إليها وقلوبهم لها كارهة!! فما زالت بهم هذه السياسة حتى استَحْسنوا الكذب والسباب، واستمْرَأوا الخيانة والمكر بالأحزاب، وجرى على لسان العوام أن لا سياسي إلا ذو كذب مرتاب. وهذه المسالك أشد من مخالفات الحكام؛ لأن هؤلاء لا يُقتَدى بهم في غالب ديار الإسلام، أما الإسلاميون السياسيون فمحطّ نظر الخواص والعوام! فما أشدّ محنتهم للناس!!
وقد نبَّه ابن القيم على هذا الخلط في معاني السياسة فقال: " هذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهو مقام ضَنْك ومعتَرَك صعب، فرَّط فيه طائفة فعطَّلوا الحدود وضيَّعوا الحقوق، وجرَّؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تَقوم بمصالح العباد، وسَدّوا على أنفسهم طرقاً صحيحةً من الطرق التي يُعرَف بها المحِق من المبطل، فعطَّلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق، ظناً منهم منافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجب لهم ذلك نوعُ تقصير في معرفة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهم هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم، فتولَّد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أَحدثوه من أوضاع سياستهم شرٌّ طويل وفساد عريض، وتفاقم الأمر حتى تعذَّر استدراكُه، وأفرط فيه طائفة أخرى فسَوَّغَت منه ما يُناقض حكم الله ورسوله ... ولا نقول إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة، بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها، وتسميتها
( سياسة ) أمر اصطلاحي، وإلا فإذا كانت عَدْلاً فهي من الشرع "
قلت: هذه المرونة المشروعة في سياسة الخلق يمكن التمثيل لها بما رواه الشعبي قال: قال زياد: " ما غلبني أميرُ المؤمنين ( أي معاوية :radia بشيء من السياسة إلا ببابٍ واحدٍ: استعملتُ رجلاً فكثُر خراجه، فخشي أن أعاقبه، ففرّ إلى معاوية، فكتبت إليه: إنّ هذا أدب سوء لمن قبلي، فكتب إليّ: إنه ليس ينبغي لي ولا لك أن نسُوس الناس بسياسة واحدة؛ أن نلين جميعاً فتمرح الناسُ في المعصية، أو نشتدّ جميعاً فنحمل الناسَ على المهالك، ولكن تكون للشدّة والفظاظة، وأكون للِّين والرَّأفة ".
قلتُ: هذه السياسة التي فاق بها معاوية :radia:زياداً هي التي مكَّنَته مِن أن يحكم أهل الشام أربعين سنة في وُدّ تامّ كما ذكر أهل التاريخ.
منقول من كتاب
مدارك النَّظر في السّياسة
بين التطبيقات الشّرعية والانفعالات الحَمَاسية