كن سليم السر في علن الهرج
علمونا حين كنا صغارا أن العقل السليم في الجسم السليم، واستمر التذكير بهذه المقولة في كل مرحلة من مراحل عمرنا، وغاب عنهم أن يعلمونا أن الجسم السليم متوقف على قلب سليم، وغفلوا عن تعليمنا أن قوام الجسم و كمال قوته لا يحصل إلا إن سكنه قلب هب من سبات غفلته، فراح يبحث في طب القلوب، وينظر كيف يعالج نفسه، وينظر كيف يتخلص من أمراضه، فيعزم على أن يعيش حيا ولو وسط الأموات في زمن الهرج حيث الفتن طارقة كل باب، بل والجة كل مقام، قلب هجر ما فات من السيئات واحترس من مآتي الذنوب والآثام، وكان لله عابدا في كل وقت وعلى كل حال، فاستحق أن يكتب عند الله مهاجرا. عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عبادة في الهرج كهجرة معي) رواه مسلم في كتاب الفتن.
هل يمكن أن يهتدي المرء إلى صراط مستقيم في وقت اعوجاج الزمان واختلاف الناس واختلاط الواقع وتشابك الحق والباطل؟.
الجواب في قوله صلى الله عليه وسلم الذي أطلعنا على فضل العبادة في الوقت الذي يغفل عنه الناس، ويحث ويرغب فيها بأن يجعل ثواب العابد في الفتن كالمهاجر إلى رسول الله، ومضاعفة أجر من لزم أمرا قد أهمله الناس، إذ أن لزوم التعبد في زمن الغفلة والتيه من أعظم الأمور التي تساعد المرء على الثبات على دين لله، وزيادة الإيمان في قلبه والنجاة من نار الفتن.
ففي زمن الفتن واختلاف الآراء وتعدد المشارب، واعتزاز كل ذي رأي برأيه، وفرح كل حزب بما عنده، وفي زمن تسلط الأعداء نتيجة إعراض الناس عن دين الله، وتنافسهم على ملذات الدنيا، وفي غمرة الشبهات وطغيان الشهوات، وكثرة الحزن على ما فات، والغم في حاضر الوقت، والهم والاهتمام بما هو آت من أمور الدنيا، يجأر إلى الله من هداه لعبادته، فيتغلب على هذا الهرج كله ويدع وراءه كل ما أصابه في خاصة نفسه من ابتلاء، وما أصاب الأمة من انكسار وهوان، وأبى أن ينغمس في متع الدنيا وأن يذوب في مجتمع ما عادت العبادة فيه عبادة بل عادة، فاستطاع أن يتخلص من النفس والهوى والشيطان وكل الدنيا. إذا وصل المرء هذا المقام استحق وسام شرف العبودية لله الكاملة، العبودية بمعناها الشامل الجامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من أقوال وأفعال ظاهرة وباطنة، إذ العبادة جسد وروح، جسدها الأعمال الظاهرة، وروحها معاني تستقر في قلب العابد الصادق الذي عرف غاية وجوده ومقصد خلقه، وكان مع مراد الله الديني لا مع مراد نفسه، بل مراد نفسه نابع من مراد الله تابع له. ويعرف أن الله أراد منه أن يكون عابدا في خاصة نفسه داعيا غيره إلى عبادة الله، فالعبادة المطلوبة في زمن الفتن مركبة إذ منها ما هو قاصر على العابد نفسه ومنها ما يتعدى نفعه إلى الأمة، فالذي أجمع عليه العلماء أن أفضل العبادة ما عاد نفعها على النفس والخلق أجمعين.
العبادة جسد له روح، والروح توحي بالحياة والوجود، فهي حاضرة ملازمة لحياة الجسد حتى إذا سلت عنه وافترقت عنه هوى واضمحل وانعدم، فكلما وجدت الروح وجد الجسد، وإذا انعدمت الروح انعدم الجسد، هما مرتبطان بل لصيقان. والعبادة تتحقق بتحقق روحها وسرها ولبها.
وروح العبادة، إحساس باطن ناتج عن عمل القلب ذلك الموجه الأساسي لعمل الجوارح الظاهرة، إذ لا يصح عمل شرعي إلا من مؤمن عرف الله بقلبه، وأخلص له العبادة، و راقبه وعظمه وعظم أوامره وشعائره ( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) الحج 32 وتعظيم شعائر الله يكون بصرف الهمة كل الهمة إلى الاعتناء بأحوال القلب في جميع الأحوال والأوقات حتى يحسن قصده، ويصدق عزمه، ويتطهر من ذميم الصفات، ويشفى من سقيم الآفات. فهو محل نظر الله، ومسكن روح العبادة ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأقوالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) رواة مسلم.
من حافظ على روح عبادته ذاق طعم الإيمان واستلذ حلاوة الطاعات وتحمل المشاق في رضا الله عز وجل، وآثر ذلك على عرض الدنيا، فتكون له همة متعلقة بالآخرة، إذ كل ما في الدنيا يحركه إلى ذكر الآخرة، يذكر دوام البقاء في الجنة ونعيمها الذي لا ينقطع ولا يزول ولا يعتريه منغص، فتحضر روح عبادته، وتزج به في حضرة الأحياء بالله، فيعجل الله له ثواب العبادة والطاعة في الدنيا بأن ينير قلبه ويشرح صدره ويذيقه لذة يسعد بها في حياته.
ما قيمة عبادة فقدت روحها ولبها، وبقي جسدها وظاهرها؟ إنها بمنزلة العبد الميت، فمثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه في عبادته كمثل الحي والميت، تلك عبادة غلبت الغفلة على صاحبها فما زادته إلا حسرات لأنها في الغالب فاقدة لمعنى الإخلاص، فإن الإخلاص قصد المعبود وحده بالعبادة، والغافل لا قصد له، فلا عبودية له، ولا روح لعبادته، ولا حياة لقلبه.
هذه هي العبادة التي تؤهل صاحبها لأن يفوز بأجر الهجرة إلى رسول الله وما جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك إلا لأن صاحبها هجر السيئات وانقطع عن ماض مليء بالآثام، امتدت جذوره في أعماق الذهن والوجدان فصعب اقتلاعه، والموفق من وفقه الله لاقتحام عقبات النفس والهوى والشيطان، وأودعه قلبا عابدا مغمورا بالتقوى معمورا بالإيمان.
قال القرطبي( المتمسك في ذلك اليوم والمنقطع إليها المنعزل عن الناس أجره كأجر المهاجر إلى النبي لأنه ناسبه من حيث إن المهاجر فر بدينه ممن يصد عنه للاعتصام بالنبي، وكذا هذا المنقطع للعبادة فر من الناس بدينه إلى الاعتصام بعبادة ربه فهو في الحقيقة قد هاجر إلى ربه وفر من جميع خلقه) قد يكون الفرار من الخلق والانعزال عنهم وهو وسطهم وبينهم يذكرهم ويدعوهم للفرار معه إلى الله والهجرة معه إلى رسول الله إذ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) رواه البخاري.
الموضوع منقول للإفادة
دمتم في رعاية الله.