بسم الله الرحمن الرحيم
السيد الفاضل أبو البراء..
ليس في ما سلف من الأقوال ما يثبت مس الجن للإنس بالشكل و الهيئة التي نراها اليوم ، فإنا نرى رجالاً ونساءً يصرع أحدهم على الأرض وينتفض جسده وتنقلب عيناه ويخرج زبد كثيف من شدقيه وينطق كلاماً وعبارات مبتورة في غير اتساق .. كل هذا لم نرى القرآن يذكره ولا السنة المطهرة.. أما الآية الكريمة التي سبق ذكرها فهي تحكي حال آكلي الربا يوم القيامة .. وإذا عدنا إلى كتب اللغة والسنة الشريفة .. فلن نجد أنها كلمة تدل على العنف والشدة.. بل هي تناقض هذا تماماً .. فلم تذكر كلمة مس إلا على سبيل التهوين والتبسيط في الأفعال والحركات.. كقوله تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُم ُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ(139) فيخبرهم عز من قائل بأسلوب فيه شيء من المواساة ورفعٌ للهمم أن ما هم فيه ليس بأمر بالغ السوء فقد مس القوم قرح مثله.. وكذلك قوله : (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(12) فالمس في القرآن كناية على التهوين من أمر الشيء ، وهو أخف درجات الإصابة.. كقول بني إسرائيل : (وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً..(79) أي لن تؤذينا غاية الأذى ولن نخلد فيها فإصابتنا بها أقل إصابة.. وقد كذبوا فيما يزعمون..أو كما قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ(38). أما في موطن المدح وذكر المثالب فإن القرآن يستبدل اللفظ هنا بلفظ هو أقوى وأشد تعبيراً
كقوله في سورة آل عمران (الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ(172) ولم يقل من بعد ما مسهم القرح.. وفي سورة هود : (يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) وفي سورة الحج :
(الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)
وفي سورة الشورى:( وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُم الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ {39** وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) فالفارق واضح لكل ذي فهم بين المعاني فيما سبق من آيات.. وفي آية آكلي الربا من سورة البقرة نجد لفظان يتناقضان أيما تناقض ، وهما التخبط والمس.. فإذا علمنا مما سبق أن المس عبارة عن شيء طفيف لا يدل على الشدة ، تجلى لأفهامنا المغزى الحقيقي من هذا التناقض ، فالتخبط كما تقول كتب اللغة هو استمرار عملية الضرب في شتى أنحاء الجسد في غير انتظام بشكل سريع وهذا يدلنا أن كيد الشيطان مهما بلغ فهو ضعيف.. ولن يبلغ من ابن آدم أكثر من ذلك.. أي أن شرَّه مهما اشتد فلن يعدو الوسوسة لابن آدم ، ولا سلطان له غير ذلك (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ(42) سورة الحجر. وفي سورة إبراهيم:
(وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُم فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ ْفَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم..(22 ).