ومن أعظم وجوه إعجازه تحديه :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" والقرآن يظهر كونه آية وبرهاناً له
صلَّى الله عليه وسلم من وجوه :
جملة ، وتفصيلاً .
أما الجملة : فإنه قد علمتْ الخاصّةُ
والعامّة من عامّة الأُمم ، علماً متواترا
أنه هو الذي أتى بهذا القرآن ،
وتواترت بذلك الأخبار ، أعظم من تواترها
بخبر كل أحد من الأنبياء والملوك والفلاسفة
وغيرهم .
والقرآن نفسه فيه تحدِّي الأمم بالمعارضة .
فطلب منهم أن يأتوا بعشر سُوَر مثله مفتريات ،
هُمْ وكلّ مَن استطاعوا من دون الله ،
ثم تحدّاهم بسورة واحدة ،
هُمْ ومَن استطاعوا ...
وهذا التحدِّي كان بِمَكَّة ، فإن هذه السُّور
مكِّيَّةٌ : سورة يونس ، هود ، والطور ،
ثم أعاد التحدّي في المدينة بعد الهجرة .
فَقالَ في البقرة ، وهي سورة مدنيّة :
** وإن كنتم في ريب مّمّا نزّلنا على عبدنا فأْتُوا بسورة مّن مّثله وادْعُوا شهداءكم مّن دون الله إن كنتم صادِقينَ (23) ** ،
ثم قال :
** فإن لّم تفعلوا ولن تفعلوا فاتَّقُوا النّار الّتي وَقودها النّاس والحجارة ** .
فذكر أمرين :
أحدُهما : قوله : ** فإن لّم تفعلوا ولن تفعلوا فاتَّقُوا النّار ** ، يقول : إذا لم تفعلوا ،
فقد علمتم أنه حق ،
فخافوا الله أن تكذبوه ،
فيحيق بكم العذاب ،
الذي وعد به المكذبين ،
وهذا دعاء إلى سبيل ربِّه بالموعظة الحسنة ،
بعد أن دعاهم بالحكمة ،
وهو جدالهم بالتي هي أحسن .
والثاني : قوله : ** ولن تفعلوا ** ،
و « لن » لنفي المستقبل ،
فثبت الخبر أنهم فيما يستقبل من الزمان ،
لا يأتون بسورة من مثله ،
كما أخبر قبل ذلك .
وهذا التحدِّي والدُّعاء هو لجميع الخلق ،
وهذا قد سمعه كل من سمع القرآن ،
وعرفه الخاصُّ والعامُّ ،
وعلم مع ذلك أنهم لم يعارضوه ،
ولا أتوا بسورة مثله ،
ومِن حين بُعثَ وإلى اليوم ،
والأمر على ذلك .
مع ما عُلِمَ مِن أن الخلق كلهم كانُوا كفارا قبل أن يُبعث ، ولـمّا بُعث إنما تبعه قليل ،
وكان الكُفّار من أحرص الناس على إبطال قوله ، مجتهدين بكل طريق يمكن ...
فإذا كان قد تحدّاهم بالمعارضة ،
مَرَّة بعد مرّة ، وهي تبطل دعوته ،
فمعلوم أنهم لو كانُوا قادرين عليها لفعلوها ، فإنه مع وجود هذا الداعي التام المؤكد إذا كانت القدرة حاصلة ،
وجب وجود المقدور ، ثم هكذا القول في سائر أهل الأرض .
فهذا القدر يُوجِب علما بيِّناً لكل أحد بعجز جميع أهل الأرض عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، بحيلة وبغير حيلة ، وهذا أبلغ من الآيات التي يكرر جنسها كإحياء الموتى ،
فإن هذا لم يأتِ أَحدٌ بنظيره " .
[الجواب الصّحيح ( 5 / 422 - 428 )]
_ نقلته من كتاب :
إمتاع ذوي العرفان ...
جَمْع وتحقيق الشيخ عبيد الجابري
و د. محمد هشام طاهري
تقديم أ. د. محمد الخُميّس حفظهم الله
( ص 573 - 575 ) .
بإختصار شديد .