الرقى بأم الكتاب
بقلم »</U> الشيخ سليم بن عيد الهلالي
في هديه صلى الله عليه وسلم في العلاج العام لكل شكوى بالرقية( 1) الإلهية
عن أبي سعيد الخدري: أن جبريل - عليه السلام - أتى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: " يا محمد! اشتكيت؟ فقال: نعم"، فقال جبريل –عليه السلام-: "باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شرِ كل نفس، أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أَرقيك" (2 ) .
فإن قيل: فما تقولون في الحديث الذي رواه أبو داود: "لا رقية إلا من عين، أو حمة"
والحمة: ذوات السموم كلها .
فالجواب: أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد به نفي جوازِ الرقية في غيرها؛ بل المراد به: لا رقية أولى وأنفع منها في العين والحمة، ويدل عليه سياق الحديث؛ فإن سهل بن حنيف قال له- لما أصابته العين-: أوَ في الرُّقى خير؟ فقال: "لا رقية إلا في نفس أو حمة"، ويدل عليه سائرُ أحاديث الرقى العامة والخاصة(3 ).
ومن حديث أنس، قال:" رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العينِ، والحمة، والنملة" ( 4).
في هديه صلى الله عليه وسلم في رُقية اللَّدِيغ بالفاتحة
عن أبي سعيد الخدري، قال: انطلق نفر من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في سفرةٍ سافرُوها، حتى نزلوا على حيٍّ من أحياء العرب، فاستضافوهم، فَأبَوا أن يُضِّيفُوهم، فَلُدغ سيِّدُ ذلك الحي، فَسَعْوا له بكُلِّ شيء لاَ يَنْفْعَهُ شيء، فقال بعضهم: لو أتيتُم هؤلاء الرهطِ الذين نزلوا لعلهم أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم، فقالوا : يا أيها الرهطُ! إن سيِّدَنَا لُدِغَ، وسَعينا له بِكُلِّ شيء لا يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِندَ أحدٍ منكم من شيء ؟ فقال بعضُهم: نِعم والله إني لأَرْقي، ولكن استَضَفْنَاكُم، فلم تُضيِّفُونا، فما أنا بَرَاقٍ حتى تَجْعَلُوا لنا جُعلاً، فصالحَوهم على قَطيعٍ مِن الغنم، فانطلق يَتْفُل عليه، ويقرأ:( الحمد لله رب العالمين )؛ فكأنما نشِطَ مِن عقَال، فانطلق يمشي وما به قَلَبَةٌ( 5) ، قال: فأَوْفْوهُم جُعْلَهُم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضُهم: اقتسِمُوا، فقال الذي رَقَى : لا تفعلوا حتى نأتيَ رُسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فنذُكَر له الذي كان، فننظُرَ ما يأمُرنا، فَقَدِمُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له ذلك، فقال:"وما يدرِيك أنَها رقية؟" ثم قال: "قد أصبتم، اقسموا واضرِبوا لي معكم سهما"(6 ).
ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواصُّ ومنافع مجربة؛ فما الظنُّ بكلام ربّ العالمين، الذي فضله على كلٍ كلام؛ كفضلِ الله على خلقه؛ الذي هو الشفاء التام، والعصمة النافعة، والنور الهادي، والرحمة العامة، الذي لو أنزل على جبل لتصَّدع من عظمته وجلالته، قال -تعالى-:
( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للعالمين ) [ الإسراء:82]، و(مِن)- ها هنا- لبيان الجنس، لا للتبعيض، هذا أصَحُّ القولين؛ كقوله -تعالى-:
( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) [ الفتح:29]، وكلُّهُمْ مِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فما الظنُّ بفاتحة الكتاب التي لم يُنزل في القرآن، ولا في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور مثلُها، المتضمنة لجميع معاني كتب الله، المشتملة على ذكر أصول أسماء الرب - تعالى – ومجامعها، و هي: الله، والرب، والرحمن، وإثبات المعاد، وذكر التوحيدين: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وذكر الافتقار إلى الربِّ –سُبحانه- في طلبِ الإعانة وطلب الهداية، وتخصيصه –سبحانه- بذلك، وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق وأنفعه وأفرضه، وما العبادُ أحوج شيءٍ إليه، وهو الهدايةُ إلى صراطه المستقيم، المتضمن كمال معرفته وتوحيده وعبادته بفعل ما أَمَرَ به، واجتناب ما نَهَى عنه، والاستقامة عليه إلى الممات، ويتضمن ذِكر أصنافِ الخلائق وانقسامهم إلى مُنْعمٍ عليه بمعرفة الحق، والعمل به، ومحبته، وإيثاره، ومغضوب عليه بعدُوله عن الحق بعد معرفته له، وضال بعدم معرفته له .
وهؤلاء أقسامُ الخليقة مع تضمنها لإثبات القدر والشرع، والأسماء والصفات، والمعاد، والنبوات وتزكية النفوس وإصلاح القلوب، وذكر عدل الله وإحسانه، والرد على جميع أهل البدع والباطل؛ كما ذكرنا ذلك في كتابنا الكبير "مدارج السالكين " في شرحها . وحقيق بسورةٍ هذا بعضُ شأنها: أن يُستشفى بها من الأدواء، ويُرقى بها اللديغُ .
وبالجملة: فما تضمنته الفاتحةُ من إخلاص العبودية والثناء على الله، وتفويضِ الأمر كُلِّه إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وسؤاله مجامع النِّعم كلها، وهي الهداية التي تجلبُ النعم، وتَدفعُ النِّقم، من أعظم الأدوية الشافية الكافية.
وقد قيل: إن موضع الرُّقية منها: إياك نعبد وإياك نستعين. ولا ريبَ أن هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدواء، فإن فيهما من عموم التفويض والتوكل، والالتجاء والاستعانة، والافتقارِ والطلب، والجمع بين أعلى الغايات ،وهي عبادةُ الرَّب وحده، وأشرف الوسائل وهي الاستعانةُ به على عبادته ما ليس في غيرها.
ولقد مَّر بي وقت بمكة سَقْمِتُ فيه، وفَقَدْتُ الطبيبَ والدواء، فكنت أتعالج بها: آخذ شربةً من ماء زمزم، وأقرؤها عليها مَراراً، ثم أشربه، فوجدتُ بذلك البَرء التام، ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع، فأنتفع بها غايةَ الانتفاع(7 ).
فصل
وفي تأثير الرُّقى بالفاتحة وغيرها في علاج ذوات السُّموم سِر بديع، فإن ذوات السموم أثرت بكيفيات نفوسِها الخبيثة؛ كما تقدم، وسِلاحها حُماتها التي تلدَغُ بها، وهيَ لا تلدغ حتى تغضَب، فإذا غضبت: ثار فيها السُّمُّ؛ فتقذفه بآلتها، وقد جعل اللهُ –سبحانه- لكل داءٍ دواءً، ولكل شيء ضِداً، ونفس الراقي تفعلُ في نفس المرقي، فيقعُ بين نفسيهما فعل وانفعال؛ كما يقع بين الداء والدواء، فتقوى نفسُ الراقي وقوته بالرقية على ذلك الداء، فيدفعُه بإذن الله، ومدارُ تأثير الأدوية والأدواء على الفعل والانفعال، وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيين، يقع بين الداء والدواء ال******ين، وال****** والطبيعي. وفي النفث والتّفل استعانة بتلك الرطوبة والهواء، والنفس المباشر للرقية، والذكر والدعاء، فإن الرقية تخرُج من قلب الراقي وفمه، فإذا صاحبها شيءٌ من أجزاء باطنه من الريق والهواء والنفس، كانت أتمَّ تأثيراً، وأقوى فعلاً ونفوذاً، ويحصُل بالازدواج بينهما كيفية مؤثرة شبيهة بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية .
وبالجملة: فنفس الراقي تُقابل تلك النفوس الخبيثة، وتزيدُ بكيفية نفسه، وتستعين بالرقية وبالنفث على إزالة ذلك الأثر، وكلما كانت كيفية نفس الراقي أقوى، كانت الرقية أتم، واستعانته بنفثه كاستعانة تلك النفوس الرديئة بلسعها .
وفي النفث سِر آخر: فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة، ولهذا تفعلُه السحرةُ، كما يفعله أهلُ الإيمان .
قال -تعالى-: ( ومن شر النفاثات في العقد ) وذلك لأن النفس تتكيَّف بكيفية الغضب والمحاربة، وتُرسِلُ أنفاسَها سِهاماً لها، وتمدُّها بالنفث والتفل الذي معه شيء من الرِّيق مصاحب لكيفية مؤثرة، والسواحِرُ تستعين بالنفث استعانةُ بينة، وإن لم تتصل بجسم المسحور، بل تنفث على العُقدة وتعقِدها، وتتكلم بالسحر، فيعمل ذلك في المسحور بتوسط الأرواح السفلية الخبيثة، فتقابِلُها الروح الزكية الطيبة بكيفية الدفع والتكلم بالرقية، وتستعينُ بالنفث فأيهما قوي كان الحكم له. ومقابلة الأرواح بعضها لبعض ومحاربتُها وآلتها مِن جنس مقابلة الأجسام، ومحاربتها وآلتها سواء، بل الأصل في المحاربة والتقابل للأرواح والأجسام آلتها وجندها، ولكن من غلب عليه الحِسُّ لا يشعرُ بتأثيرات الأرواح وأفعالِهَا وانفعالاتِهَا لاستيلاء سُلطان الحِسِّ عليه، وبُعْدِهِ من عالم الأرواح، وأحكامها، وأفعالها .
والمقصود: أن الروح إذا كانت قويةً وتكيَّفت بمعاني الفاتحة، واستعانت بالنفث والتفل، قابلت ذلك الأثر الذي حصل من النفوس الخبيثة، فأزالته، والله أعلم .
-------------------------
(1 ) الرقى لها آثار عظيمة وفوائد عجيبة تتضاءل الأفهام وتتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها.
والرقى الإلهية كلام مأثور يستشفى به من كل عارض.
(2 ) أخرجه مسلم (2186).
(3 ) وانظر -لزاماً- ما حرره الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في "فتح الباري" (10/96/5735).
(4 ) انظر (ص 229 - صحيح الطب النبوي).
(5 ) أي ما به ألم يقلب لأجله على الفراش.
(6 ) أخرجه البخاري (5749)، ومسلم (2201).
أفاد هذا الحديث جواز أخذ الأجرة على الرقية، لكن كثيراً من (المعالجين) أو (الراقين) توسعوا في ذلك توسعاً مذموماً وفساده أضحى معلوماً حيث اتخذوا الرقية رقية؛ لأكل أموال الناس بالباطل.
لقد بات الإنسان يسمع في هذا الباب كثيراً من الغرائب والعجائب:
فهناك من انقطع لهذا العمل.
وآخر دائم التجوال في البلدان في رحلات علاجية.
وثالث افتتح عيادات بل مشافي لاستقبال المرضى: فتح الملف بكذا….والمقابلة بكذا…والقراءة بكذا…والمراجعة بكذا…والجلسة الخاصة بكذا…والجلسة العامة بكذا…..إلى آخر سلسة الصيد الخبيث باسم الرقية الشرعية، وبخاصة أن كثيراً من هؤلاء المعالجين يتغنون بالانتصارات الخارقة على ملوك الجن وقادتهم الكبار وهزيمة جنودهم ودحر عساكرهم…كل ذلك يجري في حملة دعائية منظمة وحفلة تجارية مفبركة.
وإليك صور من توسعهم الذي يدل على عدم تقواهم وورعهم:
أ- بعضهم يقوم بالقراءة على (برميل) مملوء بـ(الماء) أو (الزيت)، ثم يحركه بـ (عصاه)، ثم يوزعه على (مرضاه)؛ بل (ضحاياه).
ب- آخر يقوم بالقراءة على زجاجات المياه المعدنية دون فتحها؛ لأن وقته ضيق وثمين.
ت- ثالث يجمع مرضاه في ساحة عامة، ثم يقرأ عليهم مرة واحدة في (الميكروفون)!
ث- ورابع يقرأ على مرضاه بالهاتف العابر للقارات!
د- وأخير يأخذ مرضاه إلى المقابر وفي الليل؛ ليخيف الجن...!!
ومن مفاسدهم الدينية والدنيوية:
أ- صار كثير من الناس يعتقدون أن لهذا القارىء أو الراقي خصوصية وبركة، ولم تعد ثقتهم بكلام الله، والأصل في الرقية كلام الله وليس الراقي.
ب- توهم كثير من المعالجين؛ لازدحام الناس على أبوابهم أنهم من الأولياء الأبرار! وهم –في الحقيقة- من الأغرار، بل بعضهم من الضالين الفجار!!
ت- نتيجة لرواج هذه القضية: قام كثير من المشعوذين والدجالين بالتخفي وراء الرقية؛ لممارسة الموبقات بكل أشكالها وألوانها، وارتكاب الكبائر باختلاف صورها، واتخذوها وسيلة لاصطياد النساء، والعياذ بالله.
ولقد سمعت من بعض المعالجين التائبين قصصاً يندى لها الجبين…فالله المستعان.
( 7) قال المصنف – رحمه الله- في " مدارج السالكين" (1/57-58) " …وأما شهادة التجارب بذلك؛ فهي أكثر من أن تذكر. وذلك في كل زمان وقد جرّبت أنا ذلك بنفسي وفي غيري أمور عجيبة، ولا سيما مدة المقام بمكة. فإنه كان يعرض لي آلام مزعجة، بحيث تكاد تقطع الحركة مني.
وذلك أثناء الطواف وغيره. فأبادر إلى قراءة الفاتحة وأمسح بها على محل الألم؛ فكأنه حصاة تسقط. جربت ذلك مرات عديدة. وكنت آخذ قدحاً من ماء زمزم، فأقرأ عليه الفاتحة مراراً فأشربه؛ فأجد به من النفع والقوة مالم أعهد مثله في الدواء، والأمر أعظم من ذلك. ولكن بحسب قوة الإيمان ، وصحة اليقين. والله المستعان" .
وعلق الشيخ حامد الفقي- رحمه الله- على ذلك فقال: "… وهل ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن خلفائه الراشدين، فعل شيء من ذلك؟ وقد جاعوا يوم الخندق، حتى ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه، ومرت به صعاب أشد من ذلك"
قلت: فتح باب التجارب في الشرع يؤدي إلى شر مستطير ونشر الشعوذة والدجل ورواج الأوهام.
قال شيخ الإسلام – رحمه الله- في " اقتضاء الصراط المستقيم" (ص320): "وقد يحكى من الحكايات التي فيها تأثير، مثل: أن رجلاً دعا عندها فاستجيب له، أو نذر لها إن قضى الله حاجته فقضيت حاجته. ونحو ذلك, وبمثل هذه الأمور كانت تعبد الأصنام.
فإن القوم كانوا أحياناً يخاطبون من الأوثان، وربما تقضي حوائجهم إذا قصدوها. ولذلك يجري لهم مثل ما يجري لأهل الأبداد من أهل الهند وغيرهم.
وربما قيست على ما شرع الله تعظيمه من بيته المحجوج والحجر الأسود الذي شرع الله استلامه وتقبيله، كأنه يمينه، والمساجد التي هي بيوته.
وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس، وبمثل هذه الشبهات حدث الشرك في أهل الأرض"
وقد أشبع شيخ الإسلام هذه المسألة في "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص248-356و359-365)؛ فانظره –لزاماً- تعلم أن باب التجارب في الأمور الشرعية ليس له عين ولا أثر.
على هذا الرابط :
http://almenhaj.net/TextSubject.php?linkid=6991