عرض مشاركة واحدة
New Page 2
 
 

قديم 27-08-2012, 03:09 PM   #2
معلومات العضو
هاجرالمسلمة
إشراقة إدارة متجددة

افتراضي

الوقفة الرابعة / الهدهد الدقيق
أنظر إلى قول الهدهد : ** أحطت بما لم تحط به ** ، قال الشوكاني : (( والإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته )) ويقول الطاهر بن عاشور : (( والإحاطة : الاشتمال على الشيء وجعله في حوزة المحيط ، وهي هنا مستعارة لاستعياب العلم بالمعلومات ))
فالهدهد لم يقنع بأخذ طرف من الأخبار ، وإنما مازال ببلقيس وقومها حتى ( أحاط ) بأخبارهم ، وفي هذا من الدقة والضبط ما لا يخفى .
والواجب علينا دائما ألا نبادر إلى الحكم على الشيء حتى نحيط به ، ونلم بجوانبه .
إن من مشاكل شباب الصحوة اليوم ضيق الأفق وقصر النظر ، والنظر إلى القضية أو المشكلة من زاوية واحدة دون إحاطة كإحاطة الهدهد مما يوقع في المشاكل ويؤدي إلى التعصب للرأي ’
وأبرز آفات هذا الضيق في الأفق معاداة المخالف في الفروع ، ذلك أن هذا المعادي لم يحط بالمسألة من سائر جهاتها فيعرف أنها قابلة للأخذ والرد وإنما نظر من زاوية واحدة ظنها الصواب المحض ، وصدق فيه قول من قال : يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم فيحسب أن عنده العلم كله !!
ومن آفاته الخطيرة شيوع ظاهرة التأثيم والتفسيق والتبديع ، إذ المقترف لهذه الأمور لم يحط بما أخذه على خصمه ، ولم يعرف جلية الأمر ، ولا نظر الدوافع والأسباب ، ولا جمع كلام المتهم كله ليوازن بعضه ببعض ... وإنما هو في الغالب أخذ ذروا فحكم ، أو نظر إل جزء فجزم .
فما أحوجنا إذا إلى هذا السلوك الهدهدي ... الإحاطة أولا ثم الحكم والتصرف .

الوقفة الخامسة / الهدهد وسلطان العلم
قال ابن القيم : (( إن سليمان لما توعد الهدهد بأن يعذبه عذابا شديدا ، أو يذبحه إنما نجا منه بالعلم ، وأقدم عليه في خطابه له بقوله : ** أحطت بما لم تحط به ** خبرا ، وهذا الخطاب إنما جرأه عليه العلم ، وإلا فالهدهد مع ضعفه لا يتمكن من خطابه لسليمان مع قوته بمثل هذا الخطاب لولا سلطان العلم )) .
وهكذا ارتفع الهدهد بالعلم ، والعلم دائما يرفع صاحبه ، ** يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ** ، ولهذا قال الربيع : والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلى هيبة له ! وقال وهب بن منبه : يتشعب من العلم الشرف وإن كان صاحبه دنيئا ن والعز وإن كان مهينا ، والقرب وإن كان قصيا ، والغنى وإن كان فقيرا ، والمهابة وإن كان وضيعا ... ))
وعن الفضيل قال : عالم عامل بعلمه يدعى كبيرا في ملكوت السموات )) !
ولعل مما يشهد لنا في هذا المقام خبر عرش بلقيس ، فقد أخبر الله أن عفريتا من الجن ( والعفريت هو الشديد الذي لا يصاب ولا ينال ) وعد سليمان أن يأتيه بالعرش قبل أن يقوم من مقامه ، وكان يجلس للناس للقضاء والحكومات من أول النهار إلى أن تزول الشمس . بينما وعده الذي عنده علم من الكتاب أن يأتيه به قبل أن يرتد إليه طرفه !! قال الطاهر : (( وهذه المناظرة بين العفريت من الجن ولاذي عن\ه علم من الكتاب ترمز إلى أنه يتأتى بالحكمة والعلم ما لا يتأتى بالقوة ))
فليس المقياس إذا قوة ولا نسب ولا مال ... وإنما هو علم يقود للتقوى .
وإذا كان الأمر على هذا النحو فأين نحن من العلم ؟
ما حصيلتنا منه ؟ ما مدى حرصنا عليه ؟ إلى أي حد نهتم به ؟
أسئلة كثيرة تحتاج إلى جواب .

الوقفة السادسة / الهدهد واحترام القيادة
قال النسفي رحمه الله حول قوله تعالى : ** فمكث غير بعيد ** : (( ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان ))
إذا ... فقد كان الهدهد يهاب سليمان ويحترمه ويقدره ، ومع أنه كان في مهمة دعوية عظيمة الشأن إلا أنه مع ذلك حاول إنجازها بأسرع وقت لأنه تذكر أنه خرج في الأصل بغير استئذان !
ويتجلى هذا الاحترام والتقدير أيضا في عرض الهدهد القضية لسليمان دون أن يدلي فيها برأي آمر ، وإنما عرض ولمح كما سبق بيانه .

الوقفة السابعة
سليمان عليه السلام وعوامل النجاح القيادي
لقد كان سليمان عليه السلام نبيا مسددا ، وملكا ملهما موفقا ، والناظر في تصرفاته في قصته مع الهدهد يلمح كثيرا من عناصر التفوق القيادي ، والتي منها :
1ـ تفقد الأتباع :
فمع أن سليمان قد حشر له جنود الإنس والجن والطير ، حتى ذكر بعض أهل التفسير أن معسكره كان مئة فرسخ في مئة ! مع هذا كله لم يفته غياب هذا الهدهد ، وتنبه له ... ولم يكن هذا التنبه عارضا ، وإنما بعد تفقد وسؤال مما يدل علىأنه كان يحرص علىرعيته ويسأل عنهم ، قال الطاهر : (( صيغة التفعُّل [ يعني في تفقَّد ] تدل على التكلف والتكلف الطلب )) ، فهو كان ـ عليه السلام ـ يتكلف البحث والسؤال .
ولا يمكن أن يكون القائد ناجحا إلا بمثل هذا التفقد ، وانظر مثلا إلى خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ثابت بن قيس بن شماس وكيف أنه افتقده بعد نزول سورة الحجرات فسأله عنه حتى عرف نبأه ثم بشره بالجنة ، وكثيرا ما تجد في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه افتقد فلانا ، أو سأل عن فلان .
و لا يمكن وصف الأثر الذي يحصل في قلب الفرد حين يعلم أو يشعر أن أميره افتقده وسأل عنه حتى وإن كان في السؤال شدة ومعاتبة ، على حد قول الشاعر :
لئن ساءني أن نلتني بمساءة لقد سرني أن خطرت ببالكِ
ومشكلة قادتنا اليوم أنهم ـ في أحيان كثيرة ـ لا يدرون شيئا عمن تحتهم ، ولا يكاد الواحد منا يهتم بأفراد رهطه أو عشيرته أو حلقته في التحفيظ مثلا ، وبالتالي يفقد كثيرا من رصيد المحبة في قلوب أتباعه ، وبعد هذا عليه ألا يلوم إلا نفسه إذا لم يجد استجابة وطاعة .
<<تابع
    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة