من تفسير سورة الحجرات عند ابن كثير منقول عن موقع سماحة الشيخ عبدالله بن جبرين :
في حقيقة الإسلام والإيمان ذكر الله- تعالى- عن الأعراب يعني البوادي
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ .
هكذا أخبر الله
قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا .
الأعراب- غالبا- أنهم يدخلون في الإسلام من باب الطمع، طمعا في مال أو طمعا في غنيمة أو ما أشبه ذلك؛ ولهذا قال الله تعالى:
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا .
وقال بعد ذلك: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ما لهم قصد إلا أن يأخذوا من المغانم.
إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ .
فدل على أن أكثر قصدهم المغانم ونحوها، ولكن منهم من كان إيمانه قويا كما في قوله تعالى: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ
فمنهم هؤلاء، ومنهم شبه المنافقين.
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ فهؤلاء كأنه وصف أغلبيٌ للأعراب، يعني البوادي أنهم لم يدخل الإيمان في قلوبهم، الإيمان الحقيقي، وإنما أسلموا إسلاما ظاهرا استسلموا، وانقادوا خوفا من القتال، ورغبة في المال؛ ولهذا قال:
قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا أي ما آمنتم إيمانا حقيقيا، وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا .
الإسلام هو في الأصل الانقياد والإذعان، يعني أسلمنا ظاهرا. الإسلام في الأصل أن الإنسان يستسلم لمن يرأسه، ويكون على حالته استسلمنا أسلمنا واستسلمنا وانقدنا دون أن يكون هناك رغبة حقيقة في الإسلام، فهكذا قال: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا .
يعرف أو ورد حديث في بعض الكتب: مثل المؤمن كمثل الجمل الُأنخ إن قيد انقاد وإن أنيخ ولو على صخرة استناخ ولذلك سمي مسلما بمعنى أنه استسلم، وانقاد لما يطلب منه، وهكذا الذين يسلمون خوفا.
تذكرون قول بعض الصحابة:
دعا المصطفى دهـرا بمكة لم يجب
وقـد لان منه جـانب وخطـاب
فلما دعا والسيف سلـطا في كفــه
له أسلمـوا واستسلمـوا وأنابـوا
فالاستسلام هو الإذعان والانقياد، يعني فيفسر الإسلام بأنه الانقياد الظاهر، سواء كان قد وقر الإيمان في القلب، أو لم يقر فيه فيكون هو الأعمال الظاهرة، وفي حديث جبريل المشهور أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لما كان فسر الإسلام والإيمان في حديث واحد، فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، بالأركان الخمسة والإيمان بأعمال القلب، فيدل على أنهما إذا جمعا فإن أحدهما وهو الإسلام يكون بالأعمال المشاهدة، والإيمان يكون بأعمال القلب، ومع ذلك فقد فسر النبي- صلى الله عليه وسلم- الإيمان في حديث عبد القيس الذي رواه البخاري عن ابن عباس قال: آمركم بالإيمان بالله أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم فجعل ذلك تفسيرا للإيمان.
فلذلك قال كثير من العلماء، ومنهم ابن رجب في شرح الأربعين: إذا ذُكر الإسلام وحده دخلت فيه أعمال القلوب، دخل فيه الإيمان، وإذا ذكر الإيمان وحده دخلت فيه أعمال الجوارح، وإذا ذكرا جميعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بأعمال القلب.
ويقول بعضهم في ذلك: إن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.
إذا ذُكر أحدهما دخل فيه الآخر، فيجتمعان أعمال القلب وأعمال البدن، وإذا ذكرا جميعا فإن الإسلام له تفسير والإيمان له تفسير.
ومع ذلك فإنه لا يجوز الجزم لإنسان بأنه مؤمن؛ وذلك لأن الإيمان خفي، في حديث سعد الذي في البخاري يقول: قسم النبي- صلى الله عليه وسلم- مالا فأعطى رجالا وترك رجلا هو أعجبهم إليه فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنا قال: أو مسلم كرر ذلك سعد ثلاث مرات يزكيه بأنه مؤمن، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:
أو مسلما ، يعني لا تجزم بأنه مؤمن، ولكن قل مسلم؛ لأنك لا ترى إلا الأعمال الظاهرة، الحديث.
فهذا فيه دليل على أننا نقول: هذا مسلم، ولا نجزم بأنه مؤمن، لكن إذا عرفنا أنه من أولياء الله وأتقيائه نمدحه بما نعرف منه ونقول أمر عقله وقلبه وضميره إلى الله تعالى.
أخبر الله عن هؤلاء بقوله: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي لم يدخل، ما دخل دخولا حقيقيا فلذلك أنكر عليهم وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ هذا قيل سبب، قيل: إنه يدل على أنهم منافقون لم يكونوا حقا المؤمنين.
لو كانوا كذلك لكان الإيمان قد دخل في قلوبهم؛ وذلك لأن كثير من الأعراب على النفاق لقوله تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ لم يقل والأعراب كلهم، ومنهم وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ .
وقيل: إن الأصل أننا نعامل بالظاهر، فنقول: لا تقل إني مؤمن ولكن قل إني مسلم إلا في ضميرك أنت.
وكذلك- أيضا- نحن لا نقول: هؤلاء مؤمنون، بل نقول إنهم مسلمون على ما نعلم، وأمر قلوبهم إلى الله تعالى.
ثم قال بعد ذلك: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا هذا خطاب لهم- أيضا- أي قل لهم: لم تؤمنوا الإيمان الحقيقي، ولم يدخل الإيمان في قلوبكم، ولكن اعترفوا بأنكم مسلمون، ثم قال لهم: إذا أطعتم الله ورسوله فاعلموا أن أعمالكم لا تضيع وأن الله- تعالى- يعطيكم بقدر ما تستحقون من الأعمال.
لَا يَلِتْكُمْ يعني لا ينقص أعمالكم شيئا فلا يحمل عليكم شيئا من السيئات لم تعملوها، ولا يضيع شيء من أعمالكم الحسنة إلا إذا أبطلتموها، أبطلتموها بما يحبطها كالشرك ونحوه كما في قوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ .
فأما إذا لم يأت ما يبطلها فإنها مدونة فإن الله- تعالى- يجازيكم عليها عاجلا أو آجلا.
لا يلتكم إذا أطعتم الله ورسوله، الطاعة هاهنا لا بد أن تكون طاعة كاملة؛ حتى يثيب الله- تعالى- العبد ويعطيه ما وعده، طاعته في كل دقيق وجليل، وأما الذي يطيع في بعض دون بعض فإنه كالذين قال الله فيهم: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
وبعد ذلك ذكر المؤمنين حقا، ذكروا في هذه الآية وفي آيات غيرها إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ يعني المؤمنون حقا، قال- تعالى- في سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا وقال- تعالى- في سورة السجدة: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ذكر أن هذا كله هم المؤمنون حقا، المؤمنون بآيات الله. فكذلك في هذه الآية المؤمنون حقيقة إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يعني صدقوا تصديقا جازما، كان من آثار التصديق الطاعة.
ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ما وقع في قلوبهم شيء من الريب ولا من الشك ولا من التوقف.
لم يرتابوا وجاهدوا، هذا- أيضا- عمل.
جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فجمع بين الإيمان الذي هو العقيدة وبين الإيمان الذي هو العمل، وبهذا استدل أهل السنة على أن الإيمان تدخل فيه الأعمال، فإن الله أدخل فيه الصلاة وأدخل فيه الزكاة، وأدخل فيه الطاعة الظاهرة، وأدخل فيه قيام الليل، وأدخل فيه الذكر والتسبيح، وأدخل فيه الجهاد، فدل على أن هذه كلها من خصال الإيمان.
ولكم الاستزادة بباقي التفسير تحت الرابط :
http://www.ibn-jebreen.com/book.php?...51&subid=11384