تأليف الشيخ / عبدالكريم بن صالح الحميد حفظه الله
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ، وعلى مَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ..
أما بعد :
فإنَّ مِمَّا أُهْمِلَ نقدُه والنظرُ فيه في وقتنا أخذ الْجُعْل على الرقية الشرعيـة لاَسِيَّما وأنه ظهر وكَـثُر حتى صار حرفةً لِكسب المال بغير حقّ ، كما أنَّ احتراف ذلك هوّن شأن العُصَاة وبغضهم مما لا قوام للدين إلا به ؛ فالراقي يرقي مَن هبَّ ودَبَّ لأنَّ مدارَ القضية على التكسُّب ، وإنَّ ذلك وإنِ اتُّخِذَ عادةً إلاَّ أنَّ الشَّرْعَ حاكم على عوائد الناس وجميع أمورهم .
ونَظراً لأَنَّ موضوعَ التكسُّب بالرقية الشرعية والتلاعب بها قد كثر في زماننا بصورة لَم يحصل لها مثيلٌ مِن قَبْل فقد جاء هذا الكتاب بحمد الله تعالى موضِّحاً خطورة ذلك ومُبيِّناً مظاهرَه وأسبابه وما يتعلق به من مواضيع ، وكاشفاً ما يدور حوله من شُبهات .
ولأَنَّ التكسُّب بالرُّقى ونحوها تكسُّب بذكر الله الذي هو القرآن وغيره فقد كان من المناسب بيان وجوب تعظيم واحترام ذكر الله تعالى وبيان بعض أسباب ومظاهِر الاستهانة به في زماننا مِمَّا كثر بصورة مخيفة لَمْ يحصل مثلها ولا مايُشابهها من قَبل ، وهذا هو موضوع القسم الثاني من الكتاب ؛ واللَّهَ نسأل أن ينفع به المسلمين ، وأن يجعله حُجَّةً لنا لا علينا يوم الدين ؛ والحمد لله ربِّ العالمين .
أحاديـث اللديـغ .. والْـجَـعَـالـة
إنَّ أعظمَ ما يحتج به مَن جعل ذلك له صنعةً ومَجْلبـةَ مـالٍ لا تَعَب فيه ولا نَصَبَ حديث قصـة " اللديـغ " الذي رُقي بسورة الفاتحـة فشُفـي ، ففي « الصحيحين »عن أبي سعيد الخدري tأن رهطاً من أصحاب رسول اللهrانطلقوا في سفْرَةٍ سافروها حتى نزلوا بحيٍّ من أحياء العرب فاستضافوهم،فأبَوْا أن يضيِّفوهم، فلَدُغ سيِّد ذلك الحيِّ ، فسعَوْا له بكل شيء ، لا ينفعه شيء ، فقال بعضهم : " لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين قد نزلوا بكم لعله أن يكون عند بعضهم شيء " .
فأتوْهم فقالوا : " يا أيها الرهـط .. إنَّ سَيِّدنا لُدِغ فسعَيْنا له بكل شيء ، لا ينفعه شيء ، فهل عند أحد منكم شيء ؟! " .
فقال بعضهم : ( نعم ، واللهِ إني لَرَاقٍ ، ولكن واللهِ لقد استضفناكم فلم تضيفونا ، فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جُعْلاً ) ، فصالحوهم على قطيعٍ من الغَنَم،فانطلق فَجَعَل يتفل ويقرأ:** الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ** حتى لكأنما نَشِطَ من عِقَال، فانطلق يمشي ما به قَلَبَة (1)، قال : فأوْفوْهُم جُعلَهم الذي صالحوهم عليه ، فقال بعضهم : اقسموا ، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي
(1) ( قلَبَـة ) بفتح القـاف واللام والبـاء ، أي : ألَـَمٌ وعِلَّـة ؛ أنظر : « النهاية في غريب الحديث والأثر » ( 4 / 98) ، و « لسان العرب » ( 1 / 687 ) .
رسول الله rفنذكر له الذي كان فننظر ما يأمرنا ،فَقَدِموا على رسـولِ الله rفذكروا لـه ، فقال : ( وما يُدريك أنها رُقيـة ! ، أصَبتم ، اقسموا ، واضربوا لي معكم بسَهم )(1) .
وأخرج البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن نفراً من أصحاب النبي rمرُّوا بماءٍ فيهم لديغ أو سَلِيم ، فعرَض لهم رجلٌ من أهل المـاء ، فقال : " هل فيكم من راقٍ ، إن في الماء رجلاً لديغـاً أو سليماً ؟!" ، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاءٍ ، فبرأ فجاء بالشاء إلى أصحابـه ، فكرهوا ذلك وقالوا : ( أخَـذْتَ على كتابِ اللهِ أجراً ! ) ، حتى قَدِموا " المدينـة " فقالوا : ( يا رسول الله .. أخَذَ على كتاب الله أجراً ! ) ، فقال رسول الله r : ( إنَّ أحقَّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ) (2).
وبعض الناس يفهم أن أخذ الأجر أو الْجُعل على إطلاقه ، وهذا خطأ ظاهـر ، قال شيخ الإسلام ابن تيميـة ~ لَمَّا ذَكَر قولـه r : ( إنَّ أحقَّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ) ؛ قال : ( وكان الْجُعْل على عافيةِ مريض القوم لا على التلاوة ) انتهى (3) ، وقـال - أيضاً - : ( فإن الْجُعل كان على الشفاء لا على القراءة ) انتهى (4) ، يعني أن الْجُعْل - وهو الأجرة - إنما هو على شرط الشفاء .
(1) أخرجه البخاري في « صحيحه » برقم ( 2156 ) واللفظ له ، ومسلم في « صحيحه » برقم ( 2201 ) .
(2) أخرجه البخاري في « صحيحه » برقم ( 5405 ) .
(3) أنظر : « مجموع الفتاوى » ( 18 / 128 ) .
(4) أنظر : « مجموع الفتاوى » ( 20 / 507 ) .
الْمُـحتـرفـون !
أمَّا ما يفعله المحترفون لهذا الأمر في وقتنا فهو خلاف ما تقدَّم بيانه ، فهم يأخذون الأجر على التلاوة ، سواء كان ذلك بمباشرة النَّفْثِ على المريض أو النفث في أدوية يُغالون في ثَمَنِها لأجل نفْثهم وقراءتهم فيها ، فيكون ما زاد على ثمنها الأصلي من أجل ذلك ! ، وقد يكتبون الرُّقَى في قراطيس يبيعونها على المريض بأثمانٍ باهظة ! ؛ وهذا كله وما شابهه لا تدل عليه قصة الحديثين حيث إنَّ الْجُعل يُدفع للراقي بعـد شفـاءِ المريض ، وهذا ظاهر هذه الأحاديث حيث جَرَت الرقية على مقتضى المشارطة على الشفاء ، فأين هذا من فعل هؤلاء الذين يأخذون المال دون شرط الشفاء ؟! ، ولو كانت ريالاً أو ريالين - مثلاً - لَهَانَ الْخَطْب ولكنها أموال باهظة يأخذونها بالباطل ! ؛ وسيأتِي- إن شاء الله تعالَى- بيان أنه لا يُشترط ثَمَن ولا على شرط الشفاء إلاَّ في مثل هذه الحالـة الاستثنائية ، ولذلك لا يُعهد عن الصحابـة y ولا العلماء بعدهم أخذ الأجرة على الرقية بهذه الكيفية التي يفعلها أهل الوقت .
وقد بلغني أن بعضهم يأخـذ ( خمسمائـة ) ريالٍ مقابل ورقة يكتبهـا لا تساوي رُبعَ ريال ! ، وبعضهم يصفّ أوانِي الْمَاء ، ثم ينفخ عليها نفْخةً ، ثم يبيعها بأغلى من ثمنها وكأنه عيسى - عليه السلام - الذي يُبرئ الأكْمَهَ والأبرصَ - بإذن الله - ! .
وبعضهم قد جعَل لِمَحَلِّه بوَّاباً أجنبياً يأخذ ممن يريد الدخول على هذا الراقي خمسة ريالات ( رَسْم الدخول ! ) ، وهذا ليس أجرة الرقية ، فتلك شيء آخر ! .
وبعضهم يَنفُث في ماء مخلوط بزعفران ، ثم يأتي برزمة أوراق فَـيُدْخِل عُوداً في الزعفران ، فيخط في كل ورقة خطوطاً ليس فيها حرفاً واحداً ويضع الورقة في الظرف ويبيعها وتباع لـه ! ، بل وبعضهم يأتي بورقة طويلة بطول القامة ، ثُم يكتب فيها بعض الآيات ويسميها " البـَدن " ، ثم يجعل قيمتها ثمانمائة وخمسين ريالاً ! ؛ وهذا كله من أكل أموال الناس بالباطل تحيّـلاً بالدِّين بلا شرط على الشفـاء مُسَبَّق - كما في الحديثين المتقدِّمَين - ؛ فتأمَّل ! .
الـقـرآن والـدِّيـن لـيـس حـرفـة للتـكَـسُّـبوأخـذ الأجـرة عـلى الـرقـيـة يـورث
تـمـنـِّي
وليعلم كل مَن جعل القرآن الكريم وعِلم الدِّين حِرْفَـةً له ومصدرَ رِزقٍ أنه مُخَالف لسلف هذه الأمة المقتدى بهم ، لأن قدوتهم في ذلك الأنبيـاء والمرسليـن - عليهم الصلاة والسلام - الذين أخبر الله عنهم أنهم لا يسألون الناس أجراً على تبليغ دين ربهـم ، ونُصْرَتِه ، ونفعهمُ الناسَ في ذلك ؛ حيث قال - سبحانه وبحمده - على لسان رسوله الكريم ( نـوح ) - عليه السـلام - : ** وَيَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ **(1) ، وقال - سبحانـه - على لسان ( هود ) - عليه السلام - :** يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْـراً إِنْ أَجْـرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُـونَ **(2) ، وقال على لسان ( صالح ) - عليه السلام - : **وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ **(3) ، وكذلك قـال على لسان ( لـوط) (4) و (شعيب) (5) - عليهما السلام-؛ وهكذا جميع رُسُل اللهِ تعالى - عليهم الصلاة والسلام - ، فهم لا يسألون الناس جُعـلاً ولا أجـراً على دعوتهم ونفعهم وإنقاذهم من النـار - بإذن الله - ، بل لا يرجون الثواب والأجر إلا من اللهِ أكرم الأكرمين - سبحانه وبحمده - .
وتأمل ما فعَلَه العبد الصالح ( حَبيب النجار ) حينما جاء من أقصى بلده يشتد في السعي نحو قومه يدعوهم إلى اتباع مَن لا يسألهم جُعلاً ولا أجراً - وهم رُسُل الله - حيث قال الله - تبارك وتعالى - عنه : ** وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ۞ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ**(1) .
وقال ابن كثير ~ على قول الله تعالى : ** أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ **(2)، قال : ( قال «الْحَسَن»" أجراً " ،وقـال «قتادة »" جُعْلاً "، ** فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ ** أي أنت لا تسألهم أُجرةً ولا جُعْلاً ولا شيئـاً على دعوتك إياهم إلى الهـدى ، بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه كما قال : ** قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ **(3)، وقال : ** قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ**(4)) انتهى (5)؛ فهذه هي حال الأنبياء والمرسلين في خدمتهم الدِّين ودعوتهم إليه حيث لا يبتغون على ذلك الأجرَ إلاَّ من الله - تعالى - ، لكن انظر اليوم إلى الدِّين وقد اتُّخِذ حِرفةً وتجارة في كل المجالات ، حيث أصبح طَلَب العلم والإمامة والأذان والرقيـة وغير ذلك من أكبر ما يتنافس فيه المتنافسون اليوم لطلب الدنيا والحصول على المال ! .
وقد جاء في الحديث الصحيح الوعيد الشديد فيمن طَلَب العلمَ للدنيا بأنه لَم يَجِد ريحَ الجنةِ يوم القيامة فضلاً عن أن يدخلها ! ، فَعَن «أبي هريرة »tأنَّ رسول الله rقـال : ( مَن تعلَّم عِلْماً مِمَّـا يُبتَغَى به وَجهُ اللهِ - عزَّ وَجَلَّ- لاَ يَتعلمه إلاَّ ليصِيبَ به عَرَضاً من الدنيا لَمْ يجد عُرْفَ الجنةِ يوم القيامة - يعني ريحها - ) (1) .
وكذلك الأذان حيث جاء النهيُ عن اتخـاذ مؤذناً يأخذ على أذانه أجراً ، فعَن «عثمان بن أبي العاص »tقال : قلت : " يا رسول الله .. علِّمني القرآنَ واجعلني إمامَ قومي" ؛ قال : فقال r : ( أنتَ إمامهم واقتدِ بأضعفهم ، واتَّخِذ مُؤَذِّناً لاَ يأخُذ على أذانه أجراً ) (2) .
وفي رواية أخرى عن «عثمان بن أبي العاص» أنه قال : ( إنَّ آخر ما عَهِد إلينا رسول اللهr أنْ أتَّخِذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجْراً ) (1) .
فإذا كان هذا في الأذان فما بالك بالإمامة حيث هي أولى بالتحذير من أن يُتخذ عليها أجراً ! .
وقد قال أمير المؤمنين في الحديث « سفيان الثوري »(2) لرجل ضَرِير كان يجالسه فإذا كان شهر رمضان يخرج إلى " السَّواد " فيصلي بالناس ، فَـيُكْسَى ويُعْطَى ، فقال سُفيان : ( إذا كان يوم القيامة أُثِيبَ أهلُ القرآنِ مِن قراءتهم ، ويُقال لِمِثْل هذا : " قد تعجَّلت ثوابك في الدنيا " ) ، فقال : يا أبا عبد الله .. تقول لي هذا وأنا جليسك ؟! ، فقال « سفيان » : ( أخاف أن يقال لي يوم القيامة كان هذا جليسك أفَلاَ نَصَحتَه ؟! ) انتهى (3) .
إنَّ الفاسق وحتى الكافر إذا رأى مَن يتديَّن وقد اتخذ الدِّينَ بضاعةً وتجارةً وحِرْفةً - كما هو حاصل اليوم في كل المجالات ؛ لكن الكلام هنا على التكسب بالرقى- فإنه يظن أنَّ هؤلاء يمثلون حقيقة الدين ، وأن السلف على هذه السيرة ؛ فقد يزهد فيه أو يقتدي بهؤلاء فيسلك طريقَ كَسْبِ الدنيا بالدين بلا عناءٍ كَمَا قال أبو سفيان « صالح بن مهران »~ : ( وضَعوا مفاتيحَ الدنيا على الدنيا فلم تنفتح ، فوضعوا عليها مفاتيح الآخرة فانفتَحَت ! ) (1) .
وقد سُئل « عبدُ الله بن المبارك » عن سَفَلة الناس ؟! ، فقال : ( الذي يأكل بدِينِه ! ) (2) .
وقال « سفيان الثوري »~ : (إنَّ أقبحَ الرغبة أن تطلب الدنيا بعمل الآخرة ) انتهى(3).
ولا شك أنه من الإساءة للدِّين وتشويه حُسْنِهِ وجَمَالِهِ أنْ يكون وسيلةً للتعـيُّش والكسُّب ، وإنما منَّ الله على عبادِهِ بإنزال هذا القرآن والحكمة غذاءً للقلوب ونعيماً للأرواح وليسعد المهتدي بذلك في الدنيا بالحياة الطبية ، قال تعالى : ** فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ** (4) ، وفي الآخرة رضوان الله والنعيم المقيم .
ومع هذا فأخْذ الأجرة على الرقية بشرط الشفاء يعني أن لا يأخذ شيئاً إلاَّ إذا شُفِيَ المريض أو المصروع ، ولا يكون ذلك حِرفةً وتكسُّباً - كما يُفعل في وقتنا - ، ولا بهذا التخليط والتلاعب الحاصل في كل بلد ، فهذا أهون .