عرض مشاركة واحدة
New Page 2
 
 

قديم 31-08-2014, 09:10 PM   #10
معلومات العضو
حكيـــمة
مشرفة عامة لمنتدى الرقية الشرعية

Post شرح شروط لا إله إلا الله للشيخ الرضواني

الشرط الثامن الكفر بما يعبد من دون الله
الحَمْدُ للهِ الذِي أَنزَل على عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلمْ يَجْعَل لهُ عِوَجَا قَيِّمًا ليُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالحَاتِ أَنَّلهُمْ أَجْرًا حَسَنا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنذِرَ الذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلدًا مَا لهُمْ بِهِ مِنْ عِلمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا فَلعَلكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِنْ لمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفًا إِنَّا جَعَلنَا مَا على الأَرْضِ زِينَةً لهَا لنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَإِنَّا لجَاعِلُونَ مَا عَليْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) وأشهد ألا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، شهادة تضمن الإسعاد يوم يقوم الأشهاد ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، الداعي إلي سبيل الرشاد ، صلي الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قمعوا أهل العناد ، وحكموا سيوفهم في رقاب أهل الفساد ، فلم يجرؤ أحد في زمانهم على إلحاد ، بتمثيل أو تعطيل أو حلول أو اتحاد ، أبعدنا الله عن ذلك أيما إبعاد ، وحمانا منه على مر الدهور والآباد ، أما بعد ..
فحديثنا بإذن الله في محاضرة اليوم عن الشرط الثامن والأخير من شروط لا إله إلا الله ، وهو الكفر بما يعبد من دون الله ، فشروط لا إله إلا الله التي وردت في كتاب الله وفي سنة رسوله r ثمانيةُ شروط ، لا يصح قول اللسان ولا يصلح ركن من أركان الإيمان إلا بها : أولها العلم المنافي للجهل ، ثم اليقين المنافي للشك ، ثم الإخلاص المنافي للشرك ، ثم الصدق المنافي للكذب ، تم المحبة التي تنافي البغض ، ثم القبول الذي ينافي الرد ، ثم الانقياد الذي ينافي الترك ، والثامن من هذه الشروط هو الكفر بما يعبد من دون الله ، وقد أحسن من جمعها وعدها وحصرها في هذين البيتين فقال :
علم يقين وإخلاص وصدقك مع : محبة وانقياد والقبول لها
وزيد ثامنها الكفران منك بما : سوي الإله من الأشياء قد ألها
وآخر هذه الشروط هو الكفر بالطاغوت يقول تعالى : ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَي لا انفِصَامَ لهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَليمٌ اللهُ وَليُّ الذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلي النُّورِ وَالذِينَ كَفَرُوا أَوْليَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إلي الظُّلُمَاتِ أُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالدُونَ ) .
فالتوحيد في أساسه لا يتحقق إلا بنفي وإثبات ، نفي صفات الألوهية عما سوي الله ، وإثباتها لله وحده ، فلا يتم التوحيد حتى يشهد أن لا إله إلا الله ، فلو نفيت الألوهية عما سوي الله عز وجل ولم تثبتها لله وحده لم تكن موحدا ، ولو أثبت صفات الألوهية لله ، ولم تنفها عمن سواه لم تكن موحدا ، فالنفي المحض تعطيل محض ، والإثبات المحض لا يمنع مشاركة الآخرين في الحكم ، ولذلك لو قلنا مثلا : فلان غني قوي ، فهنا أثبتنا له القوة والغني ، لكن من الجائز أن يشاركه غيره في وصف القوة والغني ، ولكن لو قلنا لا قوي ولا غني إلا فلان ، فهنا وحدناه بهذين الوصفين ، وأفردناه عمن سواه ، فالله عز وجل قرن النفي بالإثبات ورتب ذلك في الآيات ، فلا بد في صحة الإيمان بلا إله إلا الله ، من نفي عبادة ما سوي الله ، أو الكفر بما يعبد من دون الله ، وإثبات عبادة الله وحده ، وهذه حقيقة التوحيد التي جاءت بها رسالة السماء ، ودعت إليها الرسل والأنبياء ، فالعروة الوثقي هي كلمة التوحيد ، وسميت كلمة التوحيد بالعروة الوثقي ، لأن العاقل إذا شهد بها عن فهم دقيق وإيمان عميق ، لا يرضي بغير الله معبودا حتى لو مشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمه أو عصبه ، وما يصده ذلك عن توحيد الله عز وجل ، كما روي البخاري من حديث خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ t قَال : ( شَكَوْنَا إلي رَسُول اللهِ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لهُ فِي ظِل الكَعْبَةِ ، قُلنَا لهُ : أَلا تَسْتَنْصِرُ لنَا ؟ أَلا تَدْعُو اللهَ لنَا ؟ قَال : كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلكُمْ يُحْفَرُلهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ ، فَيُجَاءُ بِالمِنْشَارِ فَيُوضَعُ على رَأْسِهِ ، فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلكَ عَنْ دِينِهِ ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلكَ عَنْ دِينِهِ وَاللهِ ليُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حتى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إلي حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللهَ ، أَوْ الذِّئْبَ على غَنَمِهِ وَلكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ .
والعروة في اللغة هي ما يشد به الثوب وغيره ، بحيث يتداخل بعضها في بعض دخولا لا ينفصم ولا ينفك إلا بفصم طرفه ، فإذا انفصمت منه عروة انفصم جميعه ، والمرء إذا شهد ألا إله إلا الله فقد عقد العقدة العظمي والعروة الوثقي لكلمة التوحيد ، التي لا انفصام لها إلا بالشرك بالله أو عدم الكفر بما يعبد من دون الله ، وقد فسر النبي صلي الله عليه وسلم العروة الوثقي بالتوحيد الذي هو عمود الإسلام في تعبيره رؤيا عبد الله بن سلام ، ففي الصحيح عَنْ خَرَشَةَ ابْنِ الحُرِّ أنه قَال : كُنْتُ جَالسًا فِي حَلقَةٍ فِي مَسْجِدِ المَدِينَةِ وَفِيهَا شَيْخٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ وَهُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ ، فَجَعَل يُحَدِّثُهُمْ حَدِيثًا حَسَنًا ، فَلمَّا قَامَ ، قَال القَوْمُ :
مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلي رَجُلٍ مِنْ أَهْل الجَنَّةِ فَليَنْظُرْ إلي هَذَا الرجل ، فَقُلتُ : وَاللهِ لأَتْبَعَنَّهُ فَلأَعْلمَنَّ مَكَانَ بَيْتِهِ ، فَتَبِعْتُهُ فَانْطَلقَ حتى كَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ المَدِينَةِ ، ثُمَّ دَخَل مَنْزِلهُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَليْهِ فَأَذِنَ لي ، فَقَال : مَا حَاجَتُكَ يَا ابْنَ أَخِي ، فَقُلتُ لهُ : سَمِعْتُ القَوْمَ يَقُولُونَ لكَ لمَّا قُمْتَ : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلي رَجُلٍ مِنْ أَهْل الجَنَّةِ فَليَنْظُرْ إلي هَذَا ، فَأَعْجَبَنِي أَنْ أَكُونَ مَعَكَ ، قَال : اللهُ أَعْلمُ بِأَهْل الجَنَّةِ ، وَسَأُحَدِّثُكَ مِمَّ قَالُوا ذَاكَ إِنِّي بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَال لي : قُمْ ، فَأَخَذَ بِيَدِي ، فَانْطَلقْتُ مَعَهُ ، فَإِذَا أَنَا بِجَوَادَّ عَنْ شمالي ، الجواد الطريق ، قَال : فَأَخَذْتُ لآخُذَ فِيهَا ، فَقَال لي : لا تَأْخُذْ فِيهَا فَإِنَّهَا طُرُقُ أَصْحَابِ الشِّمَال ، قَال : فَإِذَا جَوَادُّ مَنْهَجٌ على يَمِينِي يعني أنه رأي عن يمينه طرقا مستقيمة ، فَقَال لي : خُذْ هَاهُنَا ، أي سر في هذا الطريق ، يقول عبد الله بن سلام : فَأتي بِي جَبَلا ، فَقَال ليَ : اصْعَدْ ، قَال : فَجَعَلتُ إِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَصْعدَ خَرَرْتُ على اسْتِي – وقعت على مقعدتي - ، حتى فَعَلتُ ذَلكَ مِرَارًا ، ثُمَّ انْطَلقَ بِي حتى أتي بِي عَمُودًا رَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ وَأَسْفَلُهُ فِي الأَرْضِ ، فِي أَعْلاهُ حَلقَةٌ ، فَقَال ليَ : اصْعَدْ فَوْقَ هَذَا – العمود - ، قُلتُ : كَيْفَ أَصْعَدُ هَذَا وَرَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ ؟ ، قَال : فَأَخَذَ بِيَدِي فَزَجَل بِي – أي دفعني ورماني والزجل بالشيء هو الرمي به ، يقول عبد الله بن سلام : فَإِذَا أَنَا مُتَعَلقٌ بِالحَلقَةِ ، ثُمَّ ضَرَبَ العَمُودَ فَخَرَّ ، وَبَقِيتُ مُتَعَلقًا بِالحَلقَةِ حتى أَصْبَحْتُ .
قَال عبد الله بن سلام : فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَصَصْتُهَا عَليْهِ ، فَقَال : أَمَّا الطُّرُقُ التِي رَأَيْتَ عَنْ يَسَارِكَ فَهِيَ طُرُقُ أَصْحَابِ الشِّمَال ، وَأَمَّا الطُّرُقُ التِي رَأَيْتَ عَنْ يَمِينِكَ فَهِيَ طُرُقُ أَصْحَابِ اليَمِينِ ، وَأَمَّا الجَبَلُ – الذي كنت تحاول صعوده فكنت تقع ولم تستطع - فَهُوَ مَنْزِلُ الشُّهَدَاءِ ، وَلنْ تَنَالهُ ، فلن تموت شهيدا - وَأَمَّا العَمُودُ – الذي رَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ وَأَسْفَلُهُ فِي الأَرْضِ - فَهُوَ عَمُودُ الإِسْلامِ - وَأَمَّا العُرْوَةُ – أو الحلقة التي في أعلاه - فَهِيَ عُرْوَةُ الإِسْلامِ وَلنْ تَزَال مُتَمَسِّكًا بِهَا حتى تَمُوتَ .
فالعروة الوثقي هي عرة الإسلام وكلمة التوحيد ، والمسلم بقوله لا إله إلا الله قد عهد عهدا على نفسه وعقد في قلبه عقدا ، أنه سيسلم لربه ، ولن يطيع أحدا في معصيته ، ولن يتحاكم إلا إلي شرعه .
وقد بين رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أن الكفر بما يعبد من دون الله ، شرط من شروط لا إله إلا الله ، فقد روي الإمام مسلم رحمه الله من حديث أبي مَالكٍ الأَشْجَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ أنه قَال : سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ : مَنْ قَال لا إِلهَ إِلا اللهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ على اللهِ .
ومن أوليات الكفر بما يعبد من دون الله ، ألا توالي أعداء الله وأعداء المؤمنين الذين يبغضون دين المسلمين ، ويسارعون في إيذائهم ومعاونة أعدائهم كما قال تعالى : ( لا يَتَّخِذْ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْليَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَل ذَلكَ فَليْسَ مِنْ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللهُ نَفْسَهُ وَإلي اللهِ المَصِيرُ ) .
لما أراد رسول الله فتح مكة وعزم على ذلك أمر أصحابه بكتمان الأمر حتى لا تعلم قريش ، فسرب حاطب بن أبي بلتعة الخبر إليهم رغبة في أن تكون له يد عندهم ، وروي البخاري من حديث على رَضِي الله عَنْه أنه قال : بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ بنَ العوام وَالمِقْدَادَ بنَ الأسود فَقَال : انْطَلقُوا حتى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ – وهي مكان في الطريق بين مكة والمدينة - فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً – والظعينة المرأة الراكبة- مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوه مِنْهَا ، قَال على رضي الله عنه : فَانْطَلقْنَا تَعَادَي بِنَا خَيْلُنَا حتى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ ، قُلنَا لهَا : أَخْرِجِي الكِتَابَ ، قَالتْ : مَا مَعِي كِتَابٌ ، فَقُلنَا : لتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لنُلقِيَنَّ الثِّيَابَ ، قَال : فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا ، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلتَعَةَ إلي نَاسٍ بِمَكَّةَ مِنَ المُشْرِكِينَ ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : يَا حَاطِبُ مَا هَذَا ؟
قَال : يَا رَسُول اللهِ لا تَعْجَل على ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلصَقًا فِي قُرَيْشٍ ، يَقُولُ : كُنْتُ حَليفًا وَلمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ المُهَاجِرِينَ مَنْ لهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْليهِمْ وَأَمْوَالهُمْ ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي ، وَلمْ أَفْعَلهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلا رِضًا بِالكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلامِ ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ ، فَقَال عُمَرُ : يَا رَسُول اللهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ ، فَقَال : إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لعَل اللهَ اطَّلعَ على مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فَقَال اعْمَلُوا مَا شئتمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لكُمْ فَأَنْزَل اللهُ عز وجل : ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْليَاءَ تُلقُونَ إِليْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُول وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِليْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَل سَوَاءَ السَّبِيل ) الممتحنة/1 .
ويقول تعالى : ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) .
فالله عز وجل نهي عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم ، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالا أي يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن وبما يستطيعون من المكر والخديعة ويودّون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشق عليهم وقوله تعالى :
( لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ) (آل عمران: من الآية118) ، أي من غيركم من أهل الأديان ، وبطانة الرجل هم خاصة أهله الذين يطلعون على داخل أمره ، قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إن ههنا غلاما من أهل الحيرة من النصارى حافظ كاتب ، فلو اتخذته كاتبا فقال : قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين ، يقول ابن كثير : وهذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشي أن يفشوها إلي الأعداء من أهل الحرب ، فما بالنا في هذا العصر ونحن نطلع الغربيين والشرقيين على أسرارنا ونفرح بمشاركتهم في أمورنا ، ونسارع في مرضاتهم ونقلد سلوكياته ، ونسير خلفهم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، فيا أهل لا إله إلا الله أين الولاء لله والبراء من أعداء الله ، أين الكفر بما يعبد من دون الله ؟ إن الله تعالى يقول :
( أَلمْ تَرَ إلي الذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِل إِليْكَ وَمَا أُنزِل مِنْ قَبْلكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلي الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلهُمْ ضَلالا بَعِيدًا ) ،فأنكر الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله في القرآن ، وعلى الأنبياء السايقين ، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات وفض المنازعات إلي غير منهج الله الذي نزل في كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم .
وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية أن رجلا من الأنصار ورجلا من اليهود تخاصما فيما بينهما ، فقال اليهودي : بيني وبينك محمد وما يحكم به ، وقال الأنصارى : بيني وبينك كعب بن الأشرف وما يحكم به ، وقيل أنها نزلت في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام والعبودية ، وأرادوا أن يتحاكموا إلي حكام الجاهلية ، والآية عامة وذامة لكل من تحاكم إلي غير الشريعة الإسلامية ، وعدل عن الكتاب والسنة إلي ما سواهما من الباطل ، وهو المراد بالطاغوت هنا ، ولهذا قال تعالى : ( أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلي الطَّاغُوتِ ) ( وَإِذَا قِيل لهُمْ تَعَالوْا إلي مَا أَنزَل اللهُ وَإلي الرَّسُول رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ) ، يعرضون عنك إعراض المستكبرين ، ويفعلون أفعال المشركين ، وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم : ( إِنَّمَا كَانَ قَوْل المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إلي اللهِ وَرَسُولهِ ليَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلئِكَ هُمْ المُفْلحُونَ ) .
وحال هؤلاء المنافقين يشبه حال الكثيرين ممن يدعون العلم والإيمان في هذه الأزمان ، إذا قيل لهم تعالوا إلي ما أنزل الله وإلي الرسول رأيتهم يصدون وهم مستكبرون ، ويعتذرون بأنهم لا يعرفون ولا يعقلون ، وهؤلاء هم المعطلون ، الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ، يقولون بزعمهم إنما قصدنا التوفيق بين القواطع العقلية والفلسفة والكلامية ، وبين الأدلة النقلية التي وردت في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، ثم يجعلون الفلسفة الكلامية هي الأساس في الأصول الاعتقادية التي يحكمون بها على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، فما وافقها قبلوه وما خالفها ردوه وعطلوه وطلبوا له وجوه التأويلات البعيدة والتكلفات الشديدة التي تلوي أعناق النصوص .
ثم قال الله تعالى في ذم المنافقين : ( فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ) ، إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب أصابتهم بسبب ذنوبهم وحمقهم ، واحتاجوا إليك جاءوك يعتذرون إليك ويحلفون بالله لديك ، ما أردنا بذهابنا إلي غيرك ، وتحاكمنا إلي أعدائك إلا الإحسان والتوفيق ، والمداراة والمصانعة ، لا اعتقادا منا في صحة حكمهم ، وصواب رأيهم ، فقال تعالى في شأنهم :
( أُوْلئِكَ الذِينَ يَعْلمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ) هؤلاء هم المنافقون ، يخادعون رسول الله ولا يعلمون أن الله يعلم ما في قلوبهم وسيحاسبهم على أفعالهم ، فإن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فقال الله عز وجل لنبيه في شأن المنافقين وخذلانهم للمؤمنين :
( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلا بَليغًا ، أمر الله رسوله صلي الله عليه وسلم فيهم بثلاثة أشياء : أولها الإعراض عنهم إهانة لهم وتحقيرا لشأنهم وتصغيرا لأمرهم ، ثانيها : تخويفهم عقوبة الله وشدة بأسه ونقمته ، إن أصروا على التحاكم إلي غير رسوله صلي الله عليه وسلم وما أنزل عليه ، وثالثها قوله وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا أي يبلغ تأثيره إلي قلوبهم ليس قولا لينا لا يتأثرون به ، ويقول تعالى :
( وَمَا أَرْسَلنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا ليُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لهُمْ الرَّسُولُ لوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) يرشد الله تعالى المنافقين أنهم لو كانوا صادقين في دعواهم الإيمان ووقع منهم الخطأ والعصيان ، لأتوا رسول الله صلي الله عليه وسلم ليستغفر لهم عند ربهم ، ويتوبوا من ذنبهم ، فإنهم إذا فعلوا ذلك لو جدوا الله توابا رحيما ، ثم قال تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلمُوا تَسْليمًا ) .
روي البخاري أَنَّ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزبيرَ بن العوام رضي الله عنه 2187 فِي شِرَاجِ الحَرَّةِ التِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْل ، اختلفا على قناة الماء التي تروي أرضهما ، فَقَال الأَنصارى سَرِّحِ المَاءَ يَمُرُّ فَأبي عَليْهِ – وكانت أرض الزبير قبل أرضه والماء يمر أولا على نخله - فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ للزُّبَيْرِ اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِل المَاءَ إلي جَارِكَ ، فَغَضِبَ الأَنصارى وَقَال أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ - أي حكمت لصالحه من أجل قرابته - فَتَلوَّنَ وَجْهُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ وغضب ، فقَال اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حتى يَرْجِعَ إلي الجَدْرِ – ويعني اسق حتى يغطي الماء أصول نخلك ويبلغ إلي مقدار الكَعْبَيْنِ ولا عليك منه - فاسْتَوْعَي للزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الحُكْمِ ، فَنزل قول الله تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلمُوا تَسْليمًا ) .
فالتحاكم إلي الطاغوت مناف للايمان وزيادة في الكفر والفسوق والعصيان ، فلا يصح الإيمان بالله الا بالكفر بما يعبد من دون الله ، والبراءة من الكافرين والولاية للمؤمنين ، فلا تجتمع البراءة والولاية أبدا ، فالولاية للمؤمنين عزة ونصرة ، والولاية للكافرين ذلة وخسة .
وقد كان المشركون في الجاهلبية يعلمون أن شهادة ألا إله إلا الله ، تستلزم الكفر بما يعبد من دون الله ، وأن الإقرار بها يحتم كامل المولاه لله ولرسوله ، ولذلك لما طلب رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلم َمن عمه أن ينطق بكلمة التوحيد وهو يحتضر ، لم يطاوعه قلبه على أن ينطق بلا إله إلا الله لعلمه بلوازمها ، فانتصر لدين الآباء المشركين وأبي أن يؤمن بخاتم الأنبياء والمرسلين ، ولم يشهد ألا إله إلا الله ، فهم كانوا يعلمون شروطها ولوازمها 1360 جاء في الصحيح من حديث سَعِيد بْن المُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ لمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالبٍ الوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْل بْنَ هِشَامٍ وَعَبْد َاللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ المُغِيرَةِ ، قَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ لأَبِي طَالب : ٍ يَا عَمِّ قُل لا إِلهَ إِلا اللهُ كَلمَةً أَشْهَدُ لكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ ، فَقَال أَبُو جَهْلٍ وَعَبْد ُاللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ : يَا أَبَا طَالبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلةِ عَبْد ِالمُطَّلبِ ، فَلمْ يَزَل رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يَعْرِضُهَا عَليْهِ وَيَعُودَانِ بِتِلكَ المَقَالةِ حتى قَال أَبُو طَالبٍ آخِرَ مَا كَلمَهُمْ : هُوَ على مِلةِ عَبْد ِالمُطَّلبِ وَأبي أَنْ يَقُول لا إِلهَ إِلا اللهُ ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، أَمَا وَاللهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لكَ مَا لمْ أُنْهَ عَنْكَ ، أسوة بإبراهيم لما استغفر لأبيه المشرك الذي قال له :
**أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لئِنْ لمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَليًّا قَال سَلامٌ عَليْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَي أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ** (مريم/48:46) فلما علم الصحابة أن رسول الله سيستغفر لعمه على الرغم من عقيدته الشركية ، بدؤوا يستغفرون لآبائهم المشركين الذين ماتوا في الجاهلية ، عند ذلك منعهم الله عز وجل وبين لهم أن ذلك لا يجوز في حقهم ، وأن إبراهيم ما استغفر لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه بأنه سيشهد ألا إله إلا الله وأن إبراهيم نبي الله ، فَلمَّا تَبَيَّنَ لهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأنزل الله عز وجل :
مَا كَانَ للنَّبِيِّ وَالذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا للمُشْرِكِينَ وَلوْ كَانُوا أُوْلي قُرْبَي مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلمَّا تَبَيَّنَ لهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَليم وَمَا كَانَ اللهُ ليُضِل قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيِّنَ لهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ ** (التوبة/115:113)
إبراهيم عليه السلام تبرأ من أبيه لما أصر على الشرك بالله وامتنع عن التوحيد ، فبعد أن كان والده قريبا حبيبا أصبح بسبب شركه بعيدا غريبا ، بل سأل إبراهيم ربه ألا يخزيه فيه يوم يبعثون ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُون ، فقال : **وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُون يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُون إِلا مَنْ أتي اللهَ بِقَلبٍ سَليمٍ ** (الشعراء/89:87) ماذا سيحدث لآزر والد إبراهيم يوم القيامة ؟
يحوله إلي ضبع من أقذر المخلوقات وساخة ونجاسة فمن حديث أَبِي هُرَيْرَةَ في الصحيح أن النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال : يَلقَي إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَعلى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ فَيَقُولُ لهُ إِبْرَاهِيمُ أَلمْ أَقُل لكَ لا تَعْصِنِي فَيَقُولُ أَبُوهُ فَاليَوْمَ لا أَعْصِيكَ فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَي مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ فَيَقُولُ اللهُ تعالى إِنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ على الكَافِرِينَ ثُمَّ يُقَالُ يَا إِبْرَاهِيمُ انظر مَا تَحْتَ رِجْليْكَ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُلتَطِخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلقَي فِي النَّارِ .
فيمسخ الله أباه ويُسْخِطُه في صورة قبيحة وريحة منتنة ، يحوله ضبعا متلطخا يتمرغ في نتانته ، فلا يخزي إبراهيم في أبوته ولا يبقي في النار على صورته ، جعله سبحانه مشابها للضبع في قذارته وحماقته ، يذكر ابن حجر أن الحكمة في مسخه ضبعا أن الضبع من أحمق الحيوانات وآزر كان من أحمق المخلوقات ، فبعد أن ظهرت له الآيات البينات الواضحات على توحيد الله ، أصر آزر على الشرك ، رفض توحيد الله وأصر على تعظيم من سواه فاستحب الكفر على الإيمان ووقع في الظلم والعصيان .
ولذلك قال تعالى لنبيه وللمؤمنين : **قَدْ كَانَتْ لكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاءُ أَبَدًا حتى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْل إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لكَ وَمَا أَمْلكُ لكَ مِنْ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَليْكَ تَوَكَّلنَا وَإِليْكَ أَنَبْنَا وَإِليْكَ المَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلنَا فِتْنَةً للذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ** (الممتحنة/5:4) .
فكلمة لا إله إلا الله ، تقلب العدو إذا شهد بها إلي حبيب ، وتحول القريب إذا كفر بها إلي غريب ، لأنها فرقان بين الحق والباطل ، ونور يخرج من القلب إلي اللسان يضيئ الأركان في سائر الأبدان .
والرسول صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يشفع لعمه في الآخرة ، ليس في الخروج من النار ، ولكن في تخفيف العذاب عنه هتي يكون عذابه أهون أهل النار عند البخاري 6076 فمن حديث النُّعْمَانِ بن بشير رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قال : إِنَّ أَهْوَنَ أَهْل النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ لرَجُلٌ تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَةٌ يَغْلي مِنْهَا دِمَاغُهُ .
ويريد بذلك عمه أبو طالب لما ورد من حديث 5740 الحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلبِ أنه قَال : يَا رَسُول اللهِ هَل نَفَعْتَ أَبَا طَالبٍ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لكَ قَال نَعَمْ هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ ، لوْلا أَنَا لكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَل مِنَ النَّارِ .
وكل أمة بعث الله إليها رسولا من نوح إلي محمد يأمرهم بعبادة الله وحده وينهاهم عن عبادة الطاغوت والدليل على ذلك قوله تعالى : ( وَلقَدْ بَعَثْنَا فِي كُل أُمَّةٍ رَسُولا أَنْ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَي اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَليْهِ الضَّلالةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ) .
وأصول الطواغيت التي تعبد من دون الله محصورة في أصلين من أبواب الضلال : الأصل الأول عبودية الهوى وما يتعلق به من أصناف الدنيا وأنواع المشتهيات ، والأصل الثاني عبودية الشيطان وما يبثه في قلب الإنسان من شبهات .
فالأصل الأول يدخل تحته ما تجاوز به العبد حده وتجاوز به وصفه ، كمن عظم نفسه ودعا الناس إلي إطرائه ومدحه حتى يصل به الهوى إلي إدعاء ربوبيته ، ودعوتهم لعبوديته ، كما فعل فرعون وهامان ومن قبلهما النمرود بن كنعان ، كل واحد منهم ألبس نفسه رداء الربوبية ولم يكتس بثوب العبودية ، ولم يعلم أنه عبد في ملك سيده مستخلف في أرضه أمين على ملكه ، قد ابتلاه فيما أعطاه ، وامتحنه فيما خوله واسترعاه ، فلم يرد الملك إلي المالك ونسب لنفسه أوصاف الخالق ؟ فتكبر على الخلق بنعم الله ، وتعالي عليهم بما منحه وأعطاه ، لينازع ربه في وصف الربوبية ، ويشاركه في العلو والكبرياء ، وعظمة الأوصاف والأسماء ، فأصبح طاغوتا يستوجب الشقاء والحرمان ، ودوام العذاب في النيران ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَل في الحديث القدسي :
( الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالعَظَمَةُ إِزَارِي ، فَمَنْ نَازَعَنِي شَيْئًا مِنْهُمَا أَلقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ ) ، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ r في الحديث الذي رواه الإمام مسلم قَال : ( لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ) فإن لم تكن عبدا لربك تعتقد أنك وما خولك وملكك خالصا له خاضعا لأمره ، فإنك تطمع إلي تأليه نفسك والخروج عن وصفك ، فتدعي لنفسك ما ادعاه فرعون من أوصاف الربوبية .
فرعون بلغت به الوقاحة إلي أن قال : ( وَقَال فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لي صَرْحًا لعلى أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلعَ إلي إِلهِ مُوسَي وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلكَ زُيِّنَ لفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيل وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ ) ، ( وَنَادَي فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَال يَاقَوْمِ أَليْسَ لي مُلكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحتى أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ فَلوْلا أُلقِيَ عَليْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلنَاهُمْ سَلفًا وَمَثَلا للآخِرِينَ ) ، وقد قال تعالى : ( كَذَلكَ يَطْبَعُ اللهُ على كُل قَلبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ فإياك إياء من العلو والاستكبار لأن الله تعالى هو الملك الجبار : ( تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا للذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الارْضِ وَلا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ للمُتَّقِينَ ) (القصص/ 83) .
وهذا النمرود بن كنعان حاج إبراهيم في ربه ( أَلمْ تَرَ إلي الذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ المُلكَ إِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَال أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَال إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالمِينَ ) ، فهؤلاء الظالمون اتبعوا أهواءهم وعظموا وصفهم حتى ادعوا الألوهية مع علمهم أنهم لا دوام لهم في الحياة إلا بإذن الله ، فكان الهوى هو طاغوتهم الذي عبدوه من دون الله :
( أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَليْهِ وَكِيلا ) ، ( أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلهُ اللهُ على عِلمٍ وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلبِهِ وَجَعَل على بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ، فالله عز وجل يبتلي العباد ، بأنواع الفتن ليمحص المؤمنين من أهل الفساد والعناد ، فمن حديث حُذَيْفَةَ بن اليمان أن النَّبِيَّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قال : ( تُعْرَضُ الفِتَنُ على القُلُوبِ كَالحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حتى تَصِيرَ على قَلبَيْنِ على أَبْيَضَ مِثْل الصَّفَا فَلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالكُوزِ مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاه ) ، فالهوى طاغوت يعبد من دون الله ويتعلق بأنواع الدنيا من المشتهيات كما قال تعالى :
( زُيِّنَ للنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيْل المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآبِ ) ، فهذه الأصناف السبعة هي أنواع المشتهيات ، فإن لم تكن وسائل لطاعة الله والفوز في أخراه فهي طواغيت عبدت من دون الله وقد قال رسول الله : ( تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لمْ يُعْطَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ ) .
ويدخل تحت الأصل الأول وهو عبودية الهوى وما يتعلق به من أصناف الدنيا وأنواع المشتهيات ، من عبد من دون الله وهو راض بهذه العبودية ، كما يفعل كثير من شيوخ الصوفية الذي يزعم الولاية والإيمان ثم يوصي قبل موته أن يقيموا مسجدا على قبره ، ويجتمعوا عليه في مولده ثم بعد ذلك يعبد من دون الله ، وكذلك من ادعي شيئا من علم الغيب فإنه طاغوت يعبد من دون الله ، فإن الله قد ابتلانا بقصر مداركنا ومحدودية علمنا وضن علينا بعلم الغيب ، فقال تعالى : ( وَلا تَقْفُ مَا ليْسَ لكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ) ، وقال الله تعالى : ( قُل لا يَعْلمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) .
فالسحر والكاهنة من الجبت والطاغوت والله تعالى يقول : ( أَلمْ تَرَ إلي الذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ للذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَي مِنْ الذِينَ آمَنُوا سَبِيلا ) ، فلا نصدق كاهنا ولا عرافا ، فمن حديث أبي هريرة أن النبي قال : ( من أتي عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ) ، وعن عائشة قالت : سئل رسول الله عن الكهان فقال ليسوا بشيء فقالوا يا رسول الله إنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا فقال رسول الله تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة .
فيدخل تحت الطاغوت الذي يجب أن تكفر به ، كشرط من شروط لا إله إلا الله ، كل من ادعي معرفة الغيب كالكاهن والذي يضرب الودع والحصي ، والذي يخط بالأرض في الرمال ، والمنجم الذي يدعي العلم بالأبراج والنجوم ، وغيرهم ممن يتكلم في معرفة الأمور الغائبة ، كالدلالة على شي مسروق أو التعرف على مكان الضالة ونحوها أو الإخبار عن أمور تحدث في المستقبل ، كمجئ المطر أو رجوع الغائب أو هبوب الرياح ، ونحو ذلك مما استأثر الله عز وجل بعلمه ، فلا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا من طريق الوحي وترابط الأسباب ، كما قال الله تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ) (الجن:27) .
أما الأصل الثاني من أصول الضلال ، والطاغوت الذي يعبد من دون الله ، فهي عبودية الشيطان وما يبثه في قلب الإنسان من شبهات ، فإبليس لما امتنع عن السجود لآدم ، وتملكه العلو والاستكبار ، وأظهر الاعتراض والاستنكار على رب العزة والجلال ، حسدا وحقدا على آدم وذريته ، كيف فضلهم الله بمنزلة أعلى من مكانته ؟ لعنه الله وطرده من رحمته ، وأيقن إبليس بهلاكه وشقوته ، وأنه لا محالة ممنوع من جنته ، ( قَال رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إلي يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) ( قَال أَرَأَيْتَكَ هَذَا الذِي كَرَّمْتَ على لئِنْ أَخَّرْتَنِي إلي يَوْمِ القِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَليلا ) ، ( وَقَال لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ، وَلأُضِلنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَليُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَليُغَيِّرُنَّ خَلقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَليًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ، يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا ، أُوْلئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا) ، فكان من عدل الله أنه أمهله ، ( قَال فَإِنَّكَ مِنْ المُنْظَرِينَ ، إلي يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ ) فازداد الشيطان حقدا على الإنسان ، وأكد أنه لن يسأم في إغوائه ودعوته إلي العصيان : ( قَال رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لهُمْ فِي الأرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمْ المُخْلصِينَ ، قَال هَذَا صِرَاطٌ على مُسْتَقِيمٌ ، إِنَّ عِبَادِي ليْسَ لكَ عَليْهِمْ سُلطَانٌ إِلا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الغَاوِينَ ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ، لهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لكُل بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) .
وقد بين الله أن سلطان الشيطان عن أولياء الله مرفوع ، وأن كيده مدفوع ، فلما نزل الخبيث إبليس وضع لنفسه عرشا على الماء ، يشبه نفسه باستواء الله على عرشه في السماء ، وجعل نفسه إلها لأتباعه من العصاة ، وحبب إلي نفسه من جنسه أسوأ الدعاة ، وجلس على عرشه ليبعث في الأرض سراياه ، كما روي مسلم بسنده عَنْ جَابِر ٍبن عبد الله t أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ : ( يَبْعَثُ الشَّيْطَانُ سَرَايَاهُ فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً ) ، وفي رواية أخرى قال صلي الله عليه وسلم : ( إِنَّ عَرْشَ إِبْليسَ على البَحْرِ فَيَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً ) وفي رواية ثالثة قال صلي الله عليه وسلم : ( إِنَّ إِبْليسَ يَضَعُ عَرْشَهُ على المَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ فَعَلتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا قَال ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ حتى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ قَال فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ نِعْمَ أَنْتَ ) .
وانظر أيها المستمع البصير ، وأمعن النظر ورتب التفكير ، في عدل الله وحكمة التدبير ، كيف أوجد الله في كل إنسان منا نازعين نفسيين متقابلين ومتضادين ، ليس لأحدهما غلبة على الآخر ، نازع يدعوه إلي الطاعة وفعل الخير وهو نازع التقوى والرغبة في الآخرة بالطاعة والإيمان ، وآخر يدعوه إلي المعصية وفعل الشر وهو نازع الهوى والرغبة في الدنيا بالمخالفة والعصيان ، والإنسان حر بينهما في الاختيار ، كما قال رب العزة والجلال :
( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ، قَدْ أَفْلحَ مَنْ زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) ومن هنا كان الأصل الأول من أبواب الضلال وأصول الطواغيت التي تعبد من دون الله ، وهي عبودية الهوى وما يتعلق به من أصناف الدنيا وأنواع المشتهيات ، فلما أذن الله للشيطان أيضا أن يوسوس للإنسان ، واتفق الشيطان مع نازع الشر في الإنسان ، كلاهما يدعوان إلي الكفر والعصيان ، كان الأصل الثاني من أبواب الضلال وأصول الطواغيت في الإنسان التي تعبد من دون الله عبادة الشيطان ، كما ظهرت في الإنسان حكمة الله ، وبلغ كمال العدل في الأشياء منتهاه ، فجعل الله تركيب الإنسان على مستوي الكمال ، ظاهرا وباطنا على قمة الاعتدال ، فقال رب العزة والجلال : ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ ، الذِي خَلقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلكَ ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ) فكلف الله بكل إنسان ملكا قرينا ، وأمره أن يلازمه ملازمة الشيطان للإنسان ، لا يفارقه إلا إذا فارق الدنيا دار الامتحان ، وأمره أيضا أن يدعوه إلي الخير ويحضه عليه ، كما أن الشيطان يدعوه إلي الشر ويحضه عليه ، فيستوي بذلك مقدار الدواعي في الإنسان ، وتعتدل الكفتان في الميزان ، ولا يكون لأحد من أهل الخسران حجة على الله يوم القيامة .
فالله كما هداه النجدين ، وركب فيه نازعين نفسيين متقابلين ومتضادين ، ليس لأحدهما غلبة على الآخر ، وكل بالإنسان أيضا قرينين هاتفين مرغبين بلمتين ، ليس لأحدهما سلطان على إرادة الإنسان ، فبات مقدرا لكل منا بحكمة الله وعدل الميزان ، قرينان داعيان ، هاتفان مرغبان ، إما في الخير وإما في الشر ، ولم يستثن الله أحدا من ذلك حتى نبينا صلي الله عليه وسلم ففي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رَسُولُ الله قال : ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا وَقَدْ وُكِّل بهِ قَرِينُهُ مِنَالجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنَ المَلائِكَةِ ، قَالُوا : وَإِيَّاكَ يَا رَسُول الله ، قَال : وَإِيَّايَ وَلكِنَّ الله أَعَانَنِي عَليْهِ فَلا يَأْمُرُنِي إِلا بِحَقٍّ ) .
والله عز وجل أمرنا بأن نكفر بما يعبد من دون الله كشرك من شروط لا إِلهَ إِلا الله روي الإمام مسلم رحمه الله من حديث أبي مَالكٍ الأَشْجَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ أنه قَال : سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ : مَنْ قَال لا إِلهَ إِلا اللهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ على اللهِ .
فأمرنا بألا يتبع الإنسان هواه وتخذ الهوى إله يعبد من دون الله ، وأمرنا بألا نتبع الشيطان فإنه يدعو إلي الفسوق والعصيان ، وأعظم دعواه أن يشرك الإنسان بالله ، ولذلك حذرنا الله من الشرك كأعظم ذنب يقع فيه العبد ، وأخذ العهد علينا والميثاق ألا نقع في هذا الظلم العظيم ، فقال تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلي شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلكُنَا بِمَا فَعَل المُبْطِلُونَ وَكَذَلكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلعَلهُمْ يَرْجِعُونَ )
فالله عز وجل يخبرنا أنه أخذ العهد والميثاق الغليظ على الإنسان قبل بداية حياته ليقرره أنه مستخلف فقط ، أمين في ملك الله للابتلاء والامتحان ، ليعرفوا جميعا حق الله على العباد ، وحق العباد على الله ، فحق الله عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وحقهم عليه ألا يعذبهم إذا فعلوا ذلك ، أشهدهم على أنفسهم وسألهم جميعا ألست بربكم ؟ قالوا بلي ، إظهارا منه لما انفرد به من معاني الربوبية ، وأنه منفرد بالخلق والأمر لا إله إلا هو ولا رب سواه ، وهو وحده مالك الملك لأنه وحده خالق الكل ، منفرد بإنشاء العالم وتركيبه على هذه الهيئة البديعة ، فالله لن يقبل منهم أن يتخذوا شريكا له في خلقه أو منازعا له على ملكه ، ولن يقبل المساس بتوحيده أبدا ، فقال :
( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلكَ لمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ افْتَرَي إِثْمًا عَظِيمًا ) فلكون الشرك ظلما عظيما ، أخذ الله العهد والميثاق على الإنسان قبل نزوله إلي الأرض ، فإن وسوس الشيطان للإنسان بأن الله له شريك في السماوات والأرض أو له معين في شيء من الخلق فقد وقع في الظلم العظيم وتجاوز حدوده ، ولن يفلح وقتها احتجاج بالنسيان أو إغواء الشيطان ، أو اتباع للآباء في سالف الزمان لأن الله بين لنا في القرآن أنه لن يعذبهم إلا إذا أرسل الرسل مذكرين بالعهد مرارا وتكرارا فقال : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولا ) .
فوجب على الإنسان أن يراعي في قوله وعمله الخوف من الله وحده لا من سواه ، لأن صاحب الأمانة وولي النعمة هو الله ، وما سواه لا يملك شيئا بل هو مجرد أمين في الحياة ، فقال تعالى : ( قُل ادْعُوا الذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلكُونَ مِثْقَال ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا في الأرْضِ وَما لهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لهُ مِنهُمْ مِنْ ظَهِير ) ، فالله أعلمهم جميعا بأنه منفرد بالملك والربوبية له العلو في الشأن والقهر والفوقيه ، لا يقبل شريكا معه في العبوديه ولا يقبل أن يتشبه به أحد في وصف الربوبيه ، فلما أشهدهم الله على أنفسهم بالتوحيد ونبذ الشرك ، أقروا أمام خالقهم بأن المنفرد بالملك هو الله ، وأنه خالقهم ومدبر أمرهم لا حول ولا قوة لهم إلا بربهم ، وأنهم لا ينسبون شيئا من ملكه لهم أو لغيرهم ، إلا على سبيل استخلافهم فيه وابتلائهم ، فالأمر لله في كونه على سبيل الربوبية وتصريف خلقه ، والأمر لله في شرعه على سبيل العبودية وتطبيق حكمه ، الفضل له والملك له ، والحمد له ، والشكر له ، وهم على هذا العهد قائمون ، يوحدون ولا يشركون ويشكرون ولا يكفرون ، صابرون مؤمنون ، إلي أن يعيدهم يوم القيامة إليه ، ويكرمهم بالجنة لديه وهذا حقهم عليه إذا لم يشركوا به شيئا ، وعدا عليه بعدله ، وتفضلا منه بكرمه كما ذكر ذلك في سائر كتبه فقال :
( وَعْدًا عَليْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيل وَالقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفي بِعَهْدِهِ مِنْ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيم ) فبين بعدها أن هذا الوعد سيناله من اتصف من المستخلفين في ملكه بمثل هذه الصفات : ( التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرْ المُؤْمِنِينَ )
فهذا آخر شرط من شروط لا إله إلا الله وهو الكفر بما يعبد من دون الله ، نسأله الله أن نكون من الموحدين المخلصين الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
نقلاً عن موقع الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني
    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة