ماإن تُذْكرُ قصص التوبة وأهلها إلا وتجيش المشاعر في صدري وأتذكر أخا لي قد أفضى إلى ربه ، إن لأهل التوبة قلوبا أنقى من الزجاج ، ولأهل التوبة ذِكْراً يؤنس القلوب ويزيل عنها غبار الغفلة ، وقد آثرتُ في هذا اليوم أن أنقل لكم خَبَرَ صاحبي ، لعلَّ الله أن يحي بقصتهِ قلوبا لم تزل معرضة عن الله .....
كنت شابا في العشرين من عمري كان لي رفقة صالحة يعينونني على الخير وأعينهم عليه ، جمع بيننا المسجد والقرآن وحبُّ الله ، كان لنا صديق تنتابه نزغة إلى الخير ونزغات كثيرة إلى الشر ، كنا نحرص عليه ، وكان أهل الشر أشد حرصا منا على صاحبنا فقد كان صاحب صوت جميل يحي ليلهم أنْساٍ وطَرَباً ، تَفَلَّتَتْ الأمور من أيدينا فلم يعد لنا على صَاحبنا سلطان ، فقد توغل في المعاصي وبات مجاهرا مفتخرا بها ولاحول ولاقوة إلا بالله .
قررت أنا وصحبي أن نُعذر إلى ربنا وندعوه إلى ركبِ الإيمان لعله يذَّكر أو يخشى ، حتى إذا كنا ذات مساء نسير بسيارتنا رأينا صاحبنا ، فدعوناه إلى مرافقتنا في السيارة لنقضي بعض الوقت ونتجاذب أطراف الحديث ، فرحب بالأمر وصعد معنا ، انطلقنا بسيارتنا إلى خارج البنيان ، ثم قال قائلنا : هل منكم من يسمعنا شيئا من كلام الله عز وجل فقد تاقت أنفسنا إلى سماع كلام الله ، وإذ بقارئنا مستعيذا بالله يقرأ بصوت شجي هذه الآيات المباركات من سورة ( المؤمنون ) :
( وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ{97** وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ{98** حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ{99** لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ{100** فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ{101** فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{102** وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ{103** تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ{104** أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ{105** قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ{106** رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ{107** قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ{108** إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ{109** فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ{110** إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ{111** قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ{112** قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ{113** قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{114** أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ{115** فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ{116** وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ{117** وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ{118**
لقد كانت هذه الآيات موعظة بليغة وجلت منها قلوبنا وذرفت منها عيوننا ، تذكرنا المرجع والمصير ، وفي هذه الأثناء تشاورنا في زيارة أهل القبور نُسَلِمُ عليهم وندعو لهم ، فتوجهنا إلى مقبرة قريتنا التي كانت بعيدة عن العمران في مكان مظلم موحش ، دخلنا المقبرة وكأننا ندخلها أولَّ مرة ، وإذ بالآيات التي قُرأت علينا آنفا يتردد صداها في آذاننا ، فلما هممنا بالانصراف بحثنا عن صاحبنا الذي نَبْغِي هِدَايَتَه ، فوجدناه قد جَثَى على رُكْبَيته يبكي بكاء شديدا ، استنهضناه لنمضي إلى بيوتنا فأبى أن ينهض معنا ، وقال امضوا إلى بيوتكم واتركوني وسألحق بكم ، قلنا كيف لنا أن نتركك في هذا المكان الموحش البعيد عن منازلنا ، انهض لتصلَ بيتك وتصلي بين يدي مولاك ، حتى إذا عُدت في يوم من الأيام إلى هذا المكان وقد حُمِلتَ على الأعناق كان لك عملا صالحا ترجو أن يرحمك الله به .
فمضينا إلى منازلنا بقلوب غير التي جئنا بها
أما صاحبنا الذي رجونا هدايته فقد َسبَقَنَا إلى الله ، حسُنت توبته ، كان بَكَّاء من خشية الله وقَّافا عند حدوده ، قارئاً لكتابه كثير الصيام والقيام ، كان يرافقنا في رحلاتنا إلى أطهر بقعتين مكة المكرمة والمدينة والمنورة ، كان إذا نام الناس انتصب قائما بين يدي مولاه قائما راكعا ساجدا ، إذا سَمِعتَ مناجاتِه لربه وبكائه بين يديه فرّ قلبك فَرَقَا من الله ، كان يُلح على ربه في الدعاء أن يقبضه إليه وهو صائم ، ويمضى العام الأول من هدايته وهو لم يزل مقبلا على الله ، ويمضي عامه الثاني وهو أشدُّ إقبالا على الله ، حتى إذا كان في عامه الثالث ، وقد أصبح صائما لله في صباح يوم الإثنين ، وبعد أن أدى صلاة العصر استقل سيارته متوجها إلى قرية مجاورة ، وقد كان يحمل في يده مصحفا مُجَزَئاً يراجع فيه حفظه أثناء قيادته للسيارة ، وقد انَشغَلَ بالمصحف عن القيادة ، وتقترب ساعة نهاية رحلته إلى الله فيصاب في حادث سيارة ليموت من ساعته وهو صائم ، ثم يُحمل على الأعناق ليدخل المقبرة التي دخلها قبل توبته وكان فيها من أمره ماكان .
لقد مات صاحبنا غير أن حبنا في الله الذي اجتمعنا عليه وافترقنا عليه لم يمت في قلبي ، وهاأنا أسطر قصته بعد أن مضى مايزيد على عشرين عاما على وفاته .
مات الشاب الصالح الذي لم نستطع أن نسبِقَهُ إلى الله ، كان يقوم الليل إذا نمنا ويصوم النهار إذا أفطرنا ، كانت عيناه تجود بالدمع إذا جفتْ مآقينا ، كان الله حاضرا في قلبه .
اللهم لاتحرمنا أجره ولاتفتنا بعده واغفر لنا وله .
كتبه الكَلِمُ الطيب يوم الثلاثاء 11 – 12 - 1429هجرية الموافق 09 – 12 – 2008 م