عائض القرني
محمد بن عبد الله .. هذا الاسم الأعلم، إذا ذكر ذكرَتْ معه الفضيلة في أجمل صورها، وذكر معه الطهر في أرقى مشاهده، وذكر معه العدل في أسمى معانيه.
محمد بن عبد الله.. اسم كتب بحروف من نور في قلوب الموحدين، فلو شققت كل قلب لرأيته محفوراً في النياط مكتوباً في السويداء، مرسوماً في العروق.
محمد صاحب الغرة والتبجيل، المذكور في التوراة و الإنجيل ، المؤيد بـجبريل .. حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي.
بشرت به الرسل، وأخبرت به الكتب، وحفلت باسمه التواريخ، وتشرفت به النوادي، وتضوعت بذكره المجامع، وصدحت بذكراه المنائر، ولجلجت بحديثه المنابر.
عصم من الضلالة والغواية ((مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى))، وحفظ من الهوى ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)).
فكلامه شريعة، ولفظه دين، وسنته وحيّ ((إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)).
سجاياه طاهرة، وطبيعته فاضلة، وخلاله جميلة، وخصاله نبيلة، ومواقفه جليلة ((إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ)).
تواضعه جمّ، وجوده عمّ، ونوره تمّ، فهو مرضي الفعال، صادق الأقوال، شريف الخصال ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)).
لين الجانب، سهل الخليقة، يسير الطبع ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)).
ظاهر العناية، ملحوظ بعين الرعاية، منصور الراية، موفق محظوظ، مظفر مفتوح عليه ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)).
أصلح الله له قلبه، وأنار له دربه، وغفر له ذنبه ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)).
فهو المصلح الذي عمر الله به القلوب، وأسعد به الشعوب، وأعتق به الرقاب من عبودية الطاغوت، وحرّر به الإنسان من رقّ الوثنية ((وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)).
وهو الذي أعفى البشرية من التكاليف الشاقة، وأراحها من المصاعب، وأبعدها من المعاطب، وسهل لها بإذن الله أمر الحياة، وبصَّرها بسنن الفطرة ((وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)).
فهو رحمة للإنسان، إذ علّمه الرحمن، وسكب في قلبه نور الإيمان، ودله على طريق الجنان..
وهو رحمة للشيخ الكبير، إذ سهّل له العبادة، وأرشده لحسن الخاتمة، وأيقظه لتدارك العمر واغتنام بقية الأيام..
وهو رحمة للشاب إذ هداه إلى أجمل أعمال الفتوة وأكمل خصال الصبا، فوجه طاقته لأنبل السجايا وأجل الأخلاق..
وهو رحمة للطفل، إذ سقاه مع لبن أمه دين الفطرة، وأسمعه ساعة المولد أذان التوحيد، وألبسه في عهد الطفولة حلة الإيمان..
وهو رحمة للمرأة، إذ أنصفها في عالم الظلم، وحفظ حقّها في دنيا الجور، وصان جانبها في مهرجان الحياة، وحفظ لها عفافها وشرفها ومستقبلها، فعاش أباً للمرأة وزوجاً وأخاً ومربّياً..
وهو صلى الله عليه وسلم رحمة للولاة والحكام، إذ وضع لهم ميزان العدالة، وحذرهم من متالف الجور والتعسف، وحد لهم حدود التبجيل والاحترام والطاعة في طاعة الله ورسوله..
وهو رحمة للرعية، إذ وقف مدافعاً عن حقوقها محرماً الحيف ناهيا عن السلب والنهب والسفك والابتزاز والاضطهاد والاستبداد.
إذاً: فهو رحمة للجميع ونعمة على الكل: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)).
كان إذا تبسم سبى القلوب وأسر الأرواح بإشراق وجهه وحسن قسماته وجمال محياه وبشاشة طلعته.
وكان إذا تكلم عبر كلامُه حدود النفس وتجاوز أقطار الروح، فغاص حديثه في أعماق الأفئدة، ونقش لفظه في صفحة الذاكرة، وخط على سويداء القلوب.
وكان إذا ضحك ملأ المكان أُنساً، وأتحف الحضور بشراً، عبّأ جلاسه سعادة وحفاوة.
وكان إذا بكى خشع لبكائه الناس، وذرفت كل عين مخزونها، وأخرجت كل نفس مكنونها، فكأن نذر القيامة على الأبواب، وكأن رسل الموت وقوف على الرءوس، فلا ترى إلا دموعاً وخشوعاً وخضوعاً وإطراقاً
وكان إذا خطب هزّ المنابر، وأيقظ الضمائر، وحرك السرائر، وألهب السامعين، وأذهل المخاطبين، فلو أن للصخر عينا لبكت، ولو أن للجدار نفساً لخشعت، ولو أن للأيام أذنا لأنصتت.
وكان إذا جاد بلغ المدى في السخاء، وفعل ما لم تفعله الأنواء، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ويهب هبة من أرخص الدنيا وزهد في الحطام وعاف البقاء ورجا من الله الخلف.. يداه غمامة أينما هلّت، وكفّه مدرار أينما وقع نفع، جاد بمهجته فعرَّضها للمنايا في سبيل الله، وقدمها لشفرات السيوف لرفع لا إله إلا الله، فما شجاعته إلا آية لجوده، وما إقدامه إلا برهان على سخائه: