عرض مشاركة واحدة
New Page 2
 
 

قديم 12-05-2015, 03:03 PM   #10
معلومات العضو
كلمات نافعة
مشرفة الساحات العامة

افتراضي

رابعاً: الأخلاق في أقوال السلف ومواقفهم:

يتسع المجال كثيراً لمواقف السلف الصالح وأقوالهم في الأخلاق مدحاً لممدوحها والتزاماً به، وذمّاً لمذمومها وابتعاداً عنه. ولا يمكن في مثل هذا الموضع استيعاب الحديث عن ذلك، ولكن حسبنا شذراتٌ موقِظاتٌ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ومن ذلك ما يلي:

أ - من أقوالهم في الأخلاق:
- ما جاء عن أم الدرداء رضي الله عنها قالت: إن نُؤَبَّنْ أي نُتّهم بما ليس فينا فطالما زُكِّينا بما ليس فينا1. قالته لمّا قيل لها: إنّ رجلاً نال منك عند عبد الملك بن مروان!.
- وقال يحيى بن أبي كثير: الذي يعمله النمام في ساعة لا يعمله الساحر في شهر2.
- وقال الزبير بن عبد الواحد: سمعتُ بُناناً يقول: الحُرُّ عبْدٌ ما طَمِع، والعبد حُرٌّ ما قَنِعَ! 3.
- وقال الإمام ابن حبان: ... فمِن الناس من يكون أكرم من أبيه، وربما كان الأب أكرم من ابنه، وربما كان المملوك أكرم من مولاه، ورُبّ مولىً أكرم من مملوكه4.
- وقال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى متحدثاً عن معنى من معاني الرحلة:
ومن تعذّرتْ عليه الرحلة منكم ببدنه، فليرحل إلى الله تعالى بقلبه، ولا يَظن أحد أن الرحلة تفيد بصورتها؛ كم راحل قرأ وما قرأ، وروى وما درى، ولم يتحصل له كيف ولا أين؟ فعاد على ظهره بحُنَيْن، دعْ خفيه الاثنين.
فارحل من عالم الشهوات إلى عالم القربات، وسافرْ من المحسوسات إلى المعقولات، وانظر في الزاد فلا بدّ منه، والدليل وهو العلم، فلا غنى عنه، فمَنْ وَجَدَ مُعَلِّماً فهو النعيم؛ يهدي إلى السبيل، وينظم الدليل، ويحمي عن البدعة والتعطيل ... 5.
- وقال القاضي أبو بكر بن العربي أيضاً:
أما بعد: فإن الداخل في طلب العلم كثير، والسعيد قليل، وعدم الإنصاف خطبٌ جليل، وكم حاضر بعرفة من غير معرفة، ونازل بمِنى وما نال مُنى، وكم قارئ في بغداد خرج وما ظفر بزاد ... جميعهم يأمل الغاية وما حصل عليها، ويقصد النهاية وما انتهى إليها، فقد خَلَعَ ثيابَ الوطن، واستظهر على الغربة، واستوطن يجتهد بزعمه وهو لا يعلم كيف؟ ولا أين؟ يرجع بعد طول المغيب بخفّي حنين6.
وللإمام أبي محمد ابن حزم أقوالٌ فريدة في باب الأخلاق نقتطف منها ما يلي:
- لا تَبْذل نفسك إلا فيما هو أغلى منها. وليس ذلك إلا في ذات الله -عزّ وجلّ-:
- في دعاء إلى حقٍّ.
- وفي حماية الحريم.
- وفي دفْعِ هَوانٍ لم يوجبه عليك خالقك تعالى.
- وفي نصْرِ مظلومٍ.
وباذلُ نفسه في عَرَضِ دنيا، كبائعِ الياقوت بالحصى‍‍‍‍‍!
لا مروءة لمن لا دِين له!.
العاقل لا يَرى لنفسه ثمناً إلا الجنة!.7.
- ليس بين الفضائل والرذائل، ولا بين الطاعات والمعاصي إلا نِفار النفس وأُنسها فقط ...8!.
- إذا حَقَّقتَ مدّة الدنيا، لم تَجدْها إلا (الآن) الذي هو فَصْلُ الزمانين فقط!. وأما ما مضى، وما لم يأتِ، فمعدومان، كما لم يَكُن.
فمَن أضلُّ ممن يبيع باقياً، خالداً، بمدّةٍ هي أقلُّ مِن كَرِّ الطرْفِ؟! "9.
- "لم أَر لإبليس أَصْيدَ، ولا أقْبحَ، ولا أحْمقَ، مِن كلمتين ألقاهما على ألْسنة دعاته:
إحداهما: اعتذار مَن أساء بأنّ فلاناً أساء قَبْله!.
والثانية: استسهال الإنسان أن يُسئ اليوم لأنه قد أساء أمسِ، أو أنْ يسئ في وجْهٍ ما؛ لأنه قد أساء في غيره.
فقدْ صارت هاتان الكلمتان عُذراً مُسهِّلتين للشر، ومُدْخلتين له في حَدِّ ما يُعْرفُ ويُحْتَمَلُ 10 ولا يُنْكَرُ! "11
- إهمال ساعةٍ يُفْسِدُ رياضة سنَةٍ! 12.
- استبقاك مَن عاتبك، وزهِد فيك مَن استهان بسيئاتك!.
العتاب للصديق كالسبْكِ للسّبيكة؛ فإما تَصْفو، وإما تَطير! 13.
- لا تَنْقل إلى صديقك ما يؤلِمُ نفسه، ولا يَنتفع بمعرفته؛ فهذا فِعْلُ الأرذال!
ولا تَكْتمه ما يَستضِرُّ بجهله؛ فهذا فِعْل أهل الشر!.
ولا يَسُرَّك أن تُمْدَح بما ليس فيك، بل لِيَعْظُمْ غمُّك بذلك؛ لأنه نَقْصُك يُنَبِّه الناس عليه، ويُسْمِعهم إياه، وسُخْريةٌ مِنْك وهُزْؤٌ بك! ولا يَرضى بهذا إلا أحمقُ ضعيف العقل! 14.
- لاشيء أقبح مِن الكذب؛ وما ظنُّك بعيبٍ يكون الكفْرُ نوعاً مِن أنواعه؟! فكلُّ كفْرٍ كذبٌ؛ فالكذب جنسٌ، والكفرُ نوعٌ تحته! 15.
- "رأيتُ الناس في كلامهم -الذي هو فَصْلٌ بينهم وبين الحمير والكلاب والحشرات- ينقسمون أقساماً ثلاثة:
أحدها: مَن لا يُبالي فيما أَنْفَقَ كلامه؛ فيتكلم بكل ما سبق إلى لسانه، غير مُحَقِّقٍ نَصْرَ حَقٍّ، ولا إنكارَ باطل، وهذا هو الأغلب في الناس!.
والثاني: أن يَتكلم ناصراً لِما وَقَعَ في نفسه أنه حقٌ، ودافعاً لِما تَوَهَّم أنه باطلٌ، غير مُحَقِّقٍ لطلب الحقيقة، لكن لِجاجاً فيما التزمَ، وهذا كثيرٌ!، وهو دون الأول.
الثالث: واضِعُ الكلام في موضعه، وهذا أعزُّ مِن الكبريت الأحمر! "16.
- مَن امتُحِن بالعُجْبِ، فَلْيُفكّرْ في عيوبه!.
فإنْ أُعجِبَ بفضائله، فَلْيُفَتّشْ ما فيه مِن الأخلاق الدنيئة!.
فإنْ خَفِيَتْ عليه عيوبه جُمْلةً حتى يَظنّ أنه لا عيبَ فيه، فَلْيَعْلم أن مصيبته إلى الأبد، وأنه أَتَمُّ الناس نقصاً، وأعظمهم عيوباً، وأضعفُهم تمييزاً!.
وأوّلُ ذلك أنه ضعيف العقل، جاهلٌ. ولا عيب أشدّ من هذين؛ لأنّ العاقلَ هو مَن ميّزَ عيوب نفسه؛ فغالَبها وسعى في قمْعها.
والأحمق هو الذي يَجهل عيوب نفسه: إما لقلة علمه وتمييزه، وضعْفِ فكْرته. وإما لأنه يُقدِّرُ أن عيوبه خصالٌ17 وهذا أشدُّ عيبٍ في الأرض؛ وفي الناس كثير يَفْخرون بالزنا واللياطة والسرقة والظلم؛ فيُعْجَبُ بتأتّي هذه النحوس له، وبقوّته على هذه المخازي!! "18.
- ... وبالجُمْلة، فكلَّما نَقَصَ العقلُ تَوَهّمَ صاحبه أنه أَوْفرُ الناس عقلاً ... ! "19.
- مَن أراد الإنصاف؛ فَلْيَتوَهّمْ نفسه مكان خصْمِه، فإنه يَلُوح له وَجْهُ تَعَسُّفِهِ! 20.
- الغالب على الناس النفاق. ومِن العَجَبِ أنه لا يَجُوزُ21 -مع ذلك- عندهم إلا مَن نافقهم! 22.
- كَثْرةُ الرِّيَبِ تُعَلِّمُ صاحبها الكذب؛ لكثرة ضرورته إلى الاعتذار بالكذب؛ فَيَضْرى 23 عليه ويستسهله! 24.

ب- مِن مواقفهم تجاه الأخلاق:

تتعدد مواقف الأسلاف تجاه الأخلاق، وفيها لطائف ودروس وعِبَرٌ، ومن مواقفهم ما يلي:
- قال عليّ بن المدينيّ: سمعتُ سفيان يقول: كان ابن عياش المَنْتُوف يقع في عمر بن ذرّ ويشتمه، فلقيه عمر، فقال: يا هذا لا تُفْرِط في شتمنا، وأَبقِ للصلح موضعاً، فإنا لا نكافئ مَن عصى الله فينا بأكثرَ من أن نطيع الله فيه25!.
- وسأل رجلٌ سفيان الثوري عن فضْل الصلاة في الصف الأول، فقال له: كِسْرتُكَ هذه التي تأكلها انظرْ مِن أين هي، وصَلِّ في الصف الأخير26! يعني: انظرْ أحلالٌ أم حرام هي؟.
- وأكل سفيان الثوريّ ليلةً حتى شبعَ؛ فقال: إنّ الحِمار إذا زِيدَ في عَلَفِهِ زِيدَ في عمله! وقام ليلته تلك يُصلي حتى أصبَحَ! 27.
- ومن كلام المنتصر إذْ عفا عن أبي العَمَرَّد الشاريّ: لذة العفو أعذبُ من لذةِ التَّشَفِّي، وأَقبحُ فعال المُقتدر الانتقام28!!.
- وعن عبد الجليل بن الحسن، قال: كان أحمدُ بن المعذَّل في مجلس أبي عاصم، فمزَح أبو عاصم يُخَجِّل أحمد، فقال: يا أبا عاصم، إن الله خلقك جِدّاً؛ فلا تهزِلَن، فإن المستهزئ جاهلٌ. قال تعالى:
{قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلينَ** 29، فخجل أبو عاصم. ثم كان يُقعِدُ أحمدَ بن المعذَّل إلى جنبه"30!.
- "كان بَينَ حسن بن حسن وبين ابن عمِّه علي بن الحسين شيءٌ، فما تَرك حسنٌ شيئاً إلا قاله، وعليٌّ ساكتٌ، فذهب حسنٌ، فلما كان في الليل، أتاهُ عليٌّ، فخرج، فقال عليٌّ: يا ابن عمِّي إن كنتَ صادقاً فغفرَ
ابحث في الكتاب: اضغط للبحث عن الكلمة داخل الكتاب تحميل الكتاب الأولى السابقة التالية الأخيرة
الله لي. وإن كنتَ كاذباً، فغفرَ الله لك. السلام عليك. قال: فالتزمَه حسنٌ، وبكى حتى رثى له"31.
- "قال أبو المليح: جاء رجلٌ إلى ميمون بن مِهران يخطب بنتَه، فقال: لا أرضاها لك. قال: ولِمَ؟ قال: لأنها تُحبُّ الحُليَّ والحُلَل. قال: فعندي من هذا ما تُريد. قال: الآن لا أرضاك لها"32!.
ومواقفهم تجاه الأخلاق في مدح ممدوحها وذمّ مذمومها، قولاً وعملاً، مواقف حميدة عديدة لا يتسع المقام للاسترسال فيها.




1 روضة العقلاء، لابن حبان: 178.
2 روضة العقلاء، لابن حبان: 179.
3 سير أعلام النبلاء، للذهبيّ تهذيبه: ص1056.
4 روضة العقلاء، لابن حبان: 175.
5 قانون التأويل، لابن العربي المالكيّ: 645-646.
6 قانون التأويل، لابن العربي المالكيّ: 645-646. الحاشية، نقلاً عن شواهد الجلة لابن العربيّ.
7 الأخلاق والسير..، 16.
8 "الأخلاق والسّيَر..": 18.
9 "الأخلاق والسّيَر..": 20.
10 في المطبوع: ويحمل. ولعلّ الصواب ما أثْبتُّ.
11 "الأخلاق والسّيَر..": 31.
12 "الأخلاق والسّيَر..": 33.
13 "الأخلاق والسّيَر..": 40.
14 "الأخلاق والسّيَر..": 47.
15 "الأخلاق والسّيَر..": 61.
16 "الأخلاق والسير ... " 61.
17 خصالٌ أي مزايا حميدة، يُفْخَرُ بها!.
18 "الأخلاق والسير ... " 66.
19 "الأخلاق والسير ... " 77.
20 "الأخلاق والسير ... " 82.
21 أي لا يَرُوجُ عندهم.
22 "الأخلاق والسير ... " 81.
23 أي يتعود عليه.
24 "الأخلاق والسير ... " 82.
25 سير أعلام النبلاء، للذهبيّ تهذيبه: ص549.
26قرأتُ هذا عنه منذ زمنٍ، ولكن، لم أَستطع الآن الوقوف على مصْدره الناقل له. ولا يُفْهَم مِنه التزهيد في الصفِّ الأوّل، بل النظر أَوّلاً في المكسب والمطعم.
27 يُنظر: تَقْدمة "الجرح والتعديل"، لابن أبي حاتم، 85 - 86، و96.
28 سير أعلام النبلاء، للذهبيّ تهذيبه: ص867.
29 67: البقرة: 2.
30 سير أعلام النبلاء، للذهبيّ، تهذيبه: ص852.
31 سير أعلام النبلاء، للذهبي، تهذيبه: 407-408.
32 سير أعلام النبلاء، للذهبي، تهذيبه: 470.
 

 

 

 


 

توقيع كلمات نافعة
 استعن بالله ولا تعجز
    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة