عرض مشاركة واحدة
New Page 2
 
 

قديم 03-11-2009, 05:59 AM   #1
معلومات العضو
منذر ادريس
اشراقة ادارة متجددة

I11 ( 2 ـ 4 ) (%%% فقه التعامل بين الزوجين " عبدالعزيز بن فوزان الفوزان " &&&)!!!

المبحث الأول: الحقوق المشتركة بين الزوجين
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول - المعاشرة بالمعروف:
الحياة الزوجية ليستْ لهوًا ولعبًا، ولا لذةً عابرة، أو علاقةً مؤقتة، أو مجردَ شهوة واستمتاع؛ بل هي مسؤوليةٌ عظيمة، وتَبِعة ثقيلة، تحتاج إلى صبر ومجاهدة، وحكمةٍ ورويَّة، وتوطينٍ للنفس على القيام بحقوق النِّكاح وتبعاته، وحرصٍ على التوافُق مع الطرف الآخر واحتمال زلاَّته، والتغاضي عن أخطائه وهفواته، والقيام بمسؤولية تربية الأولاد وحسن إعدادهم.

ولكنَّ الله - تعالى - برحمته جَعَلَ ذلك الميلَ الشديد بين الرجل والمرأة، وخَلَقَ الشهوة الجنسيَّة، والرغبةَ في تحصيل الأهل والذريَّة، وجعل هذه الدوافعَ من القوة والإلحاح، بحيث يجد الإنسانُ عنتًا ومشقة في تجاهلها، ولا يملك إلا أن يستجيب لها بما شرعه الله - تعالى - من النكاح.

وبهذا يحصل التزاوُج، وتتحقَّق مقاصد النكاح، من تحقيق العفاف والصيانة للزوجين، وسكون كلٍّ منهما إلى الآخر، وحصول الرحمة والمودة بينهما، وتعاونهما على القيام بمصالحهما الدينية والدنيوية، وعلى تربية الأولاد ورعايتهم، وبه يحصل التناسل والتكاثر، ويستمر النوع الإنساني[1]، ويُحفظ الأولاد من الهلاك والضياع، مع ما يحصل بذلك من زيادة أعداد المسلمين، وتكثير سوادهم، وتقوية شوكتهم، واستغنائهم بأبنائهم عن أعدائهم.

وما يحصل به كذلك من تنمية الروابط الأسريَّة وتعزيزها، وتوسيع دائرتها، وتوثيق عُرى الأخوَّة والمحبة بين المسلمين؛ لأن النِّكاح ينشئ علاقاتٍ جديدةً بين الزوجين وأهليهما، ويربط الأسر المتباعدة برباط النكاح والمصاهرة؛ ولهذا جعل الله الصهرَ قسيمًا للنسب، فقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا**[2].

وإنك لو تأملتَ في حال كثير من حواضر المسلمين وقُراهم، لوجدتَ بين أهل تلك الحواضر والقرى من العلاقات الأسرية، والروابط العائلية، ما يجعل سكانَ ذلك البلد كأهل بيت واحد، وبخاصة إذا كان البلد صغيرًا، وما ذلك إلا بسبب المصاهَرة والتزاوج، وهذا أمر إذا تفطَّن له الإنسان، ازداد يقينًا بحكمة الشارع الحكيم وسَعة رحمته، وإحاطة علمه، وعظيم قدرته، وأنه - تعالى - لا يشرع شيئًا لعباده إلا لما فيه من الخير والمصلحة لهم في معاشهم ومعادهم.

وإذا كانت العلاقةُ بين الزوجين بتلك الدرجة منَ القوة والمتانة، وحقُّ كلٍّ منهما على الآخر بتلك المثابة من الخطورة والأهمية، فإنَّ من أعظم ما يجب على الزوجين: المعاشرة بينهما بالمعروف، وحسن الصُّحبة، وأن يَعرف كلٌّ منهما ما له وما عليه، ويقوم بواجبه تجاه صاحبه، ويراقب الله فيه، فلا يظلمه ولا يمطل بحقه، ولا يحتقره ويهينه، ولا يكلفه شَطَطًا أو يحمله ما لا يطيق؛ قال الله - تعالى -: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ**[3].

وقد دلَّت الآيةُ على أنَّ للزوجة على زوجها مثلَ ما له عليها، منَ المعاملة بالحسنى، والمعاشرة بالمعروف، والدفع بالتي هي أحسن، والحذر من إيذائها ومضارتها، وأن يتقي الله - تعالى - فيها، ويحب لها ما يحب لنفسه، ويأتي إليها بمثل الذي يحب أن تأتي به إليه، حتى لقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "إني لأحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تَتَزَيَّنَ لي؛ لأنَّ الله - تعالى - يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ**[4].

كما أنَّ من حقِّ زوجها عليها: أن تعاشره بالمعروف، وتعامله بالحسنى، وتحسن صحبتَه، وذلك بإخلاص الودِّ له، وقصر النظر عليه، وعدم التطلُّع إلى غيره، والتحبُّب إليه، والتودُّد له، وتأنيسه وملاطفته، والتجمُّل له، وحفظ سرِّه، وإظهار محبته وتقديره، ومشاركته في آلامه وآماله، وأفراحه وأتراحه، وتلقِّيه إذا دخل بالبِشْر والسرور، والبشاشة والهشاشة، والدعاء له بالتوفيق والإعانة[5]، وأن تخدمه الخدمة المعروفة من مثلها لمثله، وأن تحرص على إدخال السرور عليه، وكسْب مودته ورضاه، وأن تقوم بذلك من غير تكرُّهٍ ولا تبرم، ولا منَّة ولا أذى.

وإذا فعلت المرأة ذلك، محتسبةً الأجرَ عند الله - تعالى - فلتُبشِر بخير كثير، وأجر كبير، وتوفيق حسن في الدنيا والآخرة.

يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أيما امرأةٍ ماتت وزوجُها عنها راضٍ، دخلت الجنة))[6].

القناعة كنز لا يفنى:
وإنَّ التطلُّع إلى استكمال جميع الصفات في الزوج أو الزوجة، ضربٌ من الخيال، وأمر بعيدُ المنال، ولله وحده الكمال، والإنسان مجبول على النقص والتقصير، وما من لذة في هذه الحياة إلا وهي مشوبة بشيء من التنغيص والتكدير، واللذةُ التامة إنما تكون للمؤمنين في جنات النعيم.

وإنَّ من أكثر الناس توفيقًا، وأرجحهم عقلاً: مَن يرضى بما قسم الله له، ويقنع بما آتاه الله، وقديمًا قالت الحكماء: "القناعة كنز لا يفنى"، وأبلغ منه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قد أفلح مَن أسلم، ورُزق كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه))[7].

لا بد من التطاوع والتسامح:
كل إنسانٍ عالَمٌ بذاته، له نظراتُه وتصوراته، وحاجاته ورغباته، وله مزاجه الخاص، الذي قد لا يتَّفق مع مزاج صاحبه، وهذا حاصل في الأمور الحسية والمعنوية.

فينبغي لكلٍّ من الزوجين أن يتطاوعا ولا يختلفا، وييسِّرا ولا يعسِّرا، وأن يحسن كلٌّ منهما صحبةَ الآخر، ويحرص على إسعاده وتحقيق رغباته فيما أذن الله - تعالى - فيه، وأن يتنازل عن شيء من مراداته ورغباته، من أجل عشيره وشريك حياته، وأن يوطِّن نفسه على قبول بعض الهفوات، والتغاضي عن بعض المنغصات.

والرجل - وهو القيِّم على الأسرة[8] - مطالَبٌ بتصبير نفسه أكثر من المرأة؛ لما يعلم من ضعف خلقتها، وغلبة عاطفتها على عقلها؛ ولأنها أسيرة بين يديه، محتاجة أعظم الحاجة إليه، قد علَّقت فيه كلَّ آمالها، واعتبرتْه في الدنيا كنزَها ورأس مالها، فالبحثُ عن زلاتها، وتتبُّع عثراتها، والمبالغة في تقويمها - يؤدِّي إلى كسرها، وكسرُها طلاقها.

ففي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((استوصوا بالنساء خيرًا؛ فإن المرأة خُلقتْ من ضلَع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرتَه، وإن تركتَه لم يزل أعوجَ، فاستوصوا بالنساء خيرًا))[9]، وفي رواية لمسلم: ((إنَّ المرأة خلقت من ضلَع، لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعتَ بها، استمعتَ بها وفيها عوج، وإن ذهبتَ تقيمها كسرتَها، وكسرُها طلاقها)).

وبيَّن - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخرَ أن المرأة ناقصةُ عقلٍ ودِين؛ حيث قال: ((ما رأيتُ من ناقصاتِ عقلٍ ودين، أذهبَ للبِّ الرجل الحازم، من إحداكن)) الحديث[10].

ولكن هذه الأحاديث قد فهمها الجُهَّال على غير وجهها، وأوَّلها المغرضون على غير المراد بها، وجعلوها دليلاً على إهانة الإسلام للمرأة، وحطِّه من قدرها، ووصفها بما لا يليق بها {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا**[11]، وكم اغترَّ بهذا الكلام من نساء جاهلات، فأخذنَ يحاربنَ هذه الأحاديثَ، ويغضبن لذِكرها وإيرادها، ويجهلن أن هذه الأحاديث وأمثالها، من أعظم الأدلة على حماية الإسلام للمرأة، وكفالته لحقوقها، وإحاطتها بسياج من الشفقة والرحمة؛ حيث بيَّنت أن الاعوجاج في المرأة من أصل الخِلقة، فلا بد للرجل من مسايرته، والصبر عليه، فلا يكلِّف المرأةَ شططًا، ولا يقسرها على ما لا تطيق، كما يجب عليه أن يغضَّ الطرْف عن أخطائها، ويتحمَّل منها زلاَّتِها وهفواتها، وأن يوطِّن نفسَه على ما يصدر منها من حُمق أو جهل؛ لأنَّ ذلك جزء من طبيعتها وخلقتها.

كما أنَّ هذه العاطفة الجيَّاشة، التي ربما تغلب على عقلها، وهذا الضعف الذي جُبلتْ عليه، هو سرُّ جاذبيتها وسحرها، ومصدر إغرائها لزوجها، وهو من أسباب تقوية العلاقة بين الزوجين؛ فكلٌّ منهما يشعر بحاجته للآخر وميله إليه، فالرجل يميل إلى المرأة؛ لأنها جزء منه، وهي المكمِّلة له، والمرأة تميل إلى الرجل؛ لأنه هو أصلها، والمكمل لها، كما قال ربنا - سبحانه -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً**[12].[13].

ولقد كانت نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أعقل الناس وأفضلهم، وأقومهم بحقوق الله وحقوق عباده - يراجعنَه في الكلام ويخاصمنه، وربما هجرتْه إحداهن اليوم إلى الليل[14].

ويُروى أنه حدث بينه وبين عائشة - رضي الله عنها - خصام ذات يوم، فاحتكما إلى والدها أبي بكر - رضي الله عنه - فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تتكلَّمين أو أتكلم؟))، فقالت وهي غضبى: بل تكلَّم، ولا تقل إلا حقًّا! فلطمها أبو بكر على وجهها، فأسال الدم من فمها، وقال: يا عدوةَ نفسها، وهل يقول إلا الحق؟! فدفعه النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها، وحماها من وراء ظهره، وقال لأبي بكر: ((ما لهذا دعوناك))[15].

وثبت في "صحيح البخاري" وغيره[16] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مع بعض أصحابه في بيت عائشة، فأرسلتْ أمُّ سلمةَ بصحفة فيها خبز ولحم، تتحف بها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأضيافه، فلما رأتْها عائشة - رضي الله عنها - أخذتْها الغيرةُ، فضربت الصحفةَ بفِهر كان معها، ففلقتها وانتثر الطعام.

تأمَّل يا أخي، لو حصل مثل هذا مع أحدنا، كيف سيتصرف؟ وما رد فعله؟
أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يصرخ في وجهها، ولم يتلفَّظ بسبِّها وشتمها، ولم يرفع يدَه عليها لضربها؛ بل لم يزد - عليه الصلاة والسلام - على أن جمع فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام، وهو يقول معتذرًا لها: ((غارتْ أمُّكم)) مرتين.

ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - لم يجامل عائشةَ على حساب أم سلمة؛ بل أخذ صحفةَ عائشةَ الصحيحةَ، وبعث بها إلى أم سلمة، وأبقى المكسورة لعائشة، وفي بعض الروايات أنه قال لها: ((يا عائشةُ، صحفة بصحفة، وطعام بطعام)).

وروى الإمام مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: "ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا قط بيده، ولا امرأةً ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيءٌ قط، فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهك شيءٌ من محارم الله، فينتقم لله - تعالى"[17].

ما يجب على الرجل إذا رأى من زوجته ما يكره:
والواجب على الزوج إذا رأى من زوجته ما يكره، أن يتذكَّر جوانبَ الخير فيها، وألاَّ يجحد فضلَها وتعَبَها في القيام بحقوقه ورعاية مصالحه، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يَفرَك[18] مؤمنٌ مؤمنةً، إن كره منها خُلقًا، رضي منها خلقًا آخر))[19]، فيجب على الزوج أن يتذكَّر محاسن زوجته، ويجعل ما كره منها في مقابلة ما رضي، وإنه - بإذن الله - لواجدٌ خيرًا كثيرًا.

وقد أَمَرَ الله - عزَّ وجلَّ - بالإحسان إلى المرأة، ومعاشرتها بالمعروف، حتى وإن كرهها زوجُها؛ لأنه لا يدري أين تكون الخيرة؛ فقد تكون سببًا لخير كثير، ومجلبة لنفع كبير، كأنْ يرزقَ منها أولادًا صالحين، يحسنون برَّه، ويرفعون ذِكره، ويُعلون منزلته في الدنيا والآخرة، أو يوفَّق ببركة صلاحها، وصدق دعائها له، مع ما له من الأجر العظيم بكفالته لها، وصبره عليها، قال الله - تعالى -: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا**[20].

وأقلُّ الناس توفيقًا، وأبعدُهم عن الخير، مَن أهدر المحاسن كلَّها، ونسيَها أو تناساها، وجعل المساوئ نصب عينيه، وربما مدَّدها، وبسطها وطوَّلها، وجعل مِن الحبة قبةً، ومن الحقير كبيرًا، وجعل يكررها ويعيدها، ويفسرها بظنونه السيئة، وتأويلاته الفاسدة، حتى يجرد امرأته من كل خير، ويصمها بكل نقيصة وشر!

أين هذا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم إني أُحرِّج حقَّ الضعيفين: اليتيم، والمرأة))[21]؟! ومعنى ((أحرج)): أُلحق الحرج - وهو الإثم - بمَن ضيَّع حقهما، وأَزجر عن ذلك زجْرًا شديدًا.

وبيَّن - صلى الله عليه وسلم - أن خير الناس وأكملهم إيمانًا، خيرُهم لنسائهم، ففي الحديث الصحيح: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))، وقال أيضًا: ((أكملُ المؤمنين إيمانًا، أحاسنُهم أخلاقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائهم))[22].

وهذه شهادة مَن لا ينطق عن الهوى: أن خير الناس خيرُهم لأهله، فجاهد نفسَك على أن تفوز بهذه الخيرية، وتظفر بهذه الكرامة.

ويخطئ كثيرٌ من الرجال حين يظنون أن التبسط مع المرأة، وحُسن معاشرتها، والتلطُّف معها، ومشاركتها في بعض شؤون بيتها - تعتبر ضعفًا منه، وسيطرةً لها عليه، فتراهم يصرُّون على أن تكون كلمتهم هي الأولى والأخيرة، ورأيهم هو النافذَ الذي لا يَقبل المراجعة أو المحاورة.

وهذا ليس من القوة أو الرجولة في شيء، وليس من أخلاق الكرام؛ فإن الكريم مَن غلبه أهلُه داخلَ بيته؛ لسماحته وحسن معاشرته، وغلب الأعداءَ خارج بيته؛ لرجولته وقوَّته.

قال رجل لمعاوية - رضي الله عنه -: "يا أمير المؤمنين، كيف ننسبك إلى العقل وقد غلبك نصفُ إنسان؟ - يعني زوجته[23] - فقال معاوية: يا هذا، إنهن يغلبن الكرامَ، ويغلبهن اللئامُ"[24].

وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو مَن هو في قوَّته ومهابته -: "ينبغي أن يكون الرجل بين أهله كالصبي، فإذا التمسوا ما عنده، وجدوا رجلاً"[25].

وقال لقمان الحكيم: "ينبغي للعاقلِ أن يكون في أهله كالصبي، وإذا كان في القوم وجد رجلاً"[26].

وكيف تكون الراحة؟ وأين السكن والمودة؟ إذا كان ربُّ البيت ثقيلَ الطبع، سيئَ العشرة، ضيقَ الأفق، يغلبه حمقٌ، ويعميه جهلٌ، سريعًا في الغضب، بطيئًا في الرضا، إذا دخل فكثير المنّ، وإذا خرج فسيئ الظنّ[27].

وربما مضى عليه سنوات مع زوجته، لم تسمع منه كلمةَ مدح أو ثناء، على التزامها وحشمتها، أو ذكائها وفطنتها، أو جمالها وحسن خلقتها، أو لباسها وزينتها، وقد يبخل عليها بكلمة شكر أو دعاء، مقابل سعيها في خدمته، وتعبها في القيام بشؤون بيته وأولاده، ويضن عليها بكلمة حب ووداد، ومداعبة وملاعبة.

ألا يعلم أمثالُ هذا أن خير الناس خيرهم لأهله، وأن السعادة الزوجية لا تكون إلا بحسن المعاشرة، ودماثة الخلق، وانبساط الوجه، والشكر والتقدير، والحرص على إدخال الفرح والسرور، وأن المرأة أحوج ما تكون إلى التدليل والثناء، وكأنها طفل كبير؟

إن كلمة مدح تسمعها المرأةُ من زوجها، تترك في نفسها أثرًا عميقًا، وتزيد في محبتها لزوجها وأُنسها به، وتملأ جوانحها بالراحة والطمأنينة، وتشيع في قبلها مشاعر الفرح والغبطة، وتمنحها شحنةً من النشاط والقوة، تنسيها ما تقاسيه من مشقة وعناء، وتساعدها على بذل المزيد من الخدمة والعطاء، وتبعد عنها الإحباط الذي يصيب زوجات كثيرات، حين يجتهدن في بيوتهن، والقيام بواجباتهن، فلا يجدن الثناء والتقدير.

الاعتدال في الغيرة:
من حُسن المعاشَرة: الاعتدالُ في الغيرة، والابتعاد عن الظنون السيئة، والأوهام الفاسدة، إلا بدليل بيِّنٍ، وحجة ظاهرة.

إن الغيرة على الزوجة حقٌّ من حقوقها، فيجب على زوجها أن يغار عليها، ويحرص على صيانتها وحفظها، فلا يعرِّضها للشُّبه ومواطن الريب، ولا يتساهل معها فيما قد يفسد شرفها ومروءتها، ويُطمع ذوي القلوب المريضة بها، من سفورٍ وتبرُّج، واختلاط بالرجال الأجانب وخلوة بهم، وخضوع بالقول معهم، ونحو ذلك؛ فهذه غيرة محمودة، وهي من كمال الرجولة والإيمان، ومن تمام المحبة والنُّصح للزوجة.

ولكنه لا يجوز له بحال أن يسيء بها الظن، ويتجسس عليها، ويتهمها بما هي بريئة منه، فيؤول كلامها، ويشكُّ في تصرفاتها، من غير مستند صحيح؛ فإن هذا من الظلم، ومن أعظم أسباب التنغيص والتكدير؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من الغيرة ما يحب اللهُ، ومنها ما يبغض اللهُ؛ فأما ما يحب الله من الغيرة، فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض الله، فالغيرة في غير ريبة))[28].

وقال سليمان - عليه السلام - لابنه: "يا بني، لا تكثر الغيرةَ على أهلك؛ فترمى بالسوء من أجلك وإن كانت بريئة"[29].

كما أنَّ غيرة المرأة على زوجها دليلٌ على محبتها له، وحرصها عليه، ولكنها لا يجوز لها أن تسيء به الظن من غير ريبة، أو تتهمه بالشرِّ من غير بيِّنة، ولا أن تبالغ في الغيرة عليه، فتؤذيه وتحرجه بكثرة السؤال والاتِّصال، والتقصِّي والمتابعة، وتحاصره وتستجوبه كلما دخل وخرج: لماذا ذهبت؟ وإلى أين؟ ومع مَن كنت؟ وهكذا، كأنه طفل صغير.

إن الغيرة تبلغ عند بعض الزوجات حدًّا يجعلها تصر على مصاحبته كلما خرج، أو أن يظل معها في البيت، فتعزله عن الناس، أو تحرجه أمامهم، وربما حملتْها الغيرةُ على التجسس عليه، والتفتيش في أوراقه، وسيارته ومكتبه؛ علها تعثر على دليل إدانة تحاسبه عليه، وهذا كما أنه منهيٌّ عنه شرعًا؛ فإنه يملأ قلبَ الزوج حنقًا وغيظًا، وهو من أعظم ما يكدر الحياةَ الزوجية، ويسبب الفصام والشِّقاق بين الزوجين.

المطلب الثاني: حل الاستمتاع:
لكلٍّ منَ الزوجين حق الاستمتاع بصاحبه فيما أباحه الله له، وهذا أمر تدعو إليه الفطرة، ويتوقَّف عليه التناسل، ويحصل به المحبة والتآلف، وقد مدح الله المؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ**[30].

فعلى كلٍّ منهما أن يلبي داعي الفطرة لدى صاحبه، ويجتهد في إشباع رغبته، ما لم يكن هناك مانع يمنعه.

فالمرأة يجب عليها أن تستجيبَ لرغبة زَوْجها، وألاَّ تمتنعَ منه إذا أرادها لحاجته، إلا لمانع شرعي، من صيام واجبٍ، أو إحرام بحج أو عمرة، أو مانع حسي، من مرض أو ضرر، أو حيض أو نفاس[31]، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دعا الرجلُ زوجتَه لحاجته، فلتأتِه وإن كانت على التَّنُّور))[32].

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل دلالة صريحة على وجوب مبادرة الزوجة إلى زوجها إذا أرادها لقضاء وطره، وألا يمنعها من تحقيق رغبته عدمُ رغبتها أو تطلعها لذلك، أو اشتغالُها بطبخ أو غيره.

وبيَّن - عليه الصلاة والسلام - أن امتناع المرأة من إجابة زوجها إذا دعاها لحاجته، معصيةٌ عظيمة، تستوجب غضبَ الربِّ - تعالى - ولعن ملائكته، فقال: ((إذا دعا الرجل امرأتَه إلى فراشه، فلم تأتِه، لعنتْها الملائكة حتى تُصبح))، وفي رواية أخرى: ((والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأتَه إلى فراشها، فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها، حتى يرضى عنها زوجُها))[33].

ومَنِ المسلمةُ التي ترضى أن تبيتَ والملائكةُ تلعنها حتى تصبح، وأن يظل ربُّها - جل وعلا - ساخطًا عليها، حتى يرضى عنها زوجها؟! إنه لوعيد تقشعر منه جلود المؤمنين، وترجف له قلوبهم، خشيةً ورهبة.

قال القرطبي: "وللرجال خُلِقَ البُضعُ منهن، قال الله - تعالى -: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ**[34]، فأعلم الله - عز وجل - الرجالَ أن ذلك الموضع خُلق منهن للرجال، فعليها بذلُه في كل وقت يدعوها الزوج، فإن منعتْه، فهي ظالمة، وفي حرج عظيم"[35].

ولعِظَم حق الزوج في هذا؛ نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - المرأةَ عن الاشتغال بنوافل الطاعات، التي تمنع الزوجَ حقَّه في الاستمتاع بزوجته؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يحلُّ للمرأة أن تصوم وزوجُها شاهدٌ إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه))[36].

فنهى المرأةَ عن الصوم وزوجُها حاضر إلا بإذنه.

وهذا محمول على صوم التطوع، أما الصوم الواجب - كصيام رمضان - فليس له منعُها من صيامه، وليس عليها طاعتُه في ذلك؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

فإن صامتْ نفلاً وزوجُها حاضر من دون إذنه، صح صومُها، وأثمتْ لمخالفة النهي، وإن أراد الاستمتاع بها، فله ذلك ويفسد صومها، وليس لها الامتناع منه؛ لأن طاعة الزوج واجبة، وإتمام النفل مستحب.

وكذلك الحال في بقية التطوُّعات، من صلاة، وحج، واعتكاف، وغيرها، فإن حق الزوج - عند التعارض - آكدُ على المرأة من التطوع بالخير، فلا يجوز لها الشروع فيها إذا كان ذلك يمنعه حقَّه؛ لأن حقه واجب، والقيام بالواجب مقدَّم على القيام بالتطوُّع[37].

قال النووي: "وسببه - أي التحريم - أن الزوج له حق الاستمتاع بها في كل الأيام، وحقه فيه واجب على الفور، فلا يَفُوته بتطوع، ولا بواجب على التراخي، فإن قيل: فينبغي أن يجوز لها الصوم بغير إذنه، فإنْ أراد الاستمتاع بها كان له ذلك ويفسد صومها؟ فالجواب: أن صومها يمنعه من الاستمتاع في العادة؛ لأنه يهاب انتهاك الصوم بالإفساد"[38].

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((زوجها شاهد))؛ أي: مقيم في البلد، فإن كان مسافرًا فلها الصوم؛ لأنه لا يتأتَّى منه الاستمتاع إذا لم تكن معه، وفي معنى السفر ما لو كان مريضًا لا يقدر على الاستمتاع[39].

حق الزوجة في الاستمتاع:
وفي المقابل، فإنه يجب على الزوج أن يقضي وطرَ زوجتِه، كلما رغبتْ في ذلك، وكان قادرًا عليه، ما لم ينهك بدنه، أو يشغله ذلك عن عبادة واجبة، أو طلب معيشة يحتاجها.

وإذا كانت تتضرر بترك الوطء؛ بسبب عجز الزوج، أو امتناعه عنه مع قدرته عليه، فلها الحق في طلب الفسخ منه، كما لو امتنع من الإنفاق عليها.

وكما لو حلف على ترك وطئها، فإنه يمهل أربعة أشهر، فإن فاء ووطئها فبها ونعمتْ، وإلا أُمر بتطليقها إن طلبتْ ذلك، فإن أبى تطليقَها طلق الحاكم عليه؛ رفعًا للضرر عنها[40]؛ قال الله - تعالى -: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ**[41].

