قال تعالى : ** مَّا يُقَالُ لَكَ إلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفرَةٍ
وذُو عِقَابٍ أليم * ولَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ
قُلْ هو لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وشِفاءٌ والَّذِينَ
لَا يُؤْمِنُونَ في آذانِهِمْ وَقْرٌ وهو عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مكانٍ بَعِيدٍ **
سورة فصلت 43 - 44
قال العلّامة السّعدي رحمه الله في تفسيره :
أي : ** مَا يُقَالُ لَكَ ** أيّها الرسول من الأقوال الصادرة ممَّن كذّبك وعاندك
** إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ **
أي : من جنسها،
بل ربّما إنهم تكلّموا بكلام واحد ؛
كتعجبِّ جميع الأمم المكذبة للرُّسل
من دعوتهم إلى الإخلاص لله
وعبادتِه وحدَه لا شريك له،
وردِّهم هذا بكلِّ طريق يقدرون عليه،
وقولهم :
مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ،
واقتراحُهم على رسلهم الآيات
التي لا يلزمُهُم الإتيان بها ...
ونحو ذلك من أقوال أهل التكذيب ؛
لما تشابهت قلوبهم في الكفر ؛
تشابهت أقوالهم،
وصَبَرَ الرُّسلُ عليهم السلام على أذاهم وتكذيبهم ؛
فاصبر كما صبر مَن قبلك .
ثم دعاهم إلى التوبة والإتيان بأسباب المغفرة،
وحذّرهم من الاستمرار على الغَيِّ ،
فقال :
** إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ **
أي : عظيمة
يمحو بها كل ذنب لمن أقلع وتاب
** وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ **
لمن : أصرَّ واستكبر .
** ولَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هو لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وشِفاءٌ والَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ في آذانِهِمْ وَقْرٌ وهو عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ
مكانٍ بَعِيدٍ **
يخبر تعالى عن فضله وكرمه ؛
حيث أنزل كتابَه عربيًّا على الرسول العربيِّ بلسان قومه ليبيّن لهم ،
وهذا مما يوجب لهم زيادةَ الاعتناء به والتلقِّي له والتسليم،
وأنّه لو جعله قرآنا أعجميًّا
بلغة غير العرب ؛
لاعترض المكذِّبون وقالوا :
** لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ **
أي : هلاَّ بُيِّنت آياته ووُضِّحت وفُسِّرت ،
** أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ **
أي : كيف يكون محمّدٌ عربيًّا
والكتاب أعجميّاً ؟!
هذا لا يكون .
فنفى الله تعالى كلَّ أمر يكون فيه شبهةٌ لأهل الباطل عن كتابه،
ووصَفَه بكلِّ وصفٍ يوجب لهم الانقياد، ولكن المؤمنون الموفّقون انتفعوا به
وارتفعوا،
وغيرهم بالعكس من أحوالهم ،
ولهذا قال :
** قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وشِفَاءٌ **
أي : يهديهم لطريق الرشد والصراط المستقيم،
ويعلِّمهم من العلوم النافعة ما به تحصُل الهداية التامَّةُ ،
وشفاءٌ لهم من الأسقام البدنيَّة
والأسقام القلبيّة ، لأنّه يزجر عن مساوئ الأخلاق وأقبح الأعمال ،
ويحث على التوبة النّصوح
التي تغسل الذّنوب وتشفي القلب .
** والَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ** : بالقرآن
** في آذَانِهِمْ وَقْرٌ **
أي : صممٌ عن استماعه وإعراض،
** وهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ** ؛
أي : لا يبصرون به رشدًا،
ولا يهتدون به ،
ولا يزيدهم إلاّ ضلالاً ؛
فإنّهم إذا ردُّوا الحَقَّ ،
ازدادوا عمىً إلى عماهم
وغيًّا إلى غيَّهم .
** أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ **
أي : يُنادَون إلى الإيمان
ويُدعَوْن إليه فلا يستجيبون ؛
بمنزلة الذي ينادَى وهو في مكان بعيد،
لا يسمع داعيًا ولا يجيب مناديًا .
والمقصود أنّ الذين لا يؤمنون بالقرآن
لا ينتفعون بهُداه ولا يبصرون بنورِه
ولا يستفيدون منه خيرًا ؛
لأنّهم سدُّوا على أنفسهم أبواب الهدى بإعراضهم وكفرهم . اهـ