إن لم تستح ِ من الله فأفعل ما شئت
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أن من لوازم الإيمان الحياء، الله عز وجل يقول:
﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) ﴾
(سورة العلق)
لا شك أن أي واحد منا إذا كان في حضرة إنسان من وجهاء قومه محترم يخجل أن يكون له وضع شاذ في جلسته، ومنطقه، وحركته، وتعبيره، وكلامه، والإنسان حينما يراقب الله عز وجل، ويشعر أنه في قبضته وحركته وسكنته وأقواله في علم الله عز وجل، علمك أن الله يعلم يولد حالة في نفس المؤمن هي الحياء.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) ﴾
(سورة النساء)
لكن سبحانك ! يا رب، شعور الإنسان أن الله معه ليس متعباً، لو أن إنسانًا معك لم يفارقك إطلاقاً لا تحتمل، وهو معكم، لكن الله لطيف، معنا من دون أن تكون هذه المعية عبئاً علينا، لكنه يرى، ويسمع، وهو رقيب علينا.
شيء آخر، مهما تصورت دقائق الأمور فهي في علم الله لا تخفى عليه خافية.
﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) ﴾
(سورة غافر)
والحقيقة أن خائنة الأعين ليس في مقدور البشر كشفها، يمكن أن تختلس نظرة، ولا تستطيع جهة في الأرض أن تضبطك بها، ومع ذلك هذه النظرة يعلمها الله عز وجل، فكلما نما إيمانك، وعلا قدر الله عندك، وكلما شعرت أنه معك، وأنه ناظر إليك انعكست في نفسك حالة رائعة هي الحياء.
أيها الإخوة، تكاد تكون هذه الصفة فاصلة بين من يستحي، ومن لا يستحي، الذي لا يستحي بعيد عن الله، جاهل بعظمة الله عز وجل، المؤمن يستحي، تجلس مع المؤمن سنوات وسنوات لا ينطق بكلمة نابية، ليس له نظرة غير حكيمة، ليس عنده حركة لا ترضي الله عز وجل.
يوجد حقيقة دقيقة، أن غير المؤمن لا يمكن أن يكون حيياً، لأنه في الصحيح، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْهمَا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ، يَقُولُ: إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي، حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ ))
(صحيح البخاري)
لا تتوقع إنسانًا يعبدًا عن الإيمان حيياً، ولا يمكن أن تتوقع أن مؤمناً لا يكون حيياً، أبرز صفة للمؤمن بأنه يستحي، كلامه وسمعه وحديثه مضبوط ، جلس في بيت، هناك من ينظر بحدة إلى كل شيء، سمع حركة التفت، المؤمن يخجل أن يتفحص ببصره كل شيء، ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ ))
(صحيح البخاري)
قد يحول الحياء بينك وبين مئات المعاصي، هذه المعصية ما الذي منعك منها ؟ حياؤك من الله عز وجل، إحساسك أنه معك، ويراقبك، ويسمعك، وأنه بصير بك، الحياء لا يأتي إلا بخير، والحياء من لوازم المؤمن، وكأن الحياء فاصل بين المؤمن وغير المؤمن.
ومن حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ ))
(صحيح مسلم)
لمجرد أن تزيل عن الطريق شيئاً يؤذي المارة فهذا من الحياء، في فر بعض المركبات تستعين بحجر في وقوف عند الصعود فإذا سارت تركت هذا الحجر، فتجد مؤمن يقود مركبته في سفر وبسرعة عالية يقف، ويزيل هذا الحجر على طرف الطريق، لأن هذا الحجر قد يسبب حادثا قاتلا، ما الذي حمله على أن يقف، ويزيل الحجر عن الطريق ؟ هذا إيمان، رجاء أن يغفر الله له، أن هؤلاء البشر هم عباد الله، و يقعون في حادث مروع بسبب أن السائق لم ينتبه لهذا الحجر، وهذا الحجر كافٍ ليسبب مشكلة كبيرة، لمجرد أن تميط الأذى عن الطريق فهذا إيمان، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام رتب التوحيد أولا، والحد الأدنى أيّ عمل صالح مهما ظننته صغيراً فهو يدل على الإيمان، والحياء شعبة من الإيمان، فالمؤمن إذا كان على حياء فهو في خير.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ:
(( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا ))
(صحيح البخاري)
فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه.
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَسْمَاءَ سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غُسْلِ الْمَحِيضِ فَقَالَ:
(( تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَتَهَا، فَتَطَهَّرُ، فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ دَلْكًا شَدِيدًا، حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ، ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً، فَتَطَهَّرُ بِهَا، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: وَكَيْفَ تَطَهَّرُ بِهَا ؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! تَطَهَّرِينَ بِهَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ كَأَنَّهَا تُخْفِي ذَلِكَ: تَتَبَّعِينَ أَثَرَ الدَّمِ، وَسَأَلَتْهُ عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ: تَأْخُذُ مَاءً فَتَطَهَّرُ، فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ، أَوْ تُبْلِغُ الطُّهُورَ، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تُفِيضُ عَلَيْهَا الْمَاءَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ ))
(صحيح مسلم)
والذي لا يستحي لا خير منه، وكان عليه الصلاة والسلام يكره أن يواجه الإنسان بما يكره، فإذا صعد المنبر يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، كان يستحي أن يواجه أحد أصحابه بما يكره، فإذا أراد أن ينصح أصحابه كان يعمم، ولا يخصص، لئلا يستحي أحد من هذه المواجهة.
لكن يوجد حديث يفهم على معنيين متناقضين:
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ ))
(صحيح البخاري)
هذا الحديث له تفسيران الأول: تهديد، كقوله تعالى:
﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾
(سورة الكهف)
هذه لام الأمر، يعني اكفر، وسترى نتائج الكفر ،هذا أسلوب التهديد.
وقد قال بعض شراح الحديث: إن هذا الحديث قد يعني أنه تهديد، فإذا لم تستحي من الله فاصنع ما شئت، فسوف ترى !أسلوب التهديد، لكن بعضهم اختار معنى آخر، وهو دقيق جداً، أنت حينما لا تستحي من الله في شأن شرعي، والناس ينكرون عليك هذا العمل لا تعبأ بهم ما دام الله معك، أو راضياً عنك، أو ما دمت وفق منهج الله، أو ما دمت تسعى لإرضاء الله، ولو كان هذا الذي تفعله مستنكراً ممن حولك.
أحياناً تكون هناك ضرورة شرعية كي تتزوج امرأة ثانية، والناس لا يقدرون ذلك، والتعدد في الزواج مرفوض اجتماعياً، مقبول شرعاً، فلو أنك ابتغيت بهذا التعدد رضوان الله عز وجل، وكل من حولك أنكر هذا فلا ينبغي أن تعبأ به، فإذا لم تستحي من الله فاصنع ما شئت، هناك نساء يتمنين أن يزني زوجها كل يوم، ولا يتزوج عليها امرأة ثانية، لأن التعدد مرفوض اجتماعياً، لكنه مقبول عند الله بشروط، لكن التعدد الموجود في مجتمعنا مرفوض أيضاً، لا يوجد عدل، يميل إلى واحدة كل الميل، يعطيها مودته ووقته، واهتمامه وماله، والثانية مهملة، فنحن ما رأينا تعدداَ شرعياً، بل تعدداً ظالماً فلذلك: قد يكون المجتمع على صواب حينما يرفض التعدد، لأنه رأى تعدداً ظالماً، ولم ير تعدداً عادلاً، على كل إذا كان عملك ضمن الشرع أفضل ألف مرة ولو استنكر الناس عملك من أن تعصي الله عز وجل، فالمعصية مرفوضة كلياً، بينما لو سلكت طريقاً مغطى بالشرع هذا أفضل ألف مرة من الحالة الأولى، فإذا لم تستحي فاصنع ما شئت.
الشيء اللطيف: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ ))
(سنن الترمذي)
في الرأس يوجد عين، والعين ينبغي أن تعبد الله بغض البصر عن المحرمات، وتتبع العورات، والأذن ينبغي أن تعبد الله بألا تسمع ما يسخط الله، واللسان ينبغي أن يعبد الله بأن لا ينطق إلا بالحق.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ ))
(صحيح البخاري)
فأن تحفظ الرأس وما وعى، الحواس التي أودعها الله في الرأس ينبغي أن تستحي من الله أن تستخدمها في معصية الله.
((وَالْبَطْنَ وَمَا حوى ))
ينبغي ألاّ تأكل طعاما بمال حرام، ينبغي ألا يدخل جوفك إلا طعاماً حلالاً،
((وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا ))
﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا﴾
(سورة الإسراء)
ينبغي أن يدع الترف في الدنيا والمبالغة في المباحات، هذه لا تتناسب مع إنسان أراد الآخرة،
((فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ ))
والحياء من صفة المؤمنين، ولا يأتي إلا بخير، وربما يحجزك عن معصية تسبب هلاك الإنسان.
والحمد لله رب العالمين
النابلسي