عرض مشاركة واحدة
New Page 2
 
 

قديم 23-10-2012, 07:35 AM   #1
معلومات العضو
ابن حزم
إشراقة إدارة متجددة
 
الصورة الرمزية ابن حزم
 

 

I11 يـــوم القـيــامـــة

كان العرب قومًا متدينون لمجموعة كبيرة من الآلهة وكانوا يضعون لكل منها تمثال حول الكعبة المشرفة، وكل تمثال يمثل إله من آلهة العرب أو القبائل، فكانت لكل قبيلة إله أو أكثر، ولما كانت العرب كلها تحج إلي ذلك البيت المعمور كل عام في موسم الحج العظيم، كانت كل قبيلة تتعبد إلي صورة إلهها الموضوع حول الكعبة, فكانوا يؤمنون ضمنياً أن للكون خالق أو أكثر: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون** العنكبوت61.
وكانوا يعتقدون أن الإنسان لا يمكن بحال أن يتفهم لغة الآلهة العالية لذا كانت تلك الأصنام مجرد وسيط بينهم وبين آلهة السماء: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى** الزمر3. ولكنهم رغم ذلك كانوا لا يؤمنون بيوم آخر كما كانت تدين الأمم الأخرى من اليهود والنصارى المجاورين لهم ولذا كانوا يقولون ساخرين ومتعجبين كلما حذرهم نبي الله الجديد ورسوله إلي الناس كافة محمد صلوات ربي وسلامه عليه من يوم البعث: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُون**الواقعة47. فكان الله تعالي يحدثهم بما تفهمه عقولهم مثبتًا أن من خلقهم من ماء (المني) وخلق أصلهم (آدم) من تراب قادر علي أن يعيد خلقهم مرة أخري وبعثهم بعد ما تستحيل تلك الأجساد إلي أصلها التي منها خلقت أي التراب فكما خلقهم وكما أحياهم ورزقهم وكما أماتهم فهو قادر علي بعثهم وإحيائهم من جديد. فلما تستبعد أيها الإنسان المادي أن الله تعالي الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما ليس بقادر علي أن يحي الموتى، وقد كانوا بالفعل في أرحام أمهاتهم موتي فنفخ الله تعالي فيهم الروح فكانوا أحياء؟! لماذا تستبعد أيها الإنسان المادي علي هذا الإله الخالق العليم بما خلق أن يعيد الخلق كما بدأه: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيم**يس81. بلي هو قادر علي كل شيء: {إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير**هود4. أما إنكار الآخرة فهو ليس بدعة هذا العصر فمن قديم كان هناك من يكذب الأنبياء ويتهمهم بالجنون لأنهم يؤكدون أن الموتي سوف يبعثون ويحاسبون أو يعاقبون. كان أولئك المكذبون يقولون للأمم التي تسمع وعيد الرسل: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ. إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِين** 36-37 المؤمنون. ومن يؤمن بالله تعالي لا يستبعد قط قدرة الله تعالي علي إيجاد العالم مرة أخري بعد فنائه وإقامة ساحة عامة للحساب حيث يلقي كل امرئ جزاءه العادل، فطالما أن الفلاح البسيط يستطيع أن يعيد زراعة أرضه بعد حصاد ما كان فيها من ثمار وزروع، والبنّاء يستطيع أن يعيد بناء بيت قد تهدمت أركانه وتساقطت جنباته، فما الذي يجعل الخالق القادر علي كل شيء يعجز عن إعادة إنشاء هذا العالم كله مرة أخري بعد أن يبلغ أجله المسمي الذي حدده له من قبل أن يخلقه ويخرجه من العدم إلي الوجود؟!{وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً. قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً. أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلا** 49-52 الإسراء.
إن الآخرة حق لأنها تصحيح لأوضاع ورد لاعتبار وتحقيق لعدل اختبر الله الناس بتأخيره إلي حين.

