عرض مشاركة واحدة
New Page 2
 
 

قديم 19-07-2005, 03:56 PM   #6
معلومات العضو
( الباحث )
(مراقب عام أقسام الرقية الشرعية)
 
الصورة الرمزية ( الباحث )
 

 

افتراضي

ظلم الحيرات، ويَمتثل مطاع أمره في ** فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ** ولا يتعدى حدود نصحه في الإعراض عن الجاهلين والمجانبة للخائضين في آيات رب العالمين)) اهـ
ومن المهم أن يراعى ألا يكون المناظر هو سبب تبغيض الحق إلى الطرف المقابل بالبغي عليه بالقول أو الفعل، أو بسوء خلقه، أو بضعف حجته. فليست دعوى المدعي أنه من أهل الحق بعذر له في عدم إظهار البراهين .
قال الإمام ابن القيم : (( ما كل من وجد شيئاً وعلمه وتيقنه أَحْسَنَ أن يستدلَّ عليه ويقرره ويدفع الشبه القادحة فيه فهذا لون ووجوده لون)) . وقد قال بشر المريسي للإمام الشافعي رحمه الله : (( إذا رأيتني أناظر إنساناً وقد علا صوتي عليه فاعلم أني ظالم، وإنما أرفع صوتي عليه لذلك)) .
وعلى كل حال فالأكمل للمناظر أن يكون قاصداً لإيصال الحق إلى الطرف الآخر الذي يناظره متلطفاً في ذلك فإن أهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق، ومن وسائل المناظرة والمجادلة ما يتلطف به إلى إيصال الحق إلى الخصم شيئاً فشيئاً حتى يتشربه، وقد يفتح الله على قلبه فيتبعه ، فيكون لهذا المناظر أجر هداية المبتدع ، ولو لم يعلم الناس أو المبتدع نفسه بذلك ، ولكن قد علم ذلك وأثبته في صحائفه اللطيف الخبير تعالى .

وبعد هذا التَطواف مع هذه البواعث الخمسة، ومناقشتها أحب أن أختم هذا البحث بذكر بعض كلام أهل العلم في تقرير ما سبق تقريره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ((والمقصود هنا أن السلف كانوا أكمل الناس في معرفة الحق وأدلته، والجواب عما يعارضه، وإن كانوا في ذلك درجات. وليس كل منهم يقوم بجميع ذلك، بل هذا يقوم بالبعض، وهذا يقوم بالبعض كما في نقل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من أمور الدين.
والكلام الذي ذمُّوه نوعان :
أحدهما : أن يكون في نفسه باطلاً وكذباً، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل وكذب؛ فإن أصدق الكلام كلام الله.
والثاني : أن يكون فيه مفسدة. مثلما يوجد في كلام كثير منهم من النهي عن مجالسة أهل البدع ومناظرتهم ومخاطبتهم والأمر بهجرانهم؛ وهذا لأن ذلك قد يكون أنفع للمسلمين من مخاطبتهم؛ فإن الحق إذا كان ظاهراً قد عرفه المسلمون، وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته فإنه يجب منعه من ذلك، فإذا هُجر وعُزَّر كما فعل أمير المؤمنين عمر بصَبيغ بن عِسل التميمي، وكما كان المسلمون يفعلونه، أو قُتِل كما قَتَل المسلمون الجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهما كان ذلك هو المصلحة بخلاف ما إذا تُرك داعياً وهو لا يقبل الحق إما لهواه، وإما لفساد إدراكه فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى المسلمين.
والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان ونحوه، وناظروه وبيَّنوا له الحق كما فعل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه واستتابه ثم نكث التوبة بعد ذلك فقتلوه. وكذلك علي – رضي الله عنه – بعث ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم، ثم رجع نصفهم ثم قاتل الباقين.
والمقصود أن الحق إذا ظهر وعُرف ، وكان مقصود الداعي إلى البدعة إضرار الناس قوبل بالعقوبة .
وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة، فيُخاف عليه أن يُفسده ذلك المضل، كما يُنهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار؛ فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة.
وقد يُنهى عنها إذا كان المناظر معانداً يظهر له الحق فلا يقبله...
والمقصود أنهم نهوا عن المناظرة من لا يقوم بواجبها ، أو مع من لا يكون في مناظرته مصلحة راجحة، أو فيها مفسدة راجحة، فهذه أمور عارضة تختلف باختلاف الأحوال.
وأما جنس المناظرة بالحق، فقد تكون واجبة تارة، ومستحبة أخرى.
وفي الجملة: جنس المناظرة والمجادلة فيها محمود ومذموم، ومفسدة ومصلحة، وحق وباطل))
ثم قال بعد صفحات: (( وأما جنس النظر والمناظرة فهذا لم ينه عنه السلف مطلقاً، بل هذا إنْ كان حقاً يكون مأموراً به تارة، ومنهياً عنه أخرى كغيره من أنواع الكلام الصدق. فقد يُنهى عن الكلام الذي لا يفهمه المستمع أو الذي يضر المستمع، وعن المناظرات التي تورث شبهات وأهواء فلا تفيد علما ولا ديناً ... فإذا كانت المناظرة تتضمن أن كل واحد من المتناظرين يكذب ببعض الحق نُهي عنها لذلك. وأكثر الاختلاف بين ذوي الأهواء من هذا الباب))
وروى الحافظ البيهقي عن الشافعي أنه قال : (( ما كلمت رجلاً في بدعة قط إلا كان يتشيع)) قال البيهقي : (( وهذا يدل على كثرة مناظرته أهل البدع حتى عرف عادتهم في إظهار مذهب الشيعة، وإضمار ما وراءه من البدعة التي هي أقبح منه ...
و قد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان : نعمت البدعة هذه. يعني : أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى.
قلت-البيهقي-: فكذا مناظرة أهل البدع – إذا أظهروها، وذكروا شبههم منها - وجوابهم عنها وبيان بطلانهم فيها وإن كانت من المحدثات فهي محمودة ليس فيها رد ما مضى. وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن القدر فأجاب عنه، وسئل عنه بعض الصحابة فأجابوا عنه بما روينا عنهم، غير أنهم إذ ذاك كانوا يكتفون بقول النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعده بالخبر عنه؛ وأهل البدع في زماننا لا يكتفون بالخبر ولا يقبلونه، فلا بد من رد شبههم إذا أظهروها بما هو حجة عندهم وبالله التوفيق)) اهـ
وقد نص على ما أفضنا فيه من أن موقف السلف من أهل البدع موقِفٌ مبني على قصد جلب المصالح الشرعية ، ودرء المفاسد وليس الهجر هو المنهج الثابت لهم في جميع الأحوال = جمعٌ من العلماء المعاصرين مثل الشيخ عبد العزيز ابن باز يرحمه الله ، والشيخ محمد بن صالح العثيمين يرحمه الله ،والشيخ بكر أبو زيد حفظه الله ، والشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله ...وغيرهم.
وأثبته جماعة من طلبة العلم والباحثين في دراساتهم ودرسوه بتوسع.
و في ختام هذه الورقات يمكن استخلاص ما يلي :
1-أن الموقف الأصلي الغالب العام للسلف من المبتدعة هو هجرهم وترك مجالستهم ومناظرتهم لأن الأمور الباعثة لهم على الهجر من المصالح الدائمة الغالب وجودها مثل الخوف من انتشار البدعة أو التأثر بها ، أما إن تخلفت هذه المصالح أو كانت المصلحة في غير ذلك الهجر –كما تقدم تفصيله - فإن الحكم هنا دائر مع منفعته ولهذا كان الإمام أحمد وغيره يفرقون (( بين الأماكن التي كثرت فيها البدع كما كثر القدر في البصرة ، والتنجيم بخراسان ، والتشيع بالكوفة وبين ما ليس كذلك ، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم .وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه )) .
2-أن مناظرة أهل البدع تختلف عن المجالسة من جهة أنها نوع من الجهاد ولتضمنها لمصالح أخرى ؛ ولذلك فقد نُقِل عن السلف عشرات المواقف التي ناظروا فيها المبتدعة ، ولا يعرف عنهم الشيء نفسه فيما يتعلق بالمجالسة والمخالطة .
3-البواعث التي دفعت السلف لهذا الموقف من المبتدعة قد اختلف تحقق عدد منها في زماننا هذا ، فينبغي على ذلك أن يتغيّر الموقف وفق المصالح الشرعية.
4-حرص الإنسان على سلامة دينه أحد أهم بواعث السلف على ترك مناظرة المبتدعة ، وهذا الباعث لن يزال قائما ، وعليه فلا يتوسع في طلب المناظرة من المبتدع إلا أن يكون هو الذي يطلبها ، أو تعظم المصلحة في إقامتها وتقل المفسدة . وإن توجهت المناظرة فلا يجوز أن يتقدم لها إلا الأكفاء من العلماء الذين لهم اطلاع ودراية بهذه البدعة وحِيَل أهلها ، أو طلبة العلم المؤهلين لذلك .
5-المناظرات -العلنية منها والسرية- منهج معروف وجادة مسلوكة عند العلماء ، والحكم فيها يقدِّره أهل العلم والحِجى ومداره على قاعدة جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها .
6-يبعث على المناظرة أمور :
أ- دعوة المبتدعة والرغبة في إيصال الحق إليهم .
ب- الرغبة في مزاحمة المبتدعة في الوصول إلى الناس البرءآء منها ، وإعطاء الناس الأمصال الواقية من تلك البدع .
ج- إظهار ضعف حجة المبتدع ، والطمع في التأثير على أبناء ملته ، وأتباعه على بدعته، إذ رجوعهم للحق أيسر من رجوعه إليه .
د-الذب عن حياض الدين ، وكشف ما يلبِّسه الجهلة وأهل الأهواء على العامة ، وهو من الجهاد في سبيل الله .
هـ-جمع الناس على كلمة سواء ، وذلك أن المسلمين مأمورون بالاعتصام بحبل الله ، و لا يمكن اجتماعهم على غيره أصلا ، ففي نفي زغل البدعة وأهلها تقدُّمٌ نحو تحقيق هذا المقصد الشرعي العظيم . والله أعلم .

وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة