قال الحافظ السّيوطيّ رحمه الله :
" قال الجاحظ : بعث اللهُ محمداً صلى الله عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا ،
وأحكمَ ما كانت لغةً ،
وأشدَّ ما كانت عُدّة ،
فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته ،
فدعاهم بالحجّة فلما قطع العذر ، وأزال الشبهة ،
وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية ، دون الجهل والحيرة ، حملهم على حظهم بالسيف ،
فنصب لهم الحرب ، ونصبوا له ، وقَتل من عِليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم ،
وهو في ذلك يحتجُّ عليهم بالقرآن ، ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذبا بسورة واحدة ، أو بآيات يسيرة .
فكلّما ازداد تحدِّياً لهم بها ،
وتقريعا لعجزهم عنها تَكشَّف من نقصهم ما كان مستورا ،
وظهر منه ما كان خفيّا ،
فحين لم يجدوا حيلة ولا حجّة
قالوا له :
أنت تعرف من أخبار الأمم
ما لا نعرف ،
فلذلك يمكنك ما لا يمكننا .
قال :
فهاتوها مفتريات ،
فلم يَرُم ذلك خطيب ،
ولا طمع فيه شاعر ،
ولو طمع فيه لتكلَّفه ،
ولو تكلّفه لظهر ذلك
ولو ظهر لوجد مَن يستجيده ويحامي عليه ويكايد فيه ،
ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض .
فدلَّ ذلك العاقل على عجز القوم
مع كثرة كلامهم ،
واستحالة لغتِهم ،
وسهولة ذلك عليهم ،
وكثرة شعرائهم ،
وكثرة مَن هجاه منهم ،
وعارض شعراء أصحابه ،
وخطباء أُمّته ،
لأن سورة واحدة وآيات يسيرة
كانت أنقض لقوله ، وأفسد لأمره ، وأبلغ في تكذيبه وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس ،
والخروج من الأوطان ،
وإنفاق الأموال .
وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على مَن هو دون قريش ،
والعرب في الرأي والعقل بطبقات ، ولهم القصيد العجيب ،
والرجز الفاخر ،
والخُطَب الطِّوال البليغة ،
والقِصار الموجزة ،
ولهم الأسجاع والمزدَوج ،
واللّفظ المنثور .
ثُمّ يتحدّى به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم ، فمحال - أكرمك الله -
أن يجتمع هؤلاء كلُّهم على الغلط
في الأمر الظاهر ،
والخطأ المكشوف البيّن ،
مع التقريع بالنقص ،
والتوقيف على العجز ،
وهم أشدُّ الخلق أَنَفةً ،
وأكثرهم مفاخرة ،
والكلام سيِّد عملهم ،
وقد احتاجوا إليه
والحاجة تبعث على الحيلة في
الأمر الغامض ، فكيف بالظاهر !
وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثا وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة ،
فكذلك محال أن يتركوه ،
وهم يعرفونه ، ويجدون السبيل إليه وهم يبذلون أكثر منه ! " انتهى .
الإتقان في علوم القرآن
( 2 / 1004 - 1005 )
ط : دار ابن كثير .