وعالم الآخرة من العوالم الغيبية والتي لا يمكن الوقوف علي حقائقها من خلال العقل المادي فلا سبيل لنا للتعرف علي هذا العالم العجيب إلا من خلال النص الشرعي الثابت من القرآن أو السنة النبوية الصحيحة. والمتفحص لنظرة الأديان إلي العالم الآخر سيجدها إنها صناعة بشرية غير محكمة كما في نصوص الأديان الفرعونية القديمة والتي هي من أوائل الشرائع الأرضية التي اعتنت اعتناء خاص بهذا العالم الآخر وبهذا احتلت الأديان المصرية القديمة كعادتها الأسبقية والريادة في النظرة الموضوعية إلي ذلك العالم الآخر. أما الأديان الأخرى كاليهودية فقلما نجد بين طيات صفحاته ما يشير إلي العالم الآخر حتى قد يظن المطالع لهذا الدين أنه لا يقر البعث والحساب في عالم آخر بعد الموت. أما الدين المسيحي فيقر بالمعاد ال****** دون الميعاد الجسماني؛ فينظر بنظرة خيالية أو حالمة إلي ذلك العالم الآخر حيث تعيش أرواح البشرية متخلية عن أجسادها التي لا تعود مرة أخري وحيث تعيش الأرواح تتنعم بكل ما هو ****** من موسيقي عذبة ومناظر خلابة وهذا للأرواح المؤمنة أما الأرواح الكافرة فتعذب بما يليق به عذاب الأرواح دون الأجساد. أما الدين الإسلامي فهو أكثر الأديان تفصيلاً لهذا العالم الأخروي والأخير في رحلة البشرية؛ ففي القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ستجد تفصيل الآخرة تفصيلاً لا يوجد منه شيء في كتب كل الأنبياء، ولهذا ظن المفكرين والفلاسفة أنه لم يفصح بمعاد الأجساد إلا محمد صلي الله عليه وسلم، وهذا بالطبع كذب وافتراء فما من نبي من لدن آدم حتى خاتمهم محمد إلا وقد أخبر قومه بيوم القيامة والبعث فمن لحظة هبوط آدم وحواء إلي الأرض أخبرهم سبحانه وتعالي أن حياتهم في الأرض هي حياة مؤقتة وأن موعدهم جميعاً مع ربهم يوم القيامة والذي سيحاسبهم علي كل ما فعلوه في تلك الفترة الأرضية المؤقتة فقال تعالي: {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون** 38-39 البقرة. ونستطيع أن نقول أن الإيمان بالآخرة هو من الأمور المفطور عليها الإنسان تماماً كما هو مفطور علي الإيمان بالله تعالي الواحد الأحد أو كما قال تعالي: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين**الأعراف172. وهذا الإشهاد كما هو معلوم كان قبل خروج الناس بذواتهم الحقيقية إلي الحياة فكما هي العبودية والتوحيد فطرة مفطور عليها الإنسان فكذلك علم الإنسان بيوم القيامة والبعث هو من الأمور الفطرية التي جبلت عليها البشرية ولكن كما لا يستطيع الإنسان أن يتوصل إلي إلهه بالعقل المجرد وحده فهو كذلك لا يستطيع أن يتوصل إلي ما في العالم الآخر أيضاً بالعقل المجرد، فهو يحتاج إلي نص أو نقل ديني أو شرعي يدله علي العالم الآخر وعلي ربه وإلهه الذي لا يمكن أن تحيط به العقول كما لا تدركه الأبصار، لذا ستجد أن الإنسانية في فترات غياب الرسل كانوا يتخبطون في فهمهم لهذا الإله أو لذلك العالم الآخر، وكلما استعصي علي الإنسان التوصل إلي مفهوم محدد عن الله وعن الآخرة فعل الأبسط والأسهل بالنسبة له لإراحة عقله ألا وهو الإنكار، إنكار الله وإنكار البعث أو تصور الله والبعث بتصور ساذج سطحي لا يسمن ولا يغني من جوع أو فضول علمي أو روحي. حتى جاء الإسلام وسطعت أنواره في قلب الجزيرة العربية الوثنية المظلمة بظلام الجهل أو الجاهلية فدلهم أول ما دل علي الله وعلي النظرة الحقة إلي الإله المتصف بكل صفات الجمال والجلال والكمال، ثم دلهم علي حقائق الكون من خلق الأرض والسموات، ثم دلهم علي حقائق الآخرة من بعث وعرض وحساب وجنة ونار، وجعل كل هذا من حقائق الدين الأساسية الواجب الإيمان بها كلها، فبهذا كله يقوم الإيمان في الإسلام وبسقوط أحدها يسقط الإيمان كله، فمن آمن بالله وأنكر قدرته فهو غير مؤمن، ومن آمن بالله وقدرته وأنكر الآخرة فهو غير مؤمن، فكما قلنا من قبل سطور قليلة أن الإيمان بالله أصل وأن من هذا الأصل تخرج فروع إيمانية أخري لا تنفك عن أصل الإيمان بالله مثل الإيمان بالملائكة، والأنبياء، والكتب السماوية، والبعث في الآخرة هو فصل القول في الإيمان، فمن آمن بالله وأنكر الآخرة فهو كافر بلا شك، ومكذب لما هو معلوم من الدين.
(من كتاب القيامة؛ تأليف: إسماعيل مرسي أحمد)
    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة