عرض مشاركة واحدة
New Page 2
 
 

قديم 28-03-2010, 05:53 PM   #5
معلومات العضو
عطر
إشراقة إدارة متجددة
 
الصورة الرمزية عطر
 

 

افتراضي

فصل‏:‏ في هديه صلى الله عليه وسلم في كلامه وسكوته وضحكه وبكائه
كان صلى الله عليه وسلم أفصحَ خلق اللّه، وأعذبَهم كلاماً، وأسرعَهم أداءً، وأحلاهم مَنْطِقاً، حتى إن كلامه لَيَأْخُذُ بمجامع القلوب، ويَسبي الأرواح، ويشهدُ له بذلك أعداؤه‏.‏ وكان إذا تكلم تكلَّم بكلام مُفصَّلِ مُبَيَّنٍ يعدُّه العادُّ، ليس بِهَذٍّ مُسرِعِ لا يُحفظ، ولا منقَطع تخلَّلُه السكتات بين أفراد الكلام، بل هديُه فيه أكملُ الهدي، قالت عائشة‏:‏ ما كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يَسْرُدُ سردَكم هذا، ولكن كان يتكلَّم بكلام بيِّنٍ فَصْلٍ يحفظه من جلس إليه‏.‏ وكان كثيراً ما يُعيد الكلام ثلاثاً لِيُعقلَ عنه، وكان إذا سلَّم سلَّم ثلاثاً‏.‏ وكان طويلَ السكوت لا يتكلم شي غيرِ حاجة، يفتتحُ الكلام ويختتمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلام، فَصلٍ لا فضول ولا تقصير، وكان لا يتكلم فيما لا يَعنيه، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وإذا كرِه الشيء‏:‏ عُرِفَ في وجهه، ولم يكن فاحشاً، ولا متفحِّشاً، ولا صخَّاباً‏.‏ وكان جُلُّ ضحكه التبسم، بل كلُّه التبسم، فكان نهايةُ ضحكِه أن تبدوَ نواجِذُه‏.‏
وكان يضحكُ مما يُضحك منه، وهو مما يُتعجب من مثله ويُستغرب وقوعُه ويُستندر‏.‏
وللضحك أسباب عديدة، هذا أحدها والثاني‏:‏ ضحِك الفرح، وهو أن يرى ما يسرُّه أو يُباشره والثالث‏:‏ ضحِكُ الغضب، وهو كثيراً ما يعتري الغضبان إذا اشتد غضبه، وسببه تعجب الغضبان مما أورد عليه الغضبُ، وشعورُ نفسه بالقدرة على خصمه، وأنه في قبضته، وقد يكون ضحكُه لِمُلكه نفسه عند الغضب، وإعراضِه عمن أغضبه، وعدم اكتراثه به‏.‏
وأمَّا بكاؤه صلى الله عليه وسلم، فكان مِن جنس ضحكه، لم يكن بشهيقٍ ورفع صوت كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن كانت تدمَعُ عيناه حتى تَهْمُلا، ويُسمع لِصدره أزيزٌ‏.‏ وكان بكاؤه تارة رحمة للميت، وتارة خوفاً على أمته وشفقة عليها، وتارة مِن خشية اللّه، وتارة عند سماع القرآن، وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال، مصاحبٌ للخوف والخشية‏.‏ ولما مات ابنُه إبراهيم، دمعت عيناه وبكى رحمة له، وقال‏:‏ ‏(‏تَدْمَعُ العَيْنُ، وَيَحْزَنُ القَلْبُ، ولا نَقُولُ إلا مَا يُرْضِي رَبَّنا، وَإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ‏)‏‏.‏ وبكى لما شاهد إحدى بناتِه وَنَفْسُها تَفِيضُ، وبكى لما قرأ عليه ابنُ مسعود سورة ‏(‏النساء‏)‏ وانتهى فيها إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىَ هَؤُلاءِ شَهِيداً‏**‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏ وبكى لما مات عثمان بن مظعون، وبكى لما كَسَفت الشَّمْسُ، وصلى صلاة الكُسوف، وجعل يبكي في صلاته، وجعل ينفخ، ويقول‏:‏ ‏(‏رَبِّ أَلَمْ تَعِدْني أَلاَّ تُعَذِّبَهُم وَأَنَا فِيهِمْ وهُمْ يَسْتغْفِرُونَ، وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُك‏)‏ وبكى لما جلس على قبر إحدى بناته وكَانَ يَبكي أحياناً في صلاة اللَّيلِ‏.‏
والبكاء أنواع‏.‏ أحدها‏:‏ بكاء الرحمة، والرقة‏.‏ والثاني‏:‏ بكاء الخوف والخشية والثالث‏:‏ بكاءُ المحبة والشوق والرابع‏:‏ بكاءُ الفرح والسرور والخامس‏:‏ بكاء الجَزَع مِن ورود المؤلِم وعدم احتماله‏.‏ والسادس‏:‏ بكاءُ الحزن‏.‏
والفرق بينه وبين بكاء الخوف، أن بكاء الحزن يكون على ما مضى من حصول مكروه، أو فوات محبوب، وبكاء الخوف يكون لِمَا يتوقع في المستقبل مِن ذلك، والفرق بين بكاء السرور والفرح، وبكاء الحزن، أن دمعة السرور باردة، والقلب فرحان، ودمعة الحُزن حارة، والقلب حزين، ولهذا يقال لما يُفرح به‏:‏ هو قُرَّةُ عَيْنٍ، وأقرَّ اللَّهُ به عينَه، ولما يُحزن‏:‏ هو سخينةُ العجن، وأسخن اللَّهُ عينَه بِه‏.‏
والسابع‏:‏ بكاء الخور والضعف‏.‏
والثامن‏:‏ بكاء النفاق، وهو أن تدمعَ العين، صاحبُه الخشوع، وهو من أقسى الناس قلباً‏.‏
والتاسع‏:‏ البكاء المستعار والمستأجر عليه، كبكاء النائحة بالأجرة، فإنها كما قال عمر بن الخطاب‏:‏ تَبِيعُ عَبْرتَها، وَتَبْكي شَجْوَ غَيرها‏.‏
والعاشر‏:‏ بكاء الموافقة، وهو أن يرى الرجُلُ الناسَ يبكون لأمر ورد عليهم، فيبكي معهم، ولا يدري لأي شيء يبكون، ولكن يراهم يبكون، فيبكي‏.‏
وما كان من ذلك دمعاً بلا صوت، فهو بكى، مقصور، وما كان معه صوت، فهو بكاء، ممدود على بناء الأصوات، وقال الشاعر‏:‏
بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لهَا بُكَاهَا ** وَمَا يُغْنِي الْبكَاءُ وَلاَ الْعَوِيلُ
وما كان منه مستدعىً متكلفاً، فهو التباكي، وهو نوعان‏:‏ محمود، ومذموم، فالمحمود، أن يُستجلَب لِرقة القلب، ولخشية الله، لا للرياء والسُّمعة والمذموم‏:‏ أن يُجتلب لأجل الخلق، وقد قال عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه يبكي هو وأبو بكر في شأن أسارى بدر‏:‏ أخبرني ما يُبكيك يا رسولْ اللّه‏؟‏ فإن وجدتُ بكاءً بكيتُ، وإن لم أجد تباكَيتُ، لبكائكما ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد قال بعض السلف‏:‏ ابكوا مِن خشية الله، فإن لم تبكوا، فتباكوا‏.‏
فصل‏:‏ في هديه صلى الله عليه وسلم في خطبته
خطب صلى الله عليه وسلم على الأرض، وعلى المِنْبَرِ، وعلى البعير، وعلى النَّاقة‏.‏ وكان إذا خطب، احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنَّهُ مُنذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ‏)‏ ويقول‏:‏ ‏(‏بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَة كَهَاتَيْنِ‏)‏ وَيَقْرُنُ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى، وَيَقُولُ‏:‏ ‏(‏أَمّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الحَدِيثِ كِتابُ اللَهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضلاَلَةٌ‏)‏‏.‏
وكان لا يخطُب خُطبة إلا افتتحها بحمد اللّه‏.‏ وأما قولُ كثير من الفقهاء‏:‏ إنه يفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار، وخطبةَ العيدين بالتكبير، فليس معهم فيه سنة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم البتةَ، وسنته تقتضي خلافَه، وهو افتتاحُ جميع الخطب بـ ‏(‏الْحَمْد للَّهِ‏)‏، وهو أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب أحمد، وهو اختيار شيخنا قدَّس اللَّهُ سِرَّه‏.‏
وكان يخطُب قائماً، وفي مراسيل عطاء وغيره أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا صَعِدَ المِنَبرَ أقبل بوجهه على الناس، ثم قال‏:‏ ‏(‏السَّلاَمُ عَلَيْكُم‏)‏ قال الشعبي‏:‏ وكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك وكان يختِم خُطبته بالاستغفار، وكان كثيراً يخطب بالقرآن وفي ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ عن أمِّ هشام بنت حارثة قالت‏:‏ ‏(‏ما أخذتُ ‏{‏ق وَالْقُرآنِ المَجِيدِ‏**‏ ‏[‏ق‏:‏ 1‏]‏، إلا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى المِنْبَرِ إذَا خَطَبَ النَّاسَ‏)‏، وذكر أبو داود عن ابن مسعود أَنَّ رسُول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهَّد قال‏:‏ ‏(‏الحَمْدُ للَهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ، فَلاَ مُضلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ، فلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لاَ إِله إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْحَق بَشِيراً وَنَذِيراً بَيْن يَدَي السَّاعَةِ، مَنْ يُطعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَدْ رشَدَ وَمَنْ يَعْصهِمَا، فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ إِلاَّ نَفْسَهُ، وَلاَ يَضرُّ اللَّهُ شيئاً‏)‏ وقال أبو داود عن يونس أنه سأل ابنَ شهاب عن تشهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يومَ الجمعة، فذكر نحو هذا إلا أنه قال‏:‏ ‏(‏وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى‏)‏‏.‏
قال ابن شهاب‏:‏ وبلغنا أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا خطب‏:‏ ‏(‏كُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَريبٌ، لاَ بُعْدَ لِمَا هُوَ آتٍ، وَلاَ يُعَجِّلُ اللَهُ لِعَجَلَةِ أَحَدٍ، وَلاَ يُخِفُّ لأَمْرِ النَّاسِ، مَا شَاءَ اللَّهُ، لاَ مَا شَاءَ الناسُ، يُرِيدُ اللَّهُ شَيْئاً وَيُريدُ النَّاسُ شَيئاً، مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَلَوْ كَرِهَ النَّاسُ، وَلاَ مُبْعِدَ لِمَا قرَّبَ اللَّهُ، ولاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَعَّدَ اللَّهُ، ولاَ يَكُونُ شَيءٌ إلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ‏)‏‏.‏
وكان مدارُ خُطبه على حمد اللّه، والثناء عليه بآلائه، وأوصافِ كماله ومحامده، وتعليمِ قواعدِ الإِسلام، وذكرِ الجنَّة والنَّار والمعاد، والأمرِ بتقوى اللّه، وتبيينِ موارد غضبه، ومواقعِ رضاه فعلى هذا كان مدار خطبه‏.‏
وكان يقول في خطبه‏:‏ ‏(‏أَيُّهَا النَّاسُ إِنَكُمْ لَنْ تُطِيقُوا - أَوْ لَنْ تَفْعَلُوا -كُلَ مَا أُمِرْتُمْ بهِ، وَلَكِنْ سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا‏)‏‏.‏
وكان يخطُب في كل وقت بما تقتضيه حاجةُ المخاطَبين ومصلحتهم، ولم يَكُنْ يخطب خُطبة إلا افتتحها بحمد الله، ويتشهَّد فيها بكلمتي الشهادة، ويذكر فيها نفسه باسمه العلم‏.‏
وثبت عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ، فَهِيَ كَالْيَدِ الجَذْمَاءِ‏)‏‏.‏
ولم يكن له شاويش يخرُج بين يديه إذا خرج من حُجرته، ولم يكن يَلْبَسُ لِبَاسَ الخطباء اليوم لا طُرحة، ولا زِيقاً وَاسعاً‏.‏
وكان منبرُه ثلاثَ درجات، فإذا استوى عليه، واستقبل الناس، أخذ المؤذن في الأذان فقط، ولم يَقُلْ شيئاً قبلَه ولا بعدَه، فإذا أخذ في الخطبة، لم يرفع أحدٌ صوته بشيء البتة، لا مؤذنٌ ولا غيرُه‏.‏
وكان إذا قام يخطب، أخذ عصاً، فتوكَّأ عليها وهو على المنبر، كذا ذكره عنه أبو داود عن ابن شهاب، وكان الخلفاءُ الثلاثةُ بعده يفعلون ذلك، وكان أحياناً يتوكأْ على قوس، ولم يُحفظ عنه أنه توكأ على سيف، وكثيرٌ من الجهلة يظن أنه كان يُمْسِكُ السيفَ على المنبر إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف، وهذا جهل قبيح من وجهين، أحدهما‏:‏ أن المحفوظَ أنه صلى الله عليه وسلم توكأ على العصا وعلى القوس‏.‏ الثاني‏:‏ أن الدين إنما قام بالوحي، وأمّا السيف، فَلِمَحْقِ أهل الضلال والشرك، ومدينةُ النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب فيها إنما فُتِحَت بالقُرآن، ولم تُفتح بالسيف‏.‏
وكان إذا عرض له في خطبته عارض، اشتغل به، ثم رجع إلى خطبته، وكان يخطُب، فجاء الحسن والحسين يعثُران في قميصين أحمرين، فقطع كلامه، فنزل، فحملهما، ثم عاد إلى منبره، ثم قال‏:‏ ‏(‏صَدَقَ اللَّهُ العَظِيمُ ‏{‏إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ‏**‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 28‏]‏ رَأَيْتُ هذَيْنِ يعثُران في قَمِيصَيْهِمَا، فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ كَلاَمِي فَحَمَلْتُهُمَا‏)‏‏.‏
وَجَاءَ سُلَيْكٌ، الغَطَفَاني وهو يخطُب، فجلس، فقال له‏:‏ ‏(‏قُمْ يَا سُلَيْكُ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْن وَتَجَوَّزْ فِيِهِما‏)‏، ثم قال وهو على المنبر‏:‏ ‏(‏إذَا جَاءَ أَحَدُكمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ والإِمام يَخْطُبُ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا‏)‏‏.‏
وكان يُقصر خطبته أحياناً، ويُطيلها أحياناً بحسب حاجة الناس وكانت خطبتُه العارِضة أطولَ من خطبته الراتِبة‏.‏ وكان يخطُب النِّساء على حِدة في الأعياد، ويحرِّضُهُنَّ على الصدقة، والله أعلم‏.
    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة