قال شيخ الإسلام رحمه الله :
" وكل ما ذكره النّاس من الوجوه في إعجاز القرآن ،
هو حُجّة على إعجازه ،
ولا تناقض في ذلك ،
بل كل قوم تنبَّهوا لما تنبَّهوا له .
ومِن أضعف الأقوال ،
قول مَن يقول مِن أهل الكلام :
[ وهذا القول منقول عن جماعة من المعتزلة .
انظر : " الملل والنحل " للشهرستاني
( 1 / 92 - 93 ) ] .
إنَّهُ معجز :
أ - بصرف الدواعي مع تمام الموجب لها .
ب - أو بسلب القدرة التامَّة .
ج - أو بسلبهم القدرة المعتادة في مثله سلباً عامّاً ...
وهو : أن الله صرف قلوب الأُمم عن معارضته مع قيام المقتضي التام ؛
فإن هذا يقال على سبيل التقدير والتنزيل ،
وهو أنه إذا قُدّر أن هذا الكلام يقدر النّاس على الإتيان بمثله !
فامتناعهم جميعهم عن هذه المعارضة مع قيام الدواعي العظيمة إلى المعارضة من أبلغ الآيات الخارقة للعادات ،
بمنزلة مَن يقول : إنِّي آخذ أموال جميع
أهل هذا البلد العظيم ،
وأضربهم جميعهم ، وأُجَوِّعهم ،
وهُمْ قادرون على أن يشكوا إلى الله ،
أو إلى ولي الأمر ،
وليس فيهم مع ذلك مَن يشتكي ؛
فهذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة .
ولَوْ قُدِّر أن واحدا صنَّف كِتاباً يقدر أمثالُه
على تصنيف مثله ،
أو قال شعراً يقدر أمثاله أن يقولوا مثله ،
وتحدّاهم كلهم ؛ فَقالَ : عارضوني ،
وإن لم تعارضوني فأنتم كفار ،
مأواكم النار ، ودماؤكم لي حلال ،
امتنع في العادة أن لا يعارضه أَحدٌ ؛
فإذا لم يعارضوه كان هذا من أبلغ العجائب
الخارقة للعادة .
والذي جاء بالقرآن ، قال للخلق كلهم :
أنا رسول الله إليكم جميعا ،
ومَنْ آمن بي دخل الجنة ،
ومَنْ لم يؤمن بي دخل النار ... ،
ومِنْ آياتي هذا القرآن ؛
فإنه لا يقدر أَحدٌ على أن يأتي بمثله ،
وأنا أخبركم أن أحداً لا يأتي بمثله .
فيقال : لا يخلو إمّا أن يكون النّاس قادرين
على المعارضة ، أو عاجزين !!
فإن كانُوا قادرين ولم يعارضوه ،
بل صرف الله دواعيَ قلوبهم ، ومنعها أن
تريد معارضته مع هذا التحدّي العظيم ،
أو سلبهم القدرة التي كانت فيهم قبل تحدّيه ؛
فإن سلب القدرة المعتادة أن
يقول رجل : معجزتي أنكم كلكم لا يقدر
أحد منكم على الكلام ، ولا على الأكل ،
والشرب ، فإن المنع من العتاد
كإحداث غير المعتاد ؛
فهذا من أبلغ الخوارق .
وإن كانُوا عاجزين ثَبت أنه خارق للعادة ؛
فثبت كونه خارقاً على تقدير النقيضين :
النّفيَ والإثبات ؛ فثبت أنه من العجائب الناقضة للعادة في نفس الأمر .
فهذا غاية التنزُّل ، وإلا فالصّواب المقطوع به أن الخلق كلهم عاجزون عن معارضته :
1 - لا يقدرون على ذلك ، ولا يقدر محمد
صلَّى الله عليه وسلم نفسه من تلقاء نفسه على أن يبدِّل سورة من القرآن ،
بل يظهر الفرق بين القرآن وبين سائر كلامِه ، لكل مَن له أدنى تدبُّر ؛
كما قد أخبر الله به في قولِه :
** قل لّئنِ اجتمعت الإنس والجنّ على أن
يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله
ولَوْ كان بعضهم لبعض ظهيرا (88) **
[ سورة الإسراء ] .
2 - وأيضاً فالناس يجدون دواعيهم إلى المعارضة حاصلة ، لكنهم يحسون من أنفسهم العجز عن المعارضة ؛
ولَوْ كانُوا قادرين لعارضوه .
3 - وقد انتدب غيرُ واحِدٍ لمعارضته ،
[ ومنهم : مسيلمة الكذاب ،
والنضر بن الحارث ، قال الماوردي في
" أعلام النبوّة " ( ص 76 ) :
« وكان من فصحاء قريش عارض القرآن
فَقالَ : والزارعات زرعا ،
والحاصدات حصدا ، والطاحنات طحنا ،
والعاجنات عجنا ، والخابزات خبزا ،
فاللاقمات لقما » .
وانظر " الرد على الجهميَّة "
للدارمي ( ص 210 ) ] .
لكن جاء بكلام فضح به نفسَه ،
وظهر به تحقيق ما أخبر به القرآن من عجز
الخلق عن الإتيان بمثله .
مثل قرآن مسيلمة الكذاب ؛ كقوله :
يا ضفدع بنت ضفدعين ،
نِقِّي كم تَنِقِّين ، لا الماء تدركين ،
ولا الشارب تمنعين ، رأسك في الماء ،
وذَنَبك في الطِّين .
4 - وكذلك أيضا يعرفون أنه يختلف حال قدرتهم
قبل سماعه وبعد سماعه .
فلا يجدون أنفسهم عاجزين عمّا كانُوا قادرين عليه ، كما وجد زكريا عليه السلام
عجزه عن الكلام بعد قدرته عليه ...
5 - وليس في العلوم المعتادة أن يعلم الإنسان أن جميع الخلق لا يقدرون
أن يأتوا بمثل كلامه إلَّا إذا علم العالم
أنه خارج عن قدرة البشر .
والعلم بهذا يستلزم كونه معجزاً ،
فإنا نعلم ذلك ،
وإن لم يكن علمنا بذلك خارقاً للعادة ،
ولكن يلزم من العلم ثبوت المعلوم ؛
وإلاّ كان العلم جهلاً ؛
فثبت أنه على كل تقدير يستلزم كونه
خارقاً للعادة " .
[الجواب الصّحيح ( 5 / 429 - 433 )]
_ نقلته من كتاب :
إمتاع ذوي العرفان ...
جَمْع وتحقيق الشيخ عبيد الجابري
و د. محمد هشام طاهري
تقديم أ. د. محمد الخُميّس حفظهم الله
( ص 577 - 579 ) .