وفي الحديث عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عبدالله، ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟))، قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا))[42].

فنهاه عن المبالغة في العبادة التي يترتَّب عليها إجهادُ بدنه وعينه، وتفويت حق زوجته في الاستمتاع والمؤانسة.

قال ابن حجر في شرح الحديث: "قال ابن بطال: لما ذكر في الباب قبله حقَّ الزوج على الزوجة، ذكر في هذا عكسه، وأنه لا ينبغي له أن يجهد بنفسه في العبادة حتى يضعف عن القيام بحقها، من جماع واكتساب.

واختلف العلماءُ فيمن كفَّ عن جماع زوجته، فقال مالك: إن كان بغير ضرورة، ألزم به أو يفرق بينهما، ونحوه عن أحمد، والمشهور عند الشافعية أنه لا يجب عليه، وقيل: يجب مرة، وعن بعض السلف في كل أربعٍ ليلة، وعن بعضهم في كل طهرٍ مرة"[43].

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن الحقوق الأبضاع، فالواجب الحكم بين الزوجين بما أمر الله - تعالى - به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، فيجب على كلٍّ من الزوجين أن يؤدِّي إلى الآخر حقوقَه بطيب نفس، وانشراح صدر؛ فإن للمرأة على الرجل حقًّا في ماله، وهو الصداق والنفقة بالمعروف، وحقًّا في بدنه، وهو العشرة والمتعة، بحيث لو آلى منها استحقَّت الفرقة بإجماع المسلمين.

وكذلك لو كان مجبوبًا أو عِنِّينًا لا يمكنه جماعها، فلها الفرقة، ووطؤها واجب عليه عند أكثر العلماء.

وقد قيل: إنه لا يجب؛ اكتفاءً بالباعث الطبيعي، والصواب أنه واجب كما دل عليه الكتاب والسُّنة والأصول، وقد قال النبي لعبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - لما رآه يكثر الصوم والصلاة: ((إن لزوجك عليك حقًّا)).

ثم قيل: يجب عليه وطؤها كل أربعة أشهر مرةً، وقيل: يجب وطؤها بالمعروف على قدر قوته وحاجتها، كما تجب النفقة بالمعروف كذلك، وهذا أشبه"[44].

وقال في موضع آخر: "ويجب على الزوج وطءُ امرأته بقدر كفايتها، ما لم ينهك بدنه، أو تشغله عن معيشته... وحصول الضرر للزوجة بترك الوطء مقتضٍ للفسخ بكل حال، سواء كان بقصد من الزوج أو بغير قصد، ولو مع قدرته وعجزه، كالنفقة وأولى، للفسخ بتعذره في الإيلاء[45] إجماعًا.

وعلى هذا؛ فالقول في امرأة الأسير والمحبوس ونحوهما، ممَّن تعذَّر انتفاعُ امرأته به، إذا طلبتْ فرقتَه، كالقول في امرأة المفقود بالإجماع، كما قاله أبو محمد المقدسي"[46].

وسئل - رحمه الله - عن الرجل إذا صبر على زوجته الشهر والشهرين لا يطؤها، فهل عليه إثم أو لا؟ وهل يطالب الزوج بذلك؟

فأجاب: "يجب على الرجل أن يطأ زوجتَه بالمعروف، وهو من أوكد حقها عليه؛ أعظم من إطعامها.

والوطء الواجب، قيل: إنه واجب في كل أربعة أشهر مرةً، وقيل: بقدر حاجتها وقدرته، كما يطعمها بقدر حاجتها وقدرته، وهذا أصح القولين"[47].

فالاستمتاع بين الزوجين حق لكل منهما على الآخر، لكن لما كان الرجال في الغالب أقوى من النساء، وحاجتهم إلى ذلك أكثر، وحقهم عليهن أعظم، كان الوعيد على المرأة الممتنعة من إجابة زوجها إذا دعاها لحاجته، أشدَّ وأكبر.

يتبع

    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة