أي عصمة لدعاة المعروف ؟!
الشيخ نزيه مطرجي
إن مَثَل وظيفة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، كمَثل الفريضة الغائبة، يُعرض عنها الكثير، ولا يعرف حقها إلا القليل. يتوارى الواعظون يوماً بعد يوم إشفاقاً من ثِقل المهام، ويتخافت صوت المرشدين عاماً تلو عام تهيّباً من الافتضاح بين الأنام!
إذا سألت صاحباً لك: ألا تعظ أصحابك؟ أجاب: أكره أن أقول ما لا أفعل؟ وإذا عاتبتَ أخاك بقولك: لم تترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر؟ قال: أخشى أن أُفتضح يوم القيامة بآيات القرآن الثلاث: التي في البقرة والصّف وهود، التي تُقرّع الذين يأمرون الناس بالبرّ وينسَوْن أنفسهم، والذين يقولون ما لا يفعلون، والذين يُخالفون الناس إلى ما ينهونهم عنه!
إن الأصل في سلوك الواعظ أن يعمل بعلمه، وأن لا يكذِّب قولُه فعلَه، ولا يخالف ظاهرُه باطنه. فكيف يعظ غيره من لم يعظ نفسه؟ وكيف يدعو إلى الاستقامة من لم يستقم بعد؟ ومتى يستقيم الظلّ والعود أعوج؟ يقول أحد الصالحين: أما الوعظ فإني لا أرى نفسي أهلاً له، لأن الوعظ زكاةٌ نصابُه الاتعاظ، فمن لا نصابَ له كيف يُخرج الزكاة؟
إن العالِم إذا لم يعمل بما يقول زَلَّت موعظته عن القلوب كما يزلّ القَطْر عن الصَّفا!
ولكن لا بد من إحياء فريضة الأمر بالمعروف، فليس كلّ من وصف الدواء يستعمله، ولا كل من وصف التُّقى ذا تقى! وليس من شروط الاحتساب العِصْمة. ولو لم يعظ إلا معصوم من الذّنب والزَّلل إذاً لم يعظ بعد رسول الله أحد! لأنه لا نبيّ بعده، ولا عصمة لبشر بعده..بل لا عصمة لصحابة الرسول الأكرم [، سواءٌ منهم مَن كُلِّفنا بالاعتصام بسنَّتهم، أو مَن دونَهم.
فالخَطَّاؤون لا يُعصَمون، ولا يزالون يَزِلّون منذ أَسْلمهم أبوهم آدم إلى مَلكوت الأرض، وارتحل إلى مَلكوت الغيب، إلا الذين اصطفاهم الله - تعالى -بالوحي والنبوّة، فإن الله قد اصطفى صَفَايا من خَلْقه، ولولا الاصطفاء لاسْتوت الذَّوات والأَعيان، والأمكنة والأزمان.ورد في السنّة المطهّرة: «والذي نفسي بيده لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يُذنبون فيستغفرون الله - تعالى - فيغفر لهم» رواه مسلم.
كان لأحد العلماء مجلس للوعظ، فجلس يوماً فنظر إلى من حوله وهم خَلْق كثير، وما منهم أحد إلا قد رقّ قلبه أو دمعت عينه، فقال لنفسه: كيف بكِ إن نجا هؤلاء وهلكتِ أنتِ؟! ثم قال في نفسه: اللهمّ إن قضيت عليّ غداً بالعذاب، فلا تُعلِم هؤلاء بعذابي، صيانةً لكرمك لا لأجلي، لئلاّ يُقال: عذَّب من كان في الدنيا يُدِلّ عليه!
فلا يفتأ الهُداة الراشدون والأئمّة العاملون يجمعون بين تبليغ الرسالة وأداء الأمانة، وهم لا يطمعون أن يَبْلغوا رُتبة العِصمة من الأوزار والطُّهر من الأَوْضار، فإن تولَّوا بحجّة نقيصة الآدميّة الوازِرة، فمَن للأمة غيرهم؟
يقول الشاعر:
لئن لم يعظِ العاصينَ مَنْ هو مذنبٌ *** فمن يَعظ العاصين بعد محمدِ؟
من كان منا يزعم أنه لا يتكلم ولا ينصح ولا يأمر ولا ينهى مخافة أن يقول ما لا يفعل، فأيّنا يفعل كل ما يقول؟ ودَّ الشيطان لو أنه قد ظفر بمثل هذا، إذاً لاتخذ ذلك الموقف له عيداً!
لو أن المؤمن لا يعظ حتى تصفو نفسه، ويُحصي القرآن والسنّة في أقواله وأفعاله، لانتهى شأن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكَر، واستُحِلَّت المحارم، ورضي الواعظون والنّاصحون أن يكونوا مع القاعدين والخَوالف!
فلا يحلّ لمؤمن أن يتذرّع بطلب العِصَم من المأثم ليستعفيَ من الواجب القرآني المحتَّم؛ فدع عنك هذا الزّعم، واسعَ إلى الأخذ بدقة الفَهم، وليضرب كلّ منا في دعوة المعروف بسهم!
منقول
المحب في الله