رفعة الدين وعز الإسلام والمسلمين بمجاهدة الكفار والمنافقين
الحمد لله الذي جعل الجهاد ذروةَ سنام الإسلام، وصلى الله على محمد القائل: "وجُعِل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصَّغار على من خالف أمري"، ورضي الله عن صحابته والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين الذين جاهدوا لنصرة هذا الدين
وبعد..
هذه خواطر، ووقفات، وإزالة لبعض الشبهات عن مشروعية الجهاد، وحكمه، وأنواعه، وما يتعلق به، كتبتها نصحاً لله ولرسوله، ونصرة للمجاهدينن راجياً ثوابها يوم الدين، حيث تطيش الموازين، ولا يفلح إلا من أتلى الله بقلب سليم، فأقول وبالله التوفيق:
حكم جهاد الكفار والمنافقين
لقد أوجب الله - عز وجل - على الأمة الإسلامية وتعبدها في شخص رسولها - صلى الله عليه وسلم - بجهاد الكفار والمنافقين والإغلاظ عليهم، فقال: "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم"1.
وبشر أمته بأن الجهاد ماض وباقٍ، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل"2، ولهذا بوب البخاري في كتاب الجهاد "باب الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر"3، إذ بقاء الإسلام والمسلمين رهين ببقاء الجهاد واستمراره.
قال ابن حجر: (وفيه أيضاً بشرى ببقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة، لأن من لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين، وهم المسلمون). 4
وترك الجهاد نذير شؤم بضياع الإسلام وذهاب المسلمين وذلهم، كما بشر كذلك أن هذه الأمة لن تجتمع على ضلالة، إذ لا تزال طائفة منا تقاتل على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم.
أنواع الجهاد
جهاد الكفار والمنافقين يكون بالنفس، والمال، واللسان، والبنان، والجنان، وهو على قدر الطاقة، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
قال العلامة ابن القيم - رحمه الله -: (والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين، إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع). 5
الجهاد في سبيل الله من وظائف العمر
الجهاد في سبييل الله من وظائف العمر التي لا تنفك عن المسلم إلى أن يلقى الله، نحو:
1. الاستقامة: "فاستقم كما أمرت"6، "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين"7، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "قل آمنتُ بالله ثم استقم". 8
2. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان"9، ولو ساعةا لاحتضار، كما قال عمر - رضي الله عنه - وهو يحتضر للشاب الأنصاري الذي كان مسبلاً: "قصِّر ثوبك، فإنه أنقى للثوب وأرضى للرب".
3. طلب العلم، كما قال أحمد - رحمه الله -: "من المحبرة إلى المقبرة".
4. الذكر باللسان: "لا يزال لسانُك رَطباً من ذكر الله". 10
5. التوبة النصوح: "وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون". 11
مما يدل على أن الجهاد والرباط والغزو والنفر في سبيل الله وظيفة العمر قوله - عز وجل -: "انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون". 12
قال القرطبي - رحمه الله - مجملاً ما ورد في تفسيرها13: (والصحيح في معنى الآية أن الناس أمِرُوا جملة، أي انفروا خفت عليكم الحركة أم ثقلت).
ثم دلل على ذلك راداً على القائلين بأنها منسوخة بالآتي:
1. رُوي أن ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له: أعليَّ أن أنفر؟ فقال: "نعم"، حتى أنزل الله - تعالى -: "ليس على الأعمى حرج".
2. وأنه في غزوة أحد قال: أنا رجل أعمى، فسلموا لي اللواء، فإنه إذا انهزم حامل اللواء انهزم الجيش، وأنا ما أدري من يقصدني بسيفه فما أبرح، لكن أعطي اللواءَ مصعبُ بن عمير - رضي الله عنه -.
3. وروى ابن عباس عن أبي طلحة في قوله - تعالى -: "انفروا خفافاً وثقالاً" قال: "شباباً وكهولاً، فما سمع الله عذر أحد"، فخرج إلى الشام فجاهد حتى مات - رضي الله عنه -.
4. وروي أنس عن أبي طلحة كذلك أنه قرأ سورة "براءة" فأتى على هذه الآية: "انفروا خفافاً وثقالاً"، فقال: جهزوني جهزوني؛ فقال بنوه: يرحمك الله! لقد غزوتَ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك؛ قال: جهزوني؛ فغزا في البحر فمات في البحر، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، فدفنوه فيها، ولم يتغير - رضي الله عنه -.
5. وأسند الطبري عمن رأى المقداد بن الأسود بحمص على تابوت صَرَّاف، وقد فضل على التابوت من سمنه، وهو يتجهز للغزو، فقيل له: لقد عذرك الله؛ فقال: أتت علينا سورة البعوث: "انفروا خفافاً وثقالاً".
6. وقال الزهري: خرج سعيد بن المسيِّب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل، فقال: استنفر اللهُ الخفيفَ والثقيلَ، فإن لم يمكني الحرب كثرتُ السَّوادَ، وحفظتُ المتاع.
7. روي أن بعض الناس رأى في غزوات الشام رجلاً سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقال له: يا عمّ، إن الله قد عذرك؛ فقال: يا ابن أخي قد أمرنا بالنفر خفافاً وثقالاً.
جهاد الطلب هو أصل الجهاد وأسه :
عندما يطلق الجهاد يراد به جهاد الطلب لا غير، وهو أن تخرج طائفة من المسلمين بإمرة إمامهم أومن ينوب عنه طالبة من الكفار الدخول في الإسلام دين الحق، والتخلي عما كانوا عليه من الأديان، فإن قبلوا الإسلام فبها ونعمت، وإن رفضوا الإسلام طولبوا بدفع الجزية عن يد وهم صاغرون إن كانوا أهل كتاب، وإن لم يكونوا أهل كتاب قوتلوا أوقوتل من حال دون قبولهم للإسلام، فمن قتل فهو في النار، ومن أسر فأمره إلى الأمير إن رأى المصلحة في قتله قتل، وإن رأى المصلحة في استرقاقه استرق، وإن رأى المصلحة في قبول الفداء منه فعل.
أما غير أهل الكتاب فلا يقبل منهم غير الإسلام في أرجح قولي العلماء.
قال العبدري في "الكفاية": (اليهود والنصارى يقرون على دينهم ببذل الجزية إجماعاً، ومن لهم شبهة كتاب، وهم المجوس، يقرون على دينهم ببذل الجزية، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد اتفاقاً، ومن ليس لهم كتاب ولا شبهة كتاب وهم عبدة الأوثان، ومن عبد ما استحسن من الحيوان والجمادات لا يقرون على دينهم بالجزية، سواء كانوا عرباً أو عجماً، و به قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة في العجم نقبل منهم الجزية). 14
هذا ما يرجح نسخ قوله - تعالى -: "لا إكراه في الدين" بآيات القتال والجهاد.
والأدلة على ذلك كثيرة، منها:
1. قوله - تعالى -: "كتب عليكم القتالُ وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون". 15
2. وقوله: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد". 16
3. قوله: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون". 17
4. وقوله: "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين". 18
5. وقوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله". 19
6. وقوله: "وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم". 20
7. وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم". 21
متى شرع جهاد الدفع الجهاد الهجري؟
شرع جهاد الدفع بعد هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمدينة في حال ضعف المسلمين وعدم استطاعتهم على جهاد الطلب، فأضعف الإيمان أن يدفعوا عن دينهم، وعن وجودهم، وحريمهم، وأعراضهم، وأموالهم، وأن يقاتلوا من قاتلهم.
يقول العلامة ابن القيم - رحمه الله -: (فلما استقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وأيده الله بنصره وبعباده المؤمنين الأنصار.. فاذن لهم حينئذ في القتال، ولم يفرضه عليهم، فقال - تعالى -: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير". 22
إلى أن قال: ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم، فقال: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم"23، ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة). 24
وقال القرطبي: (وهي أول آية نزلت في القتال، قال ابن عباس وابن جبير: نزلت عند هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة). 25
لكن عندما قويت شوكة الإسلام، واشتد عوده، وصدق أتباعه وجنوده، لم يقنعوا بجهاد الدفع، بل خرجوا طائعين مختارين هاجرين للأولاد والبلاد، لتقديم هذا الدين لمن يليهم من خلق الله، ففتحوا بذلك قلوب العباد قبل البلاد، وأخرجوا من شاء الله لهم الهداية من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن عبادة العباد والحيوان والجماد إلى عبادة الواحد القهار.
فلما ركن المسلمون إلى الدنيا في عصورهم المتأخرة، وآثروا الفانية على الباقية، و"ضنوا بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم البلاء فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم"26، فصدقت فيهم نبوة نبيهم: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها"، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السبيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن"، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا، وكراهية الموت"27، فحل بهم ما حل من الذل والهوان، وتبدلت أحوالهم، وتغيرت أوضاعهم، واستهان بهم عدوهم، فتجرأ على غزو بلاد الإسلام واحدة تلو الأخرى.
ما كان لهذا أن يحدث لو كان المسلمون رافعين لراية الجهاد، باذلين للمهج رخيصة في ذات الله كما كان أسلافهم، وإليك طرفاً من أخبارهم:
1. قال خالد بن الوليد - رضي الله عنه - عندما حضرته الوفاة: "لقد خضتُ عشرين زحفاً، وليس في جسمي موضع شبر إلا وفيه طعنة برمح أوضربة بسيف، وها أنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"، إي وربي، فلا نامت أعين الجبناء.
2. وقال القائد المسلم، والبطل الهمام، عُقبة بن نافع حين وصل المحيط الأطلسي: "يارب، لولا هذا البحر لمضيتُ في مجاهداً في سبيلك"، ثم قال: "اللهم اشهد أني قد بلغتُ الجهودَ، ولولا هذا البحر لمضيتُ في البلد أقاتل من كفر بالله حتى لا يُعبَد أحدٌ من دونك". 28
3. قال ابن العربي - رحمه الله -: روي أن بعض الملوك عاهد كفاراً على أن لا يحبسوا أسيراً، فدخل رجل من المسلمين جهة بلادهم، فمر على بيت مغلق، فنادته امرأة: أني أسيرة، فأبلغ صاحبك خبري؛ فلما اجتمع به واستطعمه عنده وتجاذبا ذيل الحديث، انتهى الخبر إلى هذه المعذبة، فما أكمل حديثه حتى قام الأمير على قدميه وخرج غازياً من فوره، ومشى إلى الثغر حتى أخرج الأسيرة واستولى على الموضع - رضي الله عنه -.
وبضدها تتميز الأشياء، فقد نقل ابن العربي عن نقيض هذا الأمير، فقال: (ولقد نزل بنا العدو قصمه الله سنة سبع وعشرين وخمسمائة، فجاس ديارنا، وأسر خيراتنا، وتوسط بلادنا، في عدد هال الناس عددُه، وكان كثيراً وإن لم يبلغ ما حدّدوه، فقلت للوالي والمولي عليه: هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة، فلتكن عندكم بركة، ولتظهر منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة، فليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار فيحاط به، فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له؛ فغلبت الذنوب، ورجفت القلوب بالمعاصي، وصار كل أحد من الناس ثعلباً يأوي إلى وجَاره وإن رأى المكيدة بجاره، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل).
قلت: كأن ابن العربي يحكي حالنا، وكأنه مشاهد لواقعنا.
رب وامعتصماه انطلقت *** ملأ أفواه الضحايا اليُتَّم
صادفت أسماعهم لكنها *** لم تصادف نخوة المعتصم
متى يجب الجهاد بالنفس؟
الجهاد بالنفس يجب ويتعين في الحالات الآتية:
1. إذا استنفر الإمام الرعية وجب عليهم النفر، لقوله - تعالى -: "انفروا خفافاً وثقالاً" الآية، كما كان في تبوك، في جيش العسرة، حيث فضح الله المنافقين وأعلا شأن المؤمنين.
2. إذا كان الجهاد فرض كفاية على المرء، ثم حضر الصف، أضحى عليه فرض عين.
3. إذا هجم العدو وغزا بلداً من بلاد الإسلام تعين على أهل تلك البلاد صده ودفعه وإن لم يتمكنوا من صده تعين على من يليهم، وهكذا حتى يشمل سائر بلاد الإسلام، كحال إخواننا في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وكشمير، وغيرها.
قال الإمام القرطبي - رحمه الله -: (وذلك إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار، أوبحلوله بالعقر، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا، ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً، شباباً وشيوخاً، كل على قدر طاقته، من كان له أب بغير إذنه، ومن لا أب له، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أومكثر، فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة، حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضاً الخروج إليهم، فالمسملون كلهم يد على من سواهم، حتى إذا دفع أهل الناحية التي نزل العدو عليها، واحتل بها، سقط فرض العين عن الآخرين.
ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضاً الخروج إليه، حتى يظهر دين الله، وتحمى البيضة، وتحفظ الحَوْزة، ويُخزى العدو، ولا خلاف في هذا). 29
4. يجب على إمام المسلمين كذلك غزو العدو في كل عام مرة، وكان لبني أمية غزوتان للكفار، إحداهما في الصيف وتسمى "الصائفة"، وأخرى في الشتاء وتسمى "الشاتية"، لإدخال الكفار في دين الإسلام، ولإرهابهم، ولإشعارهم بعزة الإسلام وأهله.
جهاد الدفع يختلف عن جهاد الطلب
يختلف جهاد الدفاع عن جهاد الطلب في أمور هي:
1. في حكمه، فحكمه الوجوب، وحكم جهاد الطلب من غير نفير أنه فرض كفاية.
2. لا يشترط فيه إذن والدين ولا غيرهما، بينما يتعين إذن الوالدين في فرض الكفاية.
3. لا يشترط أن يكون تحت راية أوإمرة الإمام الأكبر للمسلمين، ولا يحتاج لإعلان، ويمكن أن يكون تحت إمرة أحد المجاهدين، كما هو الحال في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وغيرها من البلاد المغصوبة.
4. لا يشترط فيه تكافؤ العدد والعتاد، قال القاسم بن مخيمرة المتوفى 100ه: لو حمل الرجل على عشرة آلاف لم يكن بذلك بأس.
نصر المسلمين مرهون بنصرهم لله - عز وجل - "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"
لم يتفوق المسلمين على الكفار في جميع غزواتهم ومعاركهم على عدوهم في العدد ولا في العُدَّة، بدءاً ببدر الكبرى، وانتهاء "بعين جالوت" وما بعدها، وإنما كانوا يستنزلون النصر من عند الله بالآتي:
1. نصرهم لدين الله عقيدة، وشريعة، ومعاملة، وسلوكاً، وآداباً.
2. التوكل على الله والاعتماد عليه.
3. بالثبات، والصبر، والمصابرة، فما الشجاعة إلا صبر ساعة.
4. الدعاء والتضرع والابتهال.
5. بالخديعة والحيل، فالحرب خُدْعة.
6. باجتناب الذنوب والمعاصي.
روي أن عمرو بن عبد وُدٍ لما بارز علياً وأقبل عليه، قال له عليّ: ما برزتُ لأقاتل اثنين؛ فالتفت عمرو، فوثب عليه عليٌّ فضربه؛ فقال عمرو: خدعتني؛ فقال: الحرب خُدعة.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لكعب بن الأشرف، فقد آذى الله ورسـوله؟ فقـال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله يا رسول الله؟ قال: نعم؛ فأتاه، فقال: إن هذا - يعني النبي قد عنانا وسألنا الصدقة؛ قال: وأيضاً والله لتمُلنَّه؛ قال: فإنا اتبعناه فنكره أن ندعه حتى ننظر إلى ما يصير أمره؛ قال: فلم يزل يكلمه حتى استمكن منه فقتله". 30
وقد فعل مثل هذا أمير المؤمنين الهادي لما حمل عليه الخارجي وليس عنده أحد، ولا معه سلاح، فلم يتحرك من مكانه إلى أن قرب منه، فصاح: اضرب عنقه؛ كأنه يأمر أحداً من وراء الخارجي، فالتفت الخارجي إلى خلفه لينظر المأمور، فوثب عليه الهادي وثبة صار على صدره، وأخذ منه السيف وذبحه به.
ولهذا جاء في المثل: "رُبَّ حيلة أنفع من قبيلة".
وهذا يدل على جواز الخدعة في الحرب، للحديث الصحيح: "الحرب خدعة".
قال النووي: (واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد أوأمان فلا يجوز؛ قال ابن العربي: الخداع في الحرب يقع بالتعريض وبالكمين ونحو ذلك؛ وفي الحديث إشارة إلى استعمال الرأي في الحرب، بل الاحتياج إليه آكد من الشجاعة). 31
ولله در أبو الطيب حين قال:
الرأي فوق شجاعة الشجعان *** هو أول وهي المحل الثاني
أما الدعاء فهو سلاح المستضعفين، وحاجة المجاهدين إليه لا تدانيها حاجة، إذ لم يستغن عنه رسول هذه الأمة المؤيد بالوحي، والموعود بالنصر، فقد دعا صبيحة بدر الليل كله، ودعا يوم الأحزاب على المشركين، فقال: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اللهم اهزمهم وزلزلهم"32، وكذلك كان يفعل المجاهدون.
قال الطبري: (فلما كان ليلة الأضحى قيل لأسد33: إن خاقان نزل "جَزَّة"، فأمر بالنيران فرفعت على المدينة، فجاء الناس من الرساتيق إلى مدينة "بَلخ"؛ فأصبح أسد فصلى وخطب الناس وقال: إن عدو الله الحارث بن سريج34 استجلب طاغيته ليطفئ نور الله، ويبدل دينه، والله مذله إن شاء الله، وإن عدوكم الكلب أصاب من إخوانكم من أصاب، وإن يرد الله نصركم لم يضركم قلتكم وكثرتهم، فاستنصروا الله؛ وقال: إنه بلغني أن العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا وضع جبهته لله، وإني نازل وواضع جبهتي، فادعوا الله واسجدوا لربكم وأخلصوا له الدعاء؛ ففعلوا ثم رفعوا رؤوسهم وهم لا يشكون في الفتح.
قال: ثم خرج فنزل باباً من أبواب "بلخ"، وضربت له قبة، وصلى بالناس ركعتين طولهما، ثم استقبل القبلة، ونادى في الناس: ادعوا الله؛ وأطال في الدعاء، ودعا بالنصر، وأمَّن الناس على دعائه، فقال: نصر تم ورَبَّ الكعبة). 35
ثم التقى الجمعان، وكان النصر حليف المسلمين، ودحر الله الكفر والمنافقين، فهزموا شر هزيمة.
وكذلك فعل عقبة بن نافع في فتحه لشمال إفريقيا عندما استغاث الروم بالبربر فأجابوهم، حيث قام خطيباً فقال بعد حمد الله والثناء عليه: أيها الناس إن أشرافكم وخياركم الذين رضي الله - تعالى -عنهم وأنزل فيهم كتابه بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان على مجاهدة من كفر بالله إلى يوم القيامة، وهم أشرافكم والسابقون منكم إلى البيعة، باعوا أنفسهم من رب العالمين، وقد نظر إليكم في مكانكم هذا، ولم تبلغوا هذه البلاد إلا طلباً لرضاه وإعزازاً لدينه، فأبشروا، فكلما كثر العدو كان أخزى لهم وأذل إن شاء الله - تعالى -، وربكم - عز وجل - لا يسلمكم، فالقوهم بقلوب صادقة، فإن الله - عز وجل - جعلكم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، فقاتلوا عدوكم على بركة الله وعونه، والله لا يرد بأسه عن القوم المجرمين). 36
تضرع السلطان المجاهد "ألب أرسلان" في جهاده مع الروم في معركة "ملاذكُرد"37، وما أرشده إليه الفقيه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي، حيث قال: (إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله - تعالى -قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال في الساعة التي تكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة.
فلما كان تلك الساعة صلى بهم، وبكى السلطان وبكى الناس لبكائه، ودعا ودَعَوا معه، وقال لهم: من أراد الانصراف فلينصرف، فما هاهنا سلطان يأمر وينهى؛ وألقى القوس والنشاب، وأخذ السيف والدبوس، وعقد ذنب فرسه بيده، وفعل عسكره مثله، ولبس البياض وتحنط، وقال: إن قتلتُ فهذا كفني.
وزحف إلى الروم، وزحفوا إليه، فلما قاربهم ترجل وعفر وجهه على التراب، وبكى وأكثر الدعاء، ثم ركب وحمل، وحملت العساكر معه، فحصل المسلمون في وسطهم، وحجز الغبار بينهم، فقتل المسلمون فيهم كيف شاءوا، وأنزل الله نصرهم عليهم، فانهزم الروم وقتل منهم ما لا يحصى، حتى امتلأت الأرض بجثث القتلى، وأسر الملك). أما خطورة المعاصي والذنوب فيوضح ذلك ما كان عمر يقوله للغزاة: "والله أنا من ذنوبكم أخشى عليكم من عدوكم"، وقال مرة وقد تأخر النصر على المسلمين ووقف الكفار معهم من الصباح حتى المساء: "والله إلا من ذنب اقترفتموه أواقترفته أنا".
هذه هي أسباب النصر الحقيقية لدى المسلمين عند سلفهم، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
الحذر من الخوض في القضايا الانصرافية التي تلهي المسلمين عن جهاد الكفار والمنافقين
هناك قضايا انصرافية كثيرة، وشبه وفيرة، أثارها ويثيرها أعداء الإسلام قديماً وحديثاً، ويتلقفها منهم السذج والمنافقون والمثبطون عن الجهاد، ليشغلوا بها المسلمين عن جهاد الكفار والمنافقين، نحو:
1. لم ينتصر المسلمون بحد السيف!
2. هل الحرب في الإسلام جهادية أم دفاعية؟!
3. الجهاد الأكبر، هل هو جهاد النفس، أم جهاد الكفار؟!
وغيرها كثير من الأمور التي تصرف عن الجهاد وتشغلهم بالجدل والمراء فيما لا طائل من ورائه، بل وصلت الجرأة والوقاحة ببعض الأشقياء أن زعم أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الجهاد ماضٍ منذ بعثني الله وإلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل"38 قول تجاوزه الزمن، كبرت كلمة خبيثة خرجت من فيه.
هذا الحديث وإن اختلف الحفاظ في وقفه ورفعه، إلا أن الحفاظ أوردوه في دواوين السنة، وبوَّب به البخاري في صحيحه: "باب الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر". 39
قال الحافظ ابن حجر: (هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه بنحوه أبوداود وأبو يَعْلى مرفوعاً وموقوفاً عن أبي هريرة، ولا بأس برواته، إلا أن مكحولاً لم يسمع من أبي هريرة، وفي الباب عن أنس أخرجه سعيد بن منصور، وأبوداود40 أيضاً وفي إسناده ضعف). 41
أما ما يعتل به البعض من أن المراد بالجهاد الأكبر هو جهاد النفس: "عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، جهاد النفس"، فهو ليس بحديث، لا صحيح و لا ضعيف، وإنما أثر ذلك عن إسماعيل بن عُلية، ومنهم من ينسبه إلى تابعي صغير هو إبراهيم بن أبي عبلة.
ومما تجدر الإشارة إليه أن السلف لم يشيروا إلى جهاد النفس في مصنفاتهم في أبواب الجهاد أبداً، وإنما كانوا يخصون ذلك بكتب الزهد، كما فعل بعض الأئمة المجاهدين الكبار، أحمد وعبد الله بن المبارك، ولهذا فلا مجال لهذا الحديث العقيم الذي يثار حول هذه القضية، إذ الغرض من ذلك صرف الناس عن هذه الفريضة التي تعبد الله بها جميع الأمة حسب الطاقة.
يقول سيد قطب - رحمه الله - : (والذين يسوقون النصوصَ القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد، ولا يراعون هذه السمة يعني المرحلة التي مر عليها الجهاد ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة.. الذين يصنعون هذا يخلطون خلطاً شديداً، ويلبسون منهج هذا الدين لبساً مضللاً، ويحمِّلون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية، ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصاً نهائياً، يمثل القواعد النهائية لهذا الدين، ويقولون وهم منهزمون روحياً وعقلياً تحت ضغط الواقع البائس: لذرار المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان، إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع، ويحسبون أنهم يسْدُون إلى هذا الدين جميلاً بتخليه عن منهجه).
الحذر من الاستماع إلى المخذلين، والمثبطين، والمرجفين
ما أكثر المخذلين والمثبطين عن الجهاد في هذا العصر، من الإعلامين، والصحفيين، والعملاء الخونة.
لقد حذر العلماء من خطر هذا الصنف في الماضي في مصنفاتهم، ونهوا وحذروا من خطورة خروج المخذل والمرجف مع الغزاة، لما قد يحدثه من تثبيط وخذلان لغيرهم.
قال ابن النحاس - رحمه الله -: (يمنع الأمير المخذل من الحضور في الجيش، فإن خرج رده، فإن قاتل لم يستحق شيئاً، ولو قتل كافراً لا يستحق سلبه عند الشافعي وأحمد.
والمخذل هو من يخوف الناس بأن يقول: عدونا كثير، وخيلنا ضعيفة، ولا طاقة لنا بهم، ونحو ذلك.. وفي معناه المرجف، وهو الذي يكثر الأراجيف، بأن يقول: أقبلت سرية كذا، أولحقهم مدد العدو من جهة كذا، أولهم كمين في موضع كذا، ونحو ذلك). 42
فضل جهاد الكفار والمنافقين:
لقد ورد في فضل جهاد الكفار والمنافقين بأنواعه المختلفة حسب الطاقة العديد من الآيات والأحاديث والآثار، نشير إلى طرف منها للتنبيه على غيرها:
1. فهو التجارة الرابحة: "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم. وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين". 43
2. الجهاد هو مهر السلعة الغالية، وهي الجنة: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم". 44
3. وهو ذروة سنام الإسلام. 45
4. "من مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق". 46
5. "من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا". 47
6. "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض". 48
7. وعن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله، ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: "لا تستطيعونه"؛ فأعادوا عليه مرتين وثلاثاً، كل ذلك يقول: "لا تستطيعونه! "، ثم قال: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله". 49
8. الجهاد أقصر طريق إلى الجنة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن عمرو بن أقيَش كان له رباً في الجاهلية، فكره أن يسلم حتى يأخذه، فجاء يوم أحد، فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بأحد؛ قال: أين فلان؟ قالوا: بأحد؛ فقال: أين فلان؟ قالوا: بأحد؛ فلبس لامته وركب فرسه، ثم توجه قِبلهم، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا يا عمرو، قال: إني قد آمنت؛ فقاتل حتى جرح، فحمل إلى أهله جريحاً، فجاءه سعد بن معاذ، فقال لأخته: سليه حمية لقومك، أوغضباً لهم، أم غضباً لله؟ فقال: بل غضباً لله ولرسوله؛ فمات، فدخل الجنة وما صلى لله صلاة". 50
كن أخي المسلم مجاهداً.. ولاتكن الخامس فتهلك:
كن أخي المسلم مجاهداً بنفسك ومالك، أوناوياً لذلك، أوخالفاً غازياً ومجاهداً في أهله، أوداعياً للمجاهدين مهتماً بأمرهم، ولا تكن الخامس وهو المخذل، المثبط، المرجف، الساهي، اللاهي عن ذلك فتهلك الهلاك المبين، وتخسر الخسران العظيم، وتندم الندم حيث لا ينفع الندم.
شبه ودحضها:
ينعق بعض المسلمين بشبه ومآخذ ترفع في وجه جهاد الدفع الذي تمارسه فئة قليلة من المسلمين المضطهدين في دينهم المغلوبين على أمرهم، المتخلين عنهم إخوانهم، والخاذلين لهم ولاة أمرهم، تقليداً لما يثيره الكفار وعملاؤهم، والمرجفون من المسلمين في البلاد التي غزاها الكفار في حربهم الصليبية الحالية، مع غياب الحقائق عنا غياباً تاماً بسبب التعتيم الإعلامي، والإرهاب الذي مارسه الكفار مع الفضائيات والصحفيين وغيرهم، حيث يحرم تصديق وقبول ما يصدر من الكفار والحكم به، جعلت البعض يشكك في شرعية هذا الجهاد، أويتردد في قبوله، أويسكت عن الدفاع عنه، من تلكم الشبه ما يأتي:
1. هل الجهاد القائم في العراق مثلاً مشروع؟
ونقول: إن لم يكن هذا الجهاد مشروع فلا يشرع جهاد أبداً، إذ:
لا يصح في الأذهان شيء *** إذا احتاج النهار إلى دليل
2. العمليات الجهادية الاستشهادية :
العمليات الاستشهادية التي يمارسها البعض وهم مكرهون عليها إذ لم يجدوا غيرها طريقاً لدفع العدو الصائل الماكر المتفوق عليهم، التي يصفها البعض بأنها عمليات انتحارية، ومن ثم لا يجوزون الإقدام عليها.
وبادئ ذي بدء لابد أن نقرر أن اختلاف أهل العلم في مثل هذه الأمور الحادثة أمر بدهي لأن كلاً منهم ذهب إلى ما أداه إليه اجتهاده.
والذي يترجح لدي أنها لا علاقة لها بالانتحار من قريب ولا من بعيد، وأنها جائزة عند الضرورة، فالضرورات تبيح المحظورات.
إن لم يكن إلا الأسنة مركباً *** فما حيلة المضطر إلا ركوبها
وذلك بالشروط التالية:
أن يمارسها مسلم.
أن يبتغي بذلك أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
أن يترجح لممارسها أنها تنكي بالعدو.
أن لا ينوي بها التخلص من الحياة ومما يعانيه من فتن.
ويمكن أن يستدل على جوازها ببعض الممارسات التي قام بها بعض أبطال المسلمين، على سبيل المثال لا الحصر نحو:
ما فعله غلام أصحاب الأخدود، حيث دل الملك على كيفية قتله، ووصف له ذلك كأنه هو الممارس له، والدال على الشيء كفاعله.
ما فعله البطل البراء بن مالك، حيث طلب أن يوضع على أسنة الرماح ويرمى به داخل الحديقة ليفتحها، مع يقينه بنتيجة هذه المغامرة التي خاضها.
انغماس كثير من المجاهدين في صفوف الأعداء كان سبباً لكسر العدو، ونصرهم على الكفار، ورد أبي أيوب وغيره على المعترضين الواصفين لهذا العمل بأنه من باب التهلكة والانتحار، فبين لهم أبو أيوب أن التهلكة الحقيقية في ترك الجهاد، والركون إلى الدنيا، وعدم الإنفاق في سبيل الله.
ولا أشك أبداً أن كثيراً من المجاهدين في الماضي لو تيسَّرت وتوفرت لديهم هذه الأحزمة الناسفة لما ترددوا في لبسها.
من أراد الاستزادة من هذه الشواهد فعليه بكتاب: "مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق، ومثير الغرام إلى دار السلام"، في الجهاد وفضله للمجاهد العالم البطل ابن النحاس، المتوفى 814ه، وهو عبارة عن مجلدين، مطبوع، ومحقق.
3. التمثيل بقطع الرؤوس والحرق بالنار :
لقد نهى الإسلام عن التمثيل، وعن التحريق بالنار، والتدخين، ولم يبح ذلك إلا بمن مثل، فمن مثل مُثل به، ومن عفى وأصلح فأجره على الله، وهذا النهي يشمل المسلم والكافر، ومن أهل العلم من يقول هذا خاص بالقصاص.
وعندما عزم رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أن يمثل بسبعين من المشركين، عندما مُثل بحمزة - رضي الله عنه -، كف عن ذلك بعد نزول قوله - تعالى -: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتهم لهو خير للصابرين". 51
خرَّج البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد باب: "لا يعذب بعذاب الله"52 بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث فقال: إن وجدتم فلاناً وفلاناً فأحرقوهما بالنار؛ ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أردنا الخروج: إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما". 53
قال الحافظ ابن حجر: (واختلف السلف في التحريق، فكره ذلك عمر وابن عباس وغيرهما مطلقاً، سواء كان ذلك بسبب كفر، أوفي حال مقاتلة، أو كان قصاصاً، وأجازه علي وخالد بن الوليد وغيرهما.. قال المهلب: ليس هذا النهي على التحريم بل على سبيل التواضع، ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة، وقد سَمَل النبي - صلى الله عليه وسلم - أعين العرنيين بالحديد المحمى، وقد حرق أبو بكر البغاة بالنار بحضرة الصحابة، وحرق خالد بن الوليد ناساً من أهل الردة، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون والمراكب على أهلها، قاله الثوري والأوزاعي.
وقال ابن المنير: لا حجة فيما ذكر للجواز، لأن قصة العُرَنينن كانت قصاصاً أومنسوخة كما تقدم، وتجويز الصحابي معارَضٌ بمنع صحابي آخر، وقصة الحصون والمراكب مقيدة بالضرورة إلى ذلك إذا تعين طريقاً للظفر بالعدو، ومنهم من قيده بأن لا يكون معهم نساء ولا صبيان كما تقدم.
وأما حديث الباب فظاهر النهي فيه التحريم، وهو نسخ لأمره المتقدم، سواء كان بوحي إليه، أوباجتهاد منه، وهو محمول على من قصد إلى ذلك في شخص بعينه.
وقد اختلف في مذهب مالك في أصل المسألة، وفي التدخين54، وفي القصاص بالنار). 55
الراجح أن مَنْ مثل مُثل به، خاصة في حال الحرب، واختلفوا فيما دون ذلك، فمن أهل العلم من أجاز التمثيل والحرق ونحوهما في حال الحرب، وحملوا الحديث على أنه قضية معينة، ومنهم من منع إلا بمَن مثل.
فقد صحَّ أن علياً - رضي الله عنه - حرق زنادقة الرافضة الذين ألهوه بعد أن قتلهم، وأن أبابكر وخالد حرقا بالنار.
أما قطع رؤوس أئمة الكفر المحاربين، فقد قطع القائد البطل البطال بن عمرو رأسَ شمعون قائد الكفار في فتح عمورية، وألقاه بين يدي مَسْلمة بن عبد الملك56، فكبًّر مَسْلمة، وكبَّر المسلمون معه.
كذلك حز البطال أيضاً رأس "أقربطون"، ورفعه على رمحه، ثم كبَّر، وكبَّر المسلمون معه.
