عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم؛ فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فحلوهم، فأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله؛ فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، وأوكوا قربكم واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله، ولو أن تعرضوا عليها شيئاً، وأطفئوا مصابيحكم". (رواه البخاري 5623، ومسلم 2012).
وفي رواية أخرى: عن جابر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ترسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء؛ فإن الشياطين تنبعث إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء". ( رواه البخاري 2380، ومسلم 2013، واللّفظ له).
قال ابن الأثير الجزري: "(الفواشي) جمع فاشية؛ وهي الماشية التي تنتشر من المال؛ كالابل، والبقر والغنم السائمة، لأنها تفشو؛ أي: تنتشر في الارض، وقد أفشى الرجل: اذا كثرت مواشيه". أ. هـ. (النهاية في غريب الأثر 3/ 449).
قال النووي: "قوله: (جنح الليل) هو بضم الجيم وكسرها، لغتان مشهورتان؛ وهو ظلامه. ويقال: أجنح الليل، أى: أقبل ظلامه. وأصل الجنوح: الميل. قوله صلى الله عليه وسلم: (فكفوا صبيانكم) أى: امنعوهم من الخروج ذلك الوقت. قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن الشيطان ينتشر) أى: جنس الشيطان؛ ومعناه: أنه يخاف على الصبيان ذلك الوقت من ايذاء الشياطين لكثرتهم حينئذٍ، والله أعلم". أ. هـ. (شرح النووي على صحيح مسلم 13/ 185- 186).
قال ابن حجر: "قال ابن الجوزي: إنّما خيف على الصبيان في تلك الساعة لأنّ النجاسة التي تلوذ بها الشياطين موجودة معهم غالباً، والذكر الذي يحرّز منهم مفقود من الصبيان غالباً، والشياطين عند انتشارهم يتعلقون بما يمكنهم التعلق به، فلذلك خيف على الصبيان في ذلك الوقت، والحكمة في انتشارهم حينئذٍ أن حركتهم في الليل أمكن منها لهم في النهار، لأن الظلام أجمع للقوى الشيطانية من غيره، وكذلك كل سواد، ولهذا قال في حديث أبي ذر: فما يقطع الصلاة؟! قال: الكلب الأسود شيطان. أخرجه مسلم". أ. هـ. (فتح الباري 6/ 341- 342).
إذاً في هذا الحديث النبوي يوصي النبي صلى الله عليه وسلم أولياء الأمور والآباء بحسن رعاية أولادهم، وومن ذلك إبعادهم عما يضر بهم في صحتهم العضوية والنفسية.
إنّ أول ما نلمسه في هذا الحديث هي تلك الرؤية الواسعة لدور المربي ومهمته.
حين تتحدث مع كثير من الخيرين عن التربية وتحثهم على حسن رعاية أولادهم فإن عدداً منهم يختزلون المسؤولية التربوية فيما يتصل بالتدين والحديث عن أمر الابن بالصلاة والطاعة، ونهيه وتقويم سلوكه وأخلاقه.
وفي مقابل هؤلاء هناك فئة ليست قليلة من الآباء والأمهات يعتنون بصحة أولادهم، ويهتمون بتحصيلهم الدراسي وأمور الدنيا، ويهون عندهم شأن الدين.
إنّ الإسلام يتعامل مع الإنسان باعتباره كائناً متكاملاً. جسد وبنية، وعقل وروح، وكما أنّ الدين ليس أمراً هامشياً ومحدوداً في حياة الإنسان فهو مع ذلك لا يمكن فصله عن جوانب شخصية الإنسان الأخرى.
إن الآلة التي تؤدي وظيفة ما إنما تعمل من خلال مجموع قطعها وأجزائها، ومهما بلغت أهمية قطعة من قطعها أو جزء من أجزائها فلن يرقى هذا الجزء منفرداً ليكون هو كل شيء في هذه الآلة، ولن يعمل بمفردة دون بقية القطع والأجزاء.
والأمر يتجاوز ذلك فثمة عنصر مهم تحتاجه الآلة؛ ألا وهو التواصل والتكامل في الأدوار والمهمات بين هذه القطع والأجزاء.
وهكذا الإنسان؛ فهو لا يمارس حياته بروحه فحسب دون جسده، أو بجسده دون عقله، بل بكيانه مجتمعاً، وليس عمله وتصرفه محصلة لكافة جوانب شخصيته فحسب بل لتفاعلها مع بعضها.
وحينها فالمربون الذين يسعون إلى بناء النفوس وإعدادها لا بد أن يرعو هذا الجانب فيتعاملوا مع الكيان الإنساني بمجموعه دون تفتيته، أو عزل جانب عن آخر.
إنّ فهم الإنسان للدين وأساليب تطبيقه له في حياته لا ينفصل عن تكوينه العقلي وطريقة تفكيره، ولا عن استقراره وصحته النفسية.
فكم رأينا من يفهم الدين فهماً خاطئاً، أو يضع النصوص على غير موضعها ومصدر ذلك الخلل في بنائه الشخصي.
وكم رأينا من يقصر في حقوقه الزوجية، وإدارته لحياته الأسرية نتيجة الحالة النفسية التي يعيشها.
إننا نعد أولادنا وتلامذتنا لمهمتين لا تتعارضان ولا تنفصلان.
المهمة الأولى: عبادة الله وحده، والفوز بالنجاة في الدار الآخرة.
والمهمة الثانية: النجاح في الحياة الدنيوية، وتحقيق العيش الكريم فيها.
وهما مهمتان متكاملتان لا تتعارضان، فقد قال عز وجل (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ). (سورة القصص، الآية: 77).
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن طلب الإنسان الرزق عبادة يؤجر عليها، وأن إنفاق العبد على أهله هو باب من أبواب الإنفاق في سبيل الله تعالى.
عن أبي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنّ المسلم إذا أنفق على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة". (رواه مسلم 1002).
ومن جانب آخر فاستقامة الإنسان وثباته تتأثر باستقراره في حياته النفسية، واستقراره في حياته الاجتماعية.
كما أن أداءه لكثير من الأدوار المتصلة بالإعداد للحياة الآخرة يتأثر ببناء شخصيته.
فقيامه بصلة الرحم وبره بوالديه سيتأثر بمدى قدرته على التواصل الإيجابي مع الآخرين، ومع قدرته على إدارة مواقف الاتفاق والاختلاف مع الآخرين.
وقيام الفتاة بواجبها الشرعي في حسن العشرة لزوجها سيتأثر بمدى قدرتها على إدارة النزاع والتعامل مع المشكلات والأزمات.
كما أن أداء الفرد رجلاً كان أو امراة لدوره في الإصلاح والدعوة في مجتمعه سوف يتأثر بمهاراته الاجتماعية، وبمدى قدرته على التواصل مع الآخرين، ومدى امتلاكه لمهارات الحوار والإقناع... إلخ جوانب شخصيته.
إن ماسبق يؤكد أهمية اعتناء المربين بالبناء المتكامل لشخصية الإنسان، وهذه الرؤية لدور التربية سوف تترك أثرها على الأهداف التربوية فتكون أكثر شمولاً واتساعاً، وتترك أثرها على محتوى المنهج التربوي، وعلى طرق التعليم والتوجيه، وعلى أساليب التقويم، وعلى شخصية المربي وممارساته.
د.محمد الدويش
المصدر: المربي