4. حبس الرهائن مقابل فك بعض أسرى المسلمين :
هذا من الأمور المتعارفة في الحروب قديماً، مع العلم أن جل هؤلاء من "الموساد"، والجواسيس، والعملاء، سيما في العراق، وإن تزيوا بزي الصحفيين، والإغاثيين، والمتطوعين.
لِمَ ينكر الناس على المسلمين ما لا ينكرونه على عدوهم الغاشم، المتسلط، الظالم، الذي غزاهم في ديارهم، ومارس في حقهم أبشع أنواع الظلم والاضطهاد والإذلال، كما حدث في "أبو غريب" وغيره وفي أفغانستان:
حـرام على بلابـل الدوح حلال *** على الطير من كل جنس؟!
ما يمارسه هؤلاء القوم من حبس الرهائن مقابل أن يفك من أسراهم مطلب عادل، ومسلك مشروع في الحرب، فأي غضاضة في ذلك؟!
5. قتل الأطفال :
لا شك أنه لا يحل قتل النساء، والأطفال، والشيوخ، والعجزة، غير المحاربين ولا المعينين على الحرب، ولكن عندما احتبس بعض المجاهدين الشيشانيين طلاب مدرسة كرهائن للضغط على الغزاة أن يفكوا بعض أسراهم قامت الدنيا ولم تقعد، أما عندما يُقتل أبناء المسلمين في العراق، وفلسطين، والشيشان، وكشمير، وغيرها من البلاد، حسياً أو معنوياً، كما يفعله اليهود في فلسطين، وكما فعله الأمريكان في الحصار الذي ضُرب على العراق قبل غزوه، لا يحرك العالم ساكناً، ولا تثار ضجة إعلامية، ولا يفرض على الجميع أن يدينوا ذلك، وهذا من الظلم المبين، والكيل بعدة مكاييل.
ما ينبغي للمسلمين أن يقوموا به تجاه إخوانهم المضطهدين في الفلوجة وغيرها من الديار المغصوبة:
من أوجب الواجبات على المسلمين نحو إخوانهم المضطهدين نصرهم وإعانتهم وتقديم يد العون لهم، وخذلانهم والتخلي عنهم من الذنوب العظيمة، والآثام الجسيمة، وهو أقل ما تمليه عقيدة الولاء والبراء على أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإليك الأدلة:
1. قال - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً"57، وشبَّك بين أصابعه.
2. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". 58
3. وقال: "المسلم أخو المسلم لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام، عرضه، وماله، ودمه". 59
ويكون نصر المسلمين لإخوانهم المجاهدين المضطهدين في العراق، وفلسطين، وأفغانستان، وغيرها من البلاد بالآتي:
1. مدهم بما يحتاجون إليه من المال، من الزكاة الواجبة وغيرها، فهم أحق بها وأهلها، فالإنفاق في سبيل الله من أجل القربات.
2. الفرح لانتصاراتهم، والحزن والألم لنكباتهم.
3. الدعاء والتضرع والقنوت لهم في الصلوات المكتوبة وغيرها، والدعاء الصادق سبب في تحويل القلوب من الغواية إلى الهداية، إن الدعاء الصادق وسيلة اتصال عظمى تقطع حُجُب الليل البهيم، وتتجاوز طبقات الفضاء العالية، لتصل إلى مدبَِّر الكون جل جلاله، فيكون بهذا الدعاء هداية الحيارى، ونصر المظلومين، وكشف الكربات:
أتهـزأ بالدعـاء وتزدريه *** وما تدري بما صنع الدعاءُ؟
جنود الليل لا تخطي ولكن *** لها أجـل وللأجل انقضاءُ
4. الاهتمام بأخبارهم والحرص على معرفة ما يجري لهم عن طريق متابعة الفضائيات والشبكات، نسبة لما يفرضه الكفار من تعتيم إعلامي ظالم.
5. توعية المسلمين وتبصيرهم بما يلاقيه هؤلاء القوم من الويلات، وبما يجب عليهم فعله، وحضهم على الدعاء لهم والإنفاق عليهم.
6. إزالة الشبه التي يثيرها البعض عن هذا الجهاد المشروع، وعن هؤلاء القوم المظلومين.
7. الكتابة في الصحف، والمجلات، وفي الشبكات، وكل ما تيسر من وسائل الإعلام المقروءة، والمسموعة، والمرئية.
8. على الخطباء وأئمة المساجد أن يحرصوا على شرح هذه القضية، وأن يلحوا في الدعاء والقنوت لهم.
9. وأي وسيلة أخرى يمكن أن يُعان بها هؤلاء القوم.
والله الموفق للخيرات، والهادي إلى أقوم الصراط.
اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الكفر والفسق والعناد، وانشر رحمتك على العباد، واجعلها بلاغاً للحاضر والباد، اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفتن والآثام، وانصر المجاهدين، وأذل الكفر والكافرين، وأنزل عليهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين، والصلاة والسلام على إمام الغر المحجلين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
منقول
المحب